المرأة ذات المعطف الكاكي

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أشرف الصباغ

“اتحاد خضرة المحشي” مبنى تاريخي- أثري فخم بأحد أشهر وأهم شوارع منطقة الزمالك الأرستقراطية التي تسكن بها الشريحة العليا من الطبقة الوسطى. كان أحد الڤلل المملوكة ربما لأحد باشوات ما قبل ثورة 1952. وربما كان مبنى ملحقا بأحد القصور. وبمجيء الثورة بنوا تحته مسجدا لكي يتحد العلم مع الإيمان مثلما اتحدت الاشتراكية مع الإسلام.

اسم المبنى ووظيفته لا علاقة مباشرة لهما لا بالمحشي ولا بخضرة المحشي، ولا حتى بأي من مكونات هذه الأكلة المصرية الفخمة التي يسن لها المصريون أسنانهم ويجوِّدون في صناعتها من حيث الخبرة والمهنية والتنويع على أصناف مختلفة من الخضروات مثل الكرنب والباذنجان بألوانه وأحجامه المختلفة والكوسة، إضافة إلى مكونات الخلطة من شبت وبقدونس وما أنعم الله به من خيرات على البشر الساجدين الراكعين وغيرهم، وبما جادت به الطبيعة من كرمها وفيئها على البشر العابرين والسابحين والمترجلين. المبنى ببساطة مرتبط بتسمية أخرى عجيبة يعمل أصحابها بالكتابة. ولذلك أطلقوا على المبنى “اتحاد الكتاب”. وظل سنوات وعقود طويلة بهذا الاسم العجيب كتقليد يشبه تقاليد الاتحاد السوفيتي الذي زاوجنا من أجله بين الاشتراكية والإسلام فأنجب هذا المسخ مسخا جديدا اسمه العلم والإيمان. وبعد ذلك أضافوا كلمة نقابة ليصبح الاسم الرسمي “نقابة اتحاد الكتاب” التي تضم موظفين غريبي الأطوار يتحركون ويلفون ويدورون حول أنفسهم مثل شخصيات الكاتب الروسي فيدور دوستويفسكي في الأقبية والخرابات والأماكن المهجورة: تلك الكائنات الدوستويفسكية التي تعاني من الأمراض والغرائب والضلالات وتتحرك بطريقة معينة في أقبية منخفضة الأسقف وسيئة الإضاءة والتهوية، وربما السمعة أيضا. ومع ذلك لم تتغير طبيعة الاتحاد بعد أن أصبح نقابة، حيث ظل متمسكا بجوهره وكينونته الأصلية كمكان له علاقة بخضرة المحشي.

ألقت بي الظروف الخاصة باستلام كارنيه عضوية هذا الاتحاد، الذي أصبح نقابة، بين فكي هذا المبنى العجيب الذي تحول مع الزمن إلى مجرد طابق تحت أرضي يخجل الموظفون من تسميته بـ “البدروم” أو “القبو” الغارق في إضاءة خافتة ومرعبة تذكرنا ببيوت الأشباح في أفلام الرعب الأمريكية، وبالأقبية التي كان مكسيم جوركي يقوم بتصويرها في قصصه ورواياته من أجل حث البشر على النهوض من أجل تغيير حياتهم ومستقبلهم، ودفعهم للاحتجاج والثورة ضد احتقار الإنسان ودفنه حيا في أقبية أقرب إلى القبور. وكان الطابق الأرضي يرتفع عن الأرض بحوالي عشر درجات من سلم رخامي فخم واسع يطل مباشرة على شارع حسن صبري الذي يتحول بقدرة قادر بمجرد عبور شارع 26 يوليو إلى شارع البرازيل. بمجرد ارتقاء هذه الدرجات العشر وفي مواجهة المدخل تماما، يجلس رجل أمن، غالبا في سن الشباب، متكاسلا ومشغولا بشيء ما على الدوام. ولكن بمجرد دخول أي شخص، يدب فيه النشاط وتتحول ملامحه إلى كتلة من الإحساس بالأهمية والخطر وأداء دور قومي- وطني مزدوج، فيسأل عن هدف الزيارة، ثم يتأكد من بطاقة العضوية. وأحيانا يوجه بعض الأسئلة الإضافية من قبيل “مَنْ تريد” أو “ماذا تريد”، أو يقطع عليك الطريق بمعلومات لم تطلبها منه أو تسأله عنها من قبيل “الأستاذ عبد الفتاح مجاش” أو “الآنسة عواطف بتولد” أو “الكارنيهات ماجتش من أسبانيا” أو “الأستاذ فخري عنده برد”. كانت كل تلك التفاصيل تضايق أعضاء اتحاد خضرة المحشي، الذي أصبح نقابة لخضرة المحشي، وتشعرهم بعدم أهميتهم أو في أحسن الأحوال بضآلتهم أمام شخص دخيل على مهنة الكتاية جاء ليعمل فرد أمن لحماية المبنى والأعضاء، وربما الوطن أيضا. فكيف يمكن أن يحيا الوطن ويستمر من دون مبنى كهذا، ومن دون اتحاد ونقابة، ومن دون أعضاء من الكتاب الشغوفين بالكتابة يفنون فيها أعمارهم وزهرة شبابهم. ولكن مثل هذا الإجراء الأمني كان قد تم استحداثه مع إجراءات كثيرة، من ضمنها كما قلنا إضافة كلمة “نقابة” ليصبح الاتحاد مثل نقابة التجاريين ونقابة عمال البناء ونقابة الصيادلة ونقابة الزبالين ونقابة الأطباء ونقابة المقرئين والدعاة ونقابة الفلاحين ونقابة العمال ونقابة عمال الكنافة والكسكسي. ومن ثم يكتسب حيثية تضيف بعض الأهمية إلى الكُتَّاب، وتضفي عليهم رونقا وبهاء بصرف النظر عما يكتبونه، وبصرف النظر عما إذا كانوا يكتبون أصلا.

في هذا اليوم دخلتُ إلى مبنى اتحاد خضرة المحشي، وأبرزتُ كارنيه الاتحاد القديم الذي يجب استبداله بالجديد، وأخبرت رجل الأمن الشاب الذي تبدو عليه علامات الأهمية والمهابة وكأنه يحرس البوابتين الشرقية والغربية للوطن في آن واحد، أو ربما كان يعتقد أنه الحارس الشخصي للرئيس. والمقصود هنا رئيس اتحاد خضرة المحشي وليس رئيس الدولة، لأن الحرس الخاص برئيس الدولة يجب أن يتحلى بصفات شخصية وجسمانية وعقلية خاصة جدا ويتميز بسمات متفردة من حيث الذكاء ومن حيث القدرة على السباحة والطيران واستخدام الأسلحة المختلفة وقيادة الطائرات والغواصات النووية وسفن الفضاء، والأهم من كل ذلك أن يلبس على الدوام نظارة سوداء.

كان الطابق الأرضي يضم العديد من الغرف، واحدة منها لنائب رئيس اتحاد خضرة المحشي، الذي أصبح نقابة، وهي أقل فخامة قليلا من غرفة الرئيس في الطابق الأعلى. والمقصود هنا هو رئيس اتحاد خضرة المحشي وليس رئيس الجمهورية، لأن الأخير عادة ما يسكن ويعيش ويعمل في قصر رئاسي أو في عدة قصور رئاسية مليئة بالغرف والمكاتب والحراس والأوراق والأقلام والكمبيوترات والمساعدين والخدم والحشم، وربما بالكاميرات والأسلحة والوسائل الخفية التي تكشف المؤامرات الداخلية والخارجية وتحمي الرئيس وتحافظ على حياض الوطن. وكانت هناك غرفة للمسؤول المالي، وبعض الغرف الأخرى للسكرتيرات الحسناوات، وللسعاة الذين يقومون بعدة وظائف مثل التنظيف وعمل الشاي والقهوة وشراء ساندوتشات الفول والفلافل والباذنجان للرئيس ولنائب الرئيس وبقية الموظفين الذين يعملون في القبو السفلي، ومعهم موظف جديد برتبة لواء يقوم بالإشراف على بعض الأمور من أجل ضبط العمل وإشاعة الانضباط في صفوف ليس فقط الموظفين والعمال في اتحاد خضرة المحشي، الذي أصبح نقابة، بل وأيضا في صفوف الكتاب والكاتبات والحفاظ على نظافة ورقي وصفاء مهنة الكتابة وقدسيتها وسموها. وكانت الغرفة الأكبر تقع في الطابق الأول الذي يعلو الطابق الأرضي. وكانت مخصصة لرئيس اتحاد خضرة المحشي، الذي أصبح نقابة، وضيوفه من الساسة وكبار الكتاب والمفكرين المقربين منه ومن عقول الدولة المجيدة. بل وأحيانا كان يستقبل بها نظراءه من الدول الأخرى ويُجري خلف أبوابها الموصدة المباحثات والمفاوضات من أجل الرقي بمهنة الكتابة المقدسة، ومن أجل رفعة ورونق وبهاء الكتاب والكاتبات. وأيضا من أجل الاتفاق على بيانات التأييد لرؤساء الأمة وزعمائها وملوكها وشيوخها وأمرائها، وشجب المؤامرات الخارجية التي يقوم بها أعداء الأمة ودولها المجيدة، وتعرض أمن الوطن وحياة الزعماء للخطر.

استقبلني نائب الرئيس والمسؤول المالي بعد أن أنهيت كل تفاصيل إجراءات الأمان مع موظف الأمن. كان كل منهما يزاملني في مرحلة سابقة من مراحل حياتي ربما في فترة ما بعد التخرج من الجامعة، حيث التقيتهما بالصدفة في أحد المراكز الثقافية التابعة لأحد المساجد الذي كان يضم أيضا مستوصفا ودارا لتحفيظ القرآن ومبنى صغيرا للدروس الخصوصية وتوزيع المصاحف على براعم الأمة. كانت هذه المراكز والمساجد ودور تحفيظ القرآن متناثرة كالفطر في جميع أنحاء مصر في حقبة الثمانينيات من القرن العشرين، وبالذات في الأحياء الشعبية والقرى والنجوع. لا أذكر بالضبط ماذا كنت أفعل في ذاك اليوم البعيد، فتعرفت إليهما، ونشأت بيننا علاقة طيبة واهتمام مشترك بالثقافة وتشاركنا في لقاءات ثقافية وندوات لإلقاء الشعر وقراءة القصص ومناقشة الأوضاع الثقافية. وبعد عام أو اثنين خفتت حماستنا، وانصرفتُ أنا إلى مقاهي وبارات وسط القاهرة وانخرطتُ في نشاطات ثقافية أخرى ذات طبيعة تختلف قليلا عن طبيعة الثقافة التي يتم تداولها في الوحدات الاجتماعية التي تضم المساجد والعيادات الطبية وفصول تحفيظ القرآن وقاعات عقد القران المزينة بآيات الذكر الحكيم، بينما فضَّل الزميلان البقاء مع القواعد الشعبية وفي قلب الكتلة الصلبة للوطن العظيم، وتمسَّكا بالتزامهما بالعهد وحرصهما على تنشئة براعم الأمة في ظل دولة العلم والإيمان والالتزام الأخلاقي والانضباط الثقافي والفكري.

جلسنا نتحدث بشوق واشتياق وشغف. ضغط نائب الرئيس على ذر أحمر فوق مكتبه. وبعد قليل جاء أحد السعاة فأمره السيد نائب الرئيس بأن يأتينا بثلاثة أكواب من الشاي، ثم يأتينا بعد ساعة بثلاثة فناجين من القهوة، وألا ينسى المياه المعدنية. فأضاف المسؤول المالي موجها حديثه للساعي بأن يأتي بثلاثة أكواب عرقسوس أولا احتفاء بي لأنه لم يتشرف بلقائي منذ أكثر من ثلاثين أو خمسة وثلاثين عاما. ولما قال الساعي إن بائع العرقسوس لم يمر بعد على الاتحاد الذي أصبح نقابة، بادره نائب الرئيس مقاطعا: “صب لنا ثلاثة خروب من البرطمان الذي أرسلته المدام امبارح”.

طال الحديث، ولم يأت الساعي بأي شيء. وفجأة دخلت سيدة أربعينية محترمة، تنتمي إلى الشريحة العليا من الطبقة الدنيا كما تشير ملابسها المحافظة والبالطو الكاكي والإيشارب الذي يميل إلى الحجاب أكثر منه إلى إيشاربات أمهاتنا وجداتنا في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين. تبادلتْ السيدة معهما التحية والسلام والمصافحة وبعض الكلمات اللطيفة والإيفيهات التي تشير إلى علاقات وطيدة وقديمة وهزار ومزاح وبعض الغمزات واللمزات التي تحمل أكثر من معنى ولكنها لا تصرِّح بأي معنى.

جلستْ السيدة غير راضية، تطلق زفيرا حادا، ودلالا مستترا، وتتعامل مع حقيبة يدها بعصبية ونزق طفولي، وتُحَرِّك بعض الكتب الرخيصة التافهة الموضوعة على طاولة خشبية متهالكة بنية اللون في وسط الغرفة، ناظرة أمامها بقرف واستعلاء. طلبَ لها نائب الرئيس قهوة سكر مزبوط، فقالت له إنها أقلعت عن احتساء القهوة. نطقت كلمة احتساء بالتركيز على حرفي الحاء والسين وكأنها تنبهه إلى شفرة معينة بينهما، ودعته لتغييرها إلى يانسون سكر زيادة. وفجأة قالت بصوت عال ينطوي على لهجة وعيد وتهديد ونبرة عنف واضحة مع بعض الدلال وتسبيل الرموش: “هو أنا دوري ماجاش بقى عشان حاجاتي تترجم للإنجليزي والفرنساوي؟! هو أنا إمتى هابقى من صحابكم وحبايبكم اللي بتحطوهم في اللجان وتبعتوا حاجاتهم التافهة تترجم، وتدوهم جوايز كمان”!”..

قبل أن تدخل السيدة المحترمة، كنت أفكر جديا في الاستئذان والمغادرة، لأنه كان من المفترض أن أشتري خضرة محشي من نوال التي تقف هي وزوجها وأختها وابنة واحدة منهما بفرشتها بجوار مبنى الاتحاد الذي أصبح نقابة. وكان من المحتمل أيضا أن أمر على فرعي شركتي “اتصالات” و”فودافون” كالعادة لكي ألعنهم وأسبهم وأسب شركاتهم الرئيسية وغير الرئيسية وكل فروعها في مصر وفي جميع أنحاء العالم لأي سبب ما. لكن لما رأيت أن الموضوع قد أصبح مسليا على النحو الذي يسير عليه، قررت أن أقعد لأتفرج، على الرغم من أن السيدة ذات البالطو الكاكي والإيشارب الذي يبدو رمادي اللون، ويميل إلى أن يكون حجابا أكثر منه إيشارب ترتديه عادة نساء الطبقتين الوسطى والدنيا لأهداف متعددة ومآرب مثل مآرب موسى في عصاته، لم تهتم بي أو حتى تلقي على التحية أو تبدي أي اهتمام حتى بالنظر نحوي، وكأنها اعتبرتني جزءا من الطاولة الخشبية بنية اللون المضعضعة تماما أو ورقة في دفتر البفرة الذي يستخدمه أحد الشخصين الجالسين. وليتني ما جلست في ذاك النهار المهبب…

في الواقع، وكما أوضحت في السابق، الاتحاد لا يبيع خضرة محشي ولا يصنع محشي، ولكنه يقوم بوظيفة أخرى تماما، ربما تشبه عملية صناعة المحشي، بدءا من زراعة الخضرة، الشبت والبقدونس والكوزبرة، وانتهاء بطهي أصابع الكرنب والباذنجان والكوسة الشهية في حلة ضخمة. الفكرة أن نوال اللطيفة وزوجها وأختها والفتاة التي لا يعرف أحد هل هي ابنة نوال أم ابنة أختها، محبوبة جدا من الناس هي وكل أفراد أسرتها الحاضرين وغير الحاضرين. وهي تبيع أنواعا كثيرة من الخضار الطازج والرخيص، ومن ضمن هذه الأنواع خضرة المحشي. الفكرة الثانية، أن الاتحاد يذكرني على الدوام من حيث تركيبته وشكله وهيكليته وطريقة عمله وأدائه بخلطة خضرة المحشي ودورها ليس فقط في عملية الطهي والتسوية، بل وأيضا في عملية الأكل والتذوق لدى هواة أكل المحشي. ويذكرني أيضا بكيف يتم عمل الخضرة وخلطها وهندستها وصياغة سرها العظيم. لكن الاتحاد شخصيا لا يزرع خضرة المحشي ولا يبيع خضرة المحشي، وفي أحيان كثيرة لا يقوم بأي شيء أصلا: هو مثل الفسوخة، إذ أن الأمور لا تخلو أحيانا من قضاء بعض المصالح، أو أن هذا الشخص أو ذاك يحتاج إلى مصلحة معينة أو إجراء انتخابات أو تشكيل لجان أو كتابة بيان تأييد أو شجب، فيتم تنشيطه، ويقضي الناس مصالحهم وسبوباتهم، ويبقى الاتحاد شامخا وكأنه فعلا اتحاد قابل لأن يتحول إلى نقابة، وأن تكون هناك أوراق رسمية خاصة به تميزه عن بقية الاتحادات الأخرى مثل اتحاد الكرة واتحاد لاعبي السلة والطائرة والسباحة، وكذلك طلبات عضوية وميزانيات مالية واستمارات مكتوب عليها كلمات مثل نقابة واتحاد وكُتَّاب وهي كلمات تذكرني بنفس الكلمات التي تتكون منها خلطة المحشي مثل شبت وبقدونس وكوزبرة.

راحت السيدة ذات المعطف الكاكي الكالح والإيشارب الذي بدا بنيا قاتما وعليه بعض الرسوم الغريبة تحكي عن كتابها السادس الذي تعبت جدا في كتابته أثناء حملها في ابنها الأول بعد أن أنهت دراستها الجامعية مباشرة. وأضافت بأن كتابها الثامن عشر كان أكثر إزعاجا، لأنها كانت حامل في ابنتها الثالثة، وكان زوجها في تلك الفترة “يرافق البت صفية الوسخة بنت أم وجدي صاحبة الفرن اللي على الناصية”..

لاحظتُ أن الزميلين القديمين، نائب الرئيس والمسؤول المالي للاتحاد الذي أصبح نقابة، يتفاعلان معها بشكل لافت، بل ترك نائب الرئيس مكانه خلف مكتبه الخشبي الضخم ذي اللون الغريب بفعل الزمن ليجلس إلى جوارها، وقال في جدية: “أنا أذكر لما اتصلتي بينا هنا في الاتحاد، لما حصلت حريقة عندك، وجينا، وعرفنا إن جوزك هو اللي كان عايز يولع فيكي، وأنقذناكي في آخر لحظة”. قالت له: “هو دا موضوع يتنسي! كان بيغير مني الواطي قليل الأصل. كنت مشغولة أيامها في كتابي الخمسة وتلاتين اللي هز مصر كلها”……

كان مزاجي معتدلا للغاية في ذلك اليوم. وفي الحقيقة، لم يكن في خطتي زيارة اتحاد خضرة المحشي الذي أصبح نقابة اتحاد خضرة المحشي. هذا على الرغم من أن موعد استلام الكارنيه الجديد قد حان. كان من ضمن عاداتي بشكل عام أن أنزل من البيت لأتمشى قليلا. أصل إلى فرع شركة “اتصالات” الذي يقف على تقاطع ناصية حسن صبري مع شارع 26 يوليو. أدخل وأحصل على رقم. أقعد قليلا لأستمتع بمراقبة حركة العاملين والزباين وماذا يقولون وماذا يفعلون وما هي المشاكل التي تجعلهم متنمرين يهددون بعضهم البعض. وأقارن بينها وبين مشاكلي الدائمة مع نفس هذه الشركة. وبعد خمس دقائق، ورغم العراك والزعيق والتهديدات المتبادلة، يتولد لدى انطباع بأنهم يفهمون بعضهم البعض ويتحملون بعضهم البعض. فبعد خمس دقائق أخرى أجدهم قد تخلوا عن سبابهم وعراكهم وتهديداتهم التي تصل إلى إبلاغ الشرطة والنائب العام ورئيس الجمهورية، وبدأوا يضحكون ويمزحون ويلقون بالنكات، بصرف النظر عن حل المشكلة من عدمه. أمر شبيه بما يحدث بين سائقي التاكسيات وسائقي الميكروباصات الذين يقفون كيفما اتفق في أي مكان من الشارع، ويشبعون بعضهم البعض سبابا وتهديدا ولعنات، ثم ينصرف كل إلى حال سبيله. وأحيانا تنقلب المعركة إلى مباراة في إلقاء النكات والمزاح… 

عادة ما أُنْهِي أعمالي، في فرع “اتصالات”، بعد قليل من العراك والسباب والتهديدات. وطبعا هذا يتوقف على مرونة الموظفين وسعة صدرهم، لأنني في الأصل نزلتُ من بيتي لأتمشى وأتسلى قليلا وأنفس بعض الضيق الذي تسببه لي خطوط هذه الشركة السيئة أو جودة اتصال تلك الشركة الأسوأ. ومع الوقت أصبحت إحدى هواياتي الاحتكاك بموظفي شركة “اتصالات” و”فودافون” وجر شكلهم، لأن الشركتين لديهما أخطاء كثيرة وتعملان بشكل سيء للغاية. وليس من الصعب العثور على أسباب لجر الشكل وإطلاق التهديدات. بل والعثور على أموال ناقصة أو فاتورة مليئة بالأخطاء أو سرقة بعض الأموال بطرق ملتوية يعرفها كل المصريين تقريبا بإضافة خاصية أو تحميل فاتورة أحد العملاء على حساب عميل آخر.

بعد ذلك أتجه إلى فرع “فودافون” في شارع حسن صبري. وهو عمليا يبعد عن فرع “اتصالات” بسبعة أو بعشرة أمتار لا أكثر. أدخل وآخذ رقم. أبدأ بتذكير نفسي بأمور تثير الضيق والغضب. أتذكر ما تفعله معي هذه الشركة، ومدى سوء وتدني خدماتها. ثم أسحب ما يحدث معي على ملايين المصريين فتثور ثائرتي ويرتفع مستوى غضبي إلى درجة لا يمكن أن يحتملها أحد مهما كانت قوة صبره. وعندما لم أكن أستطيع العثور على أسباب كافية من ناحية الشركة، كنتُ أذكِّر نفسي بأمور سخيفة حدثت معي في مراحل مختلفة من حياتي، أو حركة بذيئة فعلها أحد معي، أو مضايقة ما قام بها هذا أو ذاك في يوم ما من ثلاثين أو أربعين عاما. وعندما يأتي دوري أكون قد وصلت إلى أعلى درجات الغضب والتوتر والانفجار، وأبدأ في الزعيق إلى أن يأتي مدير الفرع ويبدأ معي بالتفاوض.

أنا لستُ مجنونا، وإنما شركة “فودافون”، شركة مخادعة تمارس النصب والسرقة والاستيلاء على أموالنا مثل كل الشركات العابرة للمحيطات والقارات والقوميات. العاملون في شركات الاتصالات عموما يعملون بنفس طريقة المخبرين وأمناء الشرطة والضباط، وربما أسوأ بكثير. ولكن الذنب ليس ذنبهم، وإنما ذنب شركات النهب العالمية التي تفتح لنفسها فروعا في كل دول العالم، وبالذات في دول الغبار البشري التي يتم فيها تدجين البشر ومعاملتهم مثل الخراف والدواب والحمير وبقية الكائنات الوديعة. وبالتالي، فهناك ملاحظات كثيرة يمكن جمعها واستخدامها من أجل جر الشكل والعراك. أي أن توجيه اللعنات والاتهامات لهم لا يتم بشكل عشوائي وإنما دائما لأسباب وجيهة يعرفها كل من يملك هاتفا محمولا في جميع أنحاء العالم، وبالذات في تلك الدول التافهة التي يطلقون عليها، تأدبا، دول العالم الثالث أو الدول الفقيرة أو دول الجنوب.

أقضي مصلحتي، وأغادرهم من دون توجيه أي كلمات شكر. وطبعا، ألاحظ أن عددا كبيرا من الموظفين يكون في غاية الانبساط والسرور عندما أكيل الشتائم والاتهامات للشركات وللمدراء الكبار الذين ينهبون وهم في غرفهم المكيفة. وتصل سعادتهم إلى الذرى عندما أبدأ في وصلة ردح من قبيل أن “هذه الشركة مجرد حرامية ولصوص، وأن الكلام ليس موجها إلى الأساتذة والأصدقاء الموجودين في هذا الفرع، وإنما للحرامية الكبار الذين ينهبوننا وينهبون حتى العاملين”.. يبتهج العاملون الصغار وتلمع عيونهم ويظهرون حجما أكبر من التعاطف عندما يصل الحديث إلى أن هذه الشركات المنحطة لا تسرق الزبائن وتنهبهم فقط، بل تنجمع المعلومات عنهم وتسجل مكالماتهم وتبلغها للأجهزة الأمنية، بل ويستخدمها الموظفون في أغراض شخصية وفي التحرش والابتزاز.

بعد ذلك فقط كنتُ أقف على الرصيف المتآكل المهدم أمام باب الفرع في شارع حسن صبري وأتنفس بعمق وانتصار. وأبدأ في إكمال جولتي في شوارع المنطقة القريبة من البيت، أو أقضي بعض الطلبات التي تحتاجها زوجتي. وكنتُ في كثير من الأحيان أتجه إلى ذلك المبنى الفخم الذي فصلوا عنه المسجد منذ عدة سنوات وكأنه قد أصبح غير تابع له، ووضعوا سورا حديديا قصيرا بائسا بلون أسود يبدو كشبكة بذيئة الشكل واللون والذوق ينفتح منها باب مضحك ومثير للسخرية على الدرجات العشر الرخامية البيضاء للسلم الواسع الذي بقي من تلك العصور الرحيبة الهادئة التي كانت تتميز ببعض الذوق والإحساس بالجمال. المسافة بين فرع “فودافون” وبين المبنى لا تزيد عن عدة أمتار. ولا شك أن المبنى اكتسب شهرته التاريخية بين الأجيال الجديدة من وجود نوال وأسرتها الكريمة. بل أصبحت فَرْشَة نوال أحد أشهر معالم شارع حسن صبري والشوارع المجاورة، بما فيها شارع شجر الدر الذي يؤدي إلى مبنى وزارة الثقافة الذي يقف بعبقه وعنفوانه التاريخيين الجميلين في مواجهة نهر النيل العظيم الذي يناضل ضد سد النهضة وضد عسف المصريين وإهمالهم وتسيبهم. وفي الواقع، فمبنى وزارة الثقافة لا يختلف كثيرا عن مبنى نقابة اتحاد خضرة المحشي. بمعنى أن فَرْشَة نوال أشهر وأهم من المبنيين بما فيهما وبمن فيهما.

 

في كل الأحوال، لو استطاعت نوال مع اتساع فكي الليبرالية الجديدة وتزايد نهمها، ومع توطين الواقع الرقمي، أن تفرش فرشة أخرى بجوار وزارة الثقافة، فمن الممكن أن يبدأ المصريون بالتفكير جديا في “فكرة قومية مصرية” حقيقية وواقعية بعيدا عن الشعارات الكبرى والأفكار الخيالية مثل قناة السويس ونهر النيل، والبدء بهدم كل تلك المباني، أو تغيير وظائفها وتوجهاتها، وتوطين نوال وأمثالها في اتحاد خضرة المحشي الذي أصبح نقابة، وفي تحويل نشاط وزارة الثقافة إلى فرع لتصريف وتوزيع الشبت والبقدونس والكوزبرة، خاصة وأن هذه المكونات المهمة تكون طازجة وصحية ولم تمر على الثلاجات أو المواد الحافظة. وربما يكون هذا هو السر الذي يقف وراء حب وتقديس سكان منطقة الزمالك لنوال وأسرتها ودورها التاريخي في الحفاظ على صحة الشريحة العليا من الطبقة الوسطى. فتسعين بالمائة من سكان الزمالك لا يشعرون بوجود مبنى اتحاد خضرة المحشي الذي أصبح نقابة، وربما لا يعرفون أصلا بوجوده رغم أنه قائم بجدرانه وأسقفه ونوافذه وأبوابه ومسجده وموظفيه. مثل هذا المبنى، ومعه مبنى وزارة الثقافة، يكتسب معنى وجوده ليس إطلاقا من أي شيء آخر سوى وجود نوال. وفي المقام الثاني، من وجود موظفي القبو المتماهين تماما مع سيادة اللواء الذي يعيش معهم في نفس القبو. وفي المقام الثالث فقط تأتي أهمية السيدة ذات المعطف الكاكي والإيشارب الغريب الذي أضفى عليها طابعا أكثر غرائبية وعجائبية وإثارة للدهشة، بل وخلخلة مراكز الاتزان في المخ: في مخها هي شخصيا وفي أمخاخ وعقول كل من يتعاملون معها.

في الواقع، لم أكن “أنتوي” أبدا أن أزور اتحاد خضرة المحشي الذي أصبح نقابة. ولكن حدث وأن ساقتني أقدامي وأنا أشعر بالانتصار على النيوليبرالية وعملائها المحليين والدوليين، على الرغم من أنه لم يكن بنيتي أصلا أن أزور اليوم فرعي “اتصالات” و”فودافون”، أو على الأقل كان يمكن زيارتهما بعد قضاء الطلبات التي كلفتني بها زوجتي.

كان مزاجي رائقا للغاية. ولكن دخول السيدة ذات المعطف الكاكي إلى غرفة نائب الرئيس، ووصول الحديث إلى زوجها الذي كان يريد أن يشعل فيها النار، جعلني مستمتعا من جهة، ومتشوقا لمعرفة التفاصيل وبقية الحكاية من جهة أخرى.

جلستُ أستمع إلى السيدة ذات المعطف الكاكي الذي لم تخلعه على الرغم من حرارة الطقس التي لم تؤثر فيها المروحة الضخمة العتيقة في غرفة نائب الرئيس، والتي تصدر أصواتا غريبة أقرب إلى أصوات حشرات الحقول في الليالي غير المقمرة. وَصَلَتْ الحكاية إلى كتابها السابع والستين، وأن الدولة لا تريد الالتفات إليها، ولا تريد أن تقبلها ضمن القوى الناعمة المصرية التي يجب أن تؤثر ليس فقط في المحيطين العربي والأفريقي، بل وفي العالم كله، نظرا لأهمية مصر التاريخية والثقافية والعلمية، ونظرا لوضعها السياسي الاستراتيجي، وأن مصر بها من الكوادر والطاقات التي حصلت على جوائز نوبل، وجوائز دولية أخرى. وذهبت السيدة ذات المعطف الكاكي إلى أن بعض الشلل والعصابات في النسق الأعلى في الدولة، وفي وزارة الثقافة بالذات، تخشى من ترجمة كتبها إلى اللغات الأخرى، لأنها قد تحصل على جائزة نوبل، كما حصل عليها نجيب محفوظ وآخرون، وتغطي على كتاب كبار ولكن تافهين. وأكدت أن نجيب محفوظ هذا، كان زميل لها وعضو في اتحاد خضرة المحشي بشارع حسن صبري..

استهوتني الحدوتة، وصرتُ منجذبا نحو السيدة اللطيفة ذات البالطو الكاكي والإيشارب الذي يميل إلى كونه حجابا أكثر منه إيشارب مثل إيشاربات زمان التي كانت ترتديها أمهاتنا وجداتنا في شتاء الإسكندرية أو في خريف بورسعيد أو في الأفراح والمناسبات. ولكن زوجتي اتصلت، وكان صوتها الصارم والحاسم في التليفون يشير إلى إمكانية نشوب خلافات تاريخية، يمكن أن تؤدي بدورها إلى أن أصير حكاية تكتبها هذه السيدة في كتابها السبعين أو التسعين.

أمرتني زوجتي بعنف لطيف أن أرفع مؤخرتي عن هذا المكان الكئيب وأنهض متجها إلى فرشة نوال، لأنها اتصلت بها على المحمول، وأوصتها بأن تنتقي الشبت والبقدونس والكوزبرة وبقية عناصر ومكونات خلطة المحشي وشوية طماطم وخيار وتحطهم على جنب إلى أن يأتي هذا الموكوس، الذي هو أنا، ويأخذهم. وقبل أن تهبد السماعة في وجهي، قالت: “دي لو الدولة حولت البتاع اللي إنت قاعد فيه ده لدكان خضار كان بقى أفيد وأجدى للناس الغلابة اللي عايزين ياكلوا لقمة حلال”…

كنتُ، أثناء حديثي الهاتفي مع زوجتي الحبيبة، أرسم بين الحين والآخر ابتسامة واسعة على ملامحي، وأفشخ بُقي وكأن حديثا غراميا يدور بيني وبين زوجتي الوديعة اللطيفة. بل وكنت أضغط التليفون على أذني حتى أكتم الصوت، أو أتنفس بصوت عال حتى أغلوش على صرامة صوتها والكوارث التي تقولها ليس فقط بحقي، بل بحق اتحاد خضرة المحشي الذي أصبح نقابة، وبحق الدولة والثقافة. كنت أسعى بكل الطرق لإخفاء صوتها والتشويش على الصواريخ المجنحة التي تطلقها في أذني باتجاه الثقافة ووزارة الثقافة. وشكرت الله في قرارة نفسي لأنها لا تعرف شيئا عن القبو في أسفل المبنى، ولا تعلم أي شيء عن الكائنات التي تتحرك في أروقته وغرفه المظلمة سيئة التهوية ذات الأسقف الواطئة.

هممتُ بالنهوض، راسما على وجهي ابتسامة ودوده. ضحك نائب الرئيس ونظر في خبث إلى المسؤول المالي، وقال: “لا، دا أنا هاطلب لك قهوة. ماينفعش تقوم كده يا دكتور من غير ما تتعرف على كاتبتنا الكبيرة الأستاذة…”. لم أسمع الاسم جيدا بسبب دخول الساعي وهو يقلب شيئا غريب اللون في كوب طويل يخرج منه بخار. فسألتُ زميلي نائب الرئيس عن الاسم مرة أخرى، فكرره لي مبتسما وهو ينظر في خبث. بينما هي كانت منشغلة بتصفح أحد الكتب التافهة على الطاولة البنية القديمة في وسط الغرفة.

حاولتُ الربط بين اسمها وبين أي شيء له علاقة بالكتب أو بالنشر أو بالثقافة أو بالمسرح أو بالسينما أو حتى بوزارة الإسكان والتعمير ولكن دون جدوى. فتحتُ التليفون في هدوء وكتبت اسمها على محرك البحث اللعين “جوجل”، فأظهر لي آلاف النتائج البعيدة عن الثقافة والنشر والترجمة، كان من بينها صالون تجميل عند نادي الصيد، ومسمط في عابدين، ومستشفى في قليوب، ومركز توزيع قلل قناوي في درب البرابرة وووووو…..

نطق الملعون نائب الرئيس اسمي وقبله كلمة كاتب ومترجم ودكتور، فالتفتت نحوي في جدية، وكأنها رأت المهدي المنتظر. عقصت ما بينت حاجبيها في ترفع واستعلاء ومحاولة للتأثير الجمالي بإظهار حركة الرموش، وسألت: “وإنت بقى، يا دكتور، بتعمل إيه؟ يعني بتشتغل فين ولا بتكتب إيه؟ هو إنت معانا هنا؟”… قلتُ لها مسرعا: “لا، لا، أنا……”. وقاطعني ابن الملعونة المسؤول المالي قائلا: “طبعا طبعا، هذا كاتب ومترجم وعايش بره، وعنده علاقات بالهبل بالإنجليز والفرنسيين والروس، ويسافر إلى كندا وتركيا والسودان وأمريكا اللاتينية..”…

من الواضح أن لا شيء من كلامه وصل إليها إلا كلمات مثل “مترجم وإنجليز وفرنسيين وكندا وروس”. فاعتدلت في جلستها وخلعت البالطو الكاكي وأزاحت الإيشارب الرمادي الغريب بوروده وطيوره الغرائبية إلى الوراء قليلا، وهو الذي لا يزال يميل إلى كونه حجابا أكثر منه إيشارب كانت أمهاتنا وجداتنا يرتدينه في مناسبات ما أو في الفصول الباردة. ولاحظتُ للمرة الأولى أنه إيشارب رمادي وليس بُنّي، ربما يكون قد صنع من خامة جيدة ولكنه مزدحم بالورود والزهور والطيور التي يغلب عليها اللونان الأصفر والأبيض والفضي..

طَلَبَتْ السيدة ذات المعطف الكاكي، التي كنتُ قد نسيتُ اسمها على الفور، من نائب الرئيس في دلال ومودة وبعض الغنج الخفيف مع ابتسامة خلابة أن يطلب لها قهوة سكر مزبوط في مج كبير. وبدأت موجهة كلامها لي: “شوف بقى، أنا عندي لغاية دلوقت تمانين كتاب، دا غير اللي تحت الطبع…..

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

المدفأة