المرأة ميراث من القهر.. حين يرفع النقد الحرج عن الإنسان ويحمل عبء التحدث بلسانه

amany foad
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

دينا الحمامي

في كتابها الهام الصادر عن الدار المصرية اللبنانية بعنوان (المرأة ميراث من القهر)، تجاوزت الكاتبة والناقدة الدكتورة أماني فؤاد المساحات المحدودة من التنظير النسوي الشرقي، الذي يركز عادةً على سرديات المظلومية التي تقابلها المرأة في مجتمعاتنا العربية، من دون تقديم رؤى حقيقية أو جادة من شأنها تحريك المياه الراكدة في قضايا مسكوت عنها، لمجرد أنها تخص النساء العربيات، مما يفاقم من حساسيتها ويجعل طرحها للنقاش الحقيقي والفاعل أمرًا شائكًا وشجاعًا.

تناول الكتاب التأويلات المتطرفة للأديان السماوية تحديدًا، والتي رسخت المزيد من الممارسات الذكورية للرجال، مما انعكس على المرأة وجلب لها تهميشًا فوق تهميشها المعتاد في البيئات التي لا تسمح للأنثى بالازدهار أو التطور. وتطرّق الكتاب إلى الفلسفات الأولى التي شاركت في إعلاء قيمة الرجل في مقابل التقليل من شأن المرأة، إلى حد السخرية منها علنًا كما في كتابات نيتشه. وناقشت موضوعات الكتاب أيضًا هيمنة الرجال لعقود طويلة على فناء العلم والبحث العلمي، مما أثّر ـ ولمدد ليست بالهينة ـ على نسبة النساء العاملات في هذا المجال، وقدرتهن على مواكبة أحدث ما وصل إليه المجال العلمي.

تناولت المفكرة المصرية الدكتورة نوال السعداوي في الكثير من لقاءاتها وحواراتها الصحفية والتلفزيونية خطورة النظام الذكوري الأبوي، وقصور وجهات النظر التي تتعامل مع الشرف حصرًا فيما يتعلق بأجساد النساء. أضافت الدكتورة أماني فؤاد في الكتاب الذي نحن بصدده أن الرجل وقع في فخ هذا الخطاب الذكوري المريض، وعندما لم يحصل على كامل حقوقه في المجال العام وتلبية كافة الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية الكريمة، لم يجد سوى الكائن الأضعف منه في سلسلة القهر الاجتماعي ليفرغ كل مخزونه من الكبت فيه. وهكذا لم تمكنه هذه الرؤية البائسة لمفهوم الشرف من تفسيره بشكل صحيح يتعلق بضرورة التعقل وكبح جماح الغضب واحترام العهود، وغيرها من مبادئ شريفة يجب التحلي بها قبل الاهتمام بأجساد النساء.

ولأن المرأة العربية بشكل عام لم تتدرّب على معرفة حقوقها كي تطالب بها، جاء دور النساء اللاتي وُفّقن في التعليم وكافحن للحصول على قدر عالٍ من الثقافة والتعلم الذاتي، وأصبح لديهن من الشجاعة ما يمكنهن من التحدث بلسان جموع النساء اللائي يرزحن تحت نير الخوف من البوح والتعبير ومشاركة آلامهن. فجاء هذا الكتاب كنبراس وميثاق حقيقي يمكن الرجوع إليه فيما يخص كل الإشكاليات التي تواجهها المرأة العربية، فيلقي الضوء على أن الثقافة الموروثة ـ وحتى الحالية في أوطاننا ـ لم تفرّق بين المرأة كإنسان مستقل بذاته، وليس كملكية للرجل. وبالتالي يجب ألا تكون هناك سلطة على جسد النساء إلا النساء أنفسهن.

كما ركّز أحد فصول الكتاب على أن عدم الفصل بين المرأة ككيان مستقل، والنظر إليها كجسد ينبع منه الشرور، هو الخطاب الذي كرّس بالتبعية المزيد من الدوغمائية والعشوائية في قضايا مثل الاغتصاب والتحرش والختان، مما جعل صورة بعض الرجال في الذهنية العامة كالثيران التي لا تتحكم في غرائزها، والسبب دائمًا معروف: وهو المرأة.

ركز الكتاب ـ وبشكل مفصل ـ على النتائج التي ترتبت على التكريس للهيمنة الذكورية، ويُعد من أبرز تجلياتها تدجين فكر المرأة، ورضائيتها واستسلامها واقتناعها بالهيمنة الذكورية عليها من رجال قد يكونون أقلّ منها علمًا وقيمة. وانعكس هذا الفكر على شتى مناحي حياة المرأة بدءًا من عدم وجوب سفرها دون محرم، ثم في مرحلة أكثر بؤسًا وتعقيدًا التمهيد لفكرة أنها غير صالحة للقيادة والإمامة، والأخطر هو رضا قطاع كبير من النساء العربيات بمثل هذه الأفكار المدمرة والمدجّنة التي شيطنت المرأة، وجعلتها ملكية حصرية للزوج، ومثارًا للاستهانة العلنية، وصل إلى طرح التساؤل الشهير والمهين في العديد من الوسائل الإعلامية: هل المرأة إنسان؟

واصلت الدكتورة أماني خطابها الشجاع والجاد عندما شددت على ضرورة توعية المرأة بخطورة الخطابات المضللة التي تمس صلب شخصيتها، مثل عدم الانسياق خلف فتاوى حرمانية قيادة السيارات، وتصوير الوجه، ورؤية الخطيب قبل عقد القران، لأن مثل هذه الخطابات قد كرّست ـ جنبًا إلى جنب مع الذكورية الأصولية الفقهية ـ إنشاء أجيال من النساء القانعات بأن شهادتهن نصف شهادة، وديتهن نصف دية، وبأنهن ضعيفات بيولوجيًا وبحاجة دائمة إلى رجل يعول ويحمي، متحولات إلى تابعات اقتصاديًا وماديًا واجتماعيًا. كما أوضحت الكاتبة أن القراءات المشوّهة للنص المقدس قد مهدت لتجريد المرأة من قيمتها الروحية والفكرية، فقد شحّت الخبرات لديها ولم تتمتع بالتراكم التجريبي والمعرفي النابع عن التعايش مع المجتمع، مما أضرّ بالرجل والمرأة معًا. فالرجل الذي يرى المرأة ناقصة عقل ودين ستكون عقليته معطلة لا تنتج إلا امرأة تؤمن بالهلاوس والخرافات، وبالمثل لم تأتِ هذه الثقافة التدجينية إلا بنماذج من النساء لا يُباعن ويُشترين صراحة بالنقود، ولكن كل ما يندرج تحت مسمى ثقافة الجواري معمول به في حياتهن.

تحاول الدكتورة أماني في أطروحاتها إيجاد رؤى متوازنة يمكنها خلق بيئة صحية للنقاش الحقيقي والمثمر، فلا تغفل دور الفن الذي يجب أن يكون مسؤولًا وواعيًا ويتحمل دوره المنشود لتفعيل دور المرأة واستعراض أهمية وجودها في الحياة العامة عبر نماذج واقعية تنأى بالنساء عن الصورة الاستهلاكية النمطية في الدراما التلفزيونية خلال العقد الأخير.

ولأن الرجل ضحية هذا الفكر التراكمي، فهو أصبح في موضع مسؤولية تحتم عليه إدراك ضرورة استقلال المرأة المادي، وأهمية وجوده كداعم لتحققها وكشريك متفهم يوفر الأمان ويبعد الخوف. وفي خطتها العلاجية للنهوض بأوضاع المرأة العربية، اقترحت الدكتورة أماني أن يقوم الإعلام بالعمل على تأهيل المرأة والانتصار لها، وصياغة رأي عام مستنير لتغيير الثقافة المجتمعية السائدة، خاصة بعد أن ظلت المرأة ـ لقرون ـ في السردية الكبرى للمجتمع تُصدر ككائن ملعون، وسبب للشقاء، وناقصة عقل، ورمز للتردد والتشتيت. فدور الإعلام ـ وفقًا للكاتبة ـ يجب أن يكون موجهًا للأولاد والفتيات لتنشئتهم على صحيح الأخلاق، كي لا تكون البنت كبشًا للفداء في قضايا الشرف وغيرها.

الأمر الذي فتح باب العوار القانوني في الكثير من القضايا، فمثلًا تُعدم المرأة عندما تقتل زوجًا خائنًا، في حين يُبرَّأ هو تحت مزاعم حماية الشرف إذا حدث العكس. كما أشارت الكاتبة إلى أن جهل المرأة بحقوقها القانونية والاجتماعية جعلها تتبنى الخطاب السلفي السائد وتدافع عن التعدد. وصولًا إلى الطلاق، تمكّن القوانين الزوج من اتخاذ القرار بشكل منفرد حتى لو على حساب رغبة المرأة، بينما على المرأة التنازل عن جميع حقوقها إذا أرادت الانفصال.

تناول المبحث الأخير للكتاب ظاهرة الكاتبات المنتقبات، كونها تحمل موقفًا أيديولوجيًا محددًا ومسبقًا، ولا تتجاوز مساحات فكرية وأطرًا سياسية مصمتة لا يستطعن أو يجرؤن على تجاوزها. وتطرّق الشق الثاني من المبحث ذاته إلى صورة المرأة في الأدب المحفوظي بتناول محايد ومغاير للأطروحات النقدية التي تناولت أدب نجيب محفوظ من قبل، إذ تمنّت المؤلفة لو جاءت المرأة بشكل يتجاوز كونها ردّة فعل أو مكمّلًا للسياق العام. إذ إن أديبًا مقروءًا بشكل كبير مثل نجيب محفوظ كان باستطاعته رسم شخصيات نسائية فاعلة ورائدة وطامحة وحالمة. فعلى غزارة إنتاج أديب نوبل، إلا أن شخصياته النسائية التي يمكن أن يُطلق عليها امرأة واعية بضرورة استقلاليتها لم تتجاوز عدد أصابع الكف الواحدة، إلا أنها شخصيات مؤثرة وملهمة، وأبرزهن زهيرة في الحرافيش وسمارة بهجت في ثرثرة فوق النيل.

مقالات من نفس القسم