المرأة الفيروز.. تكره الدماء

سلاسل الفيروز أسماء عواد
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

شوقى عبد الحميد يحيى

فى كتابنا “الهم السياسى فى رواية المرأة العربية”[1]كانت الرؤية حول الكتابة النسوية، هى{ أن الأدب النسوى، ليس بالضرورة أن تكتبه امرأة، وإنما لأن الغلبة فيها لما تكتبه المرأة؛ حيث الهموم الخاصة بالمرأة. وهى ليست بالضرورة ما يتعلق فيها بالجسد، وإنما ما يتعرض له وجودها الإنسانى بالدرجة الأولى، كامرأة – فضلًا بالطبع عما يخضع لذلك من شئون المرأة الخاصة}.

ولا أتصور أن وجود المرأة بصورتها التى تم اكتسابها، بعد كفاح طويل، من القلق الذى ترسب فى أعماقها عندما صعد التيار الإسلامى المتشدد إلى قمة السلطة فى مصر بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير عام 2011. تَهددتْها، تلك الأفكار التى تتبناها تلك الجماعة، والتى تعود بها إلى ما يزيد عن الألف وخمسائة عام.  فنهض الكثير من الكاتبات –فضلا عن الكتاب- خاصة كتاب الرواية بصفة خاصة، بتناول الكثير من القضايا الخاصة بتلك المجموعة، والتى لم تستمر أكثر من عام، حتى بات ما يُكتب عنها جديدا يُنظر إليه بعين الترقب، والتحفز، خشية التكرار. حتى كتبت “أسماء عواد” روايتها البديعة “سلاسل الفيروز”[2] منتهجة نهجا جديدا ، وطازجا، جمع بين الواقعى والفانتازى، واستحضرت روح “دانتى أليجرى” فى كوميديته الإلهية، خاصة النشيد الثالث، والمسمى بالفردوس، وكأنها تشفق علينا من البحث عن علاقة العنوان الرئيس “سلاسل الفردوس” بالرواية، حيث أننا لا نجد أى إشارة من قريب أو بعيد، داخل الرواية، تسقينا شربة ماء، بعد الظمأ، وإن كانت الرواية تشير إلى ان بطلتها “الساردة “سما” إنسانة حساسة، تكره الدم، وتُضحى بنفسها فى سبيل ألا ترى دما. وهو الأمر الذى نعود معه إلى القواميس للبحث عن ذلك المعدن النفيس، لنقرأ { الفيروز هو حجر سهل الخدش وخفيف الوزن ضعيف جدًا تتخلله كسور محارية الشكل، معرض للإصابة بالشروخ (بسبب أن بعض خاماته شديدة المسامية). وهى الصفات التى يمكن أن تنطبق على المرأة بصفة عامة، خاصة أن الروائية تكتب كتابة نسوية بامتياز، ليس لأنها تناولت، او جعلت بؤرة عملها شأن نسوي، لأنه فى الواقع ليس نسويا خالصا، لأن الرجل يعرف عملية الختان، وليست سرا نسويا، وإنما لأنها تناولت جوهر الأدب النسوى الذى يقوم على المقاومة، وليس مقاومة الرجل-فقط-، حتى لو جاء دوره فى الرواية مصبوغا بالعنف والشراسة ضد المرأة، وإنما الأدب النسوى –كما أوضحنا فى الكتاب السابق الإشارة إليه- هى كتابة مقاومة، فقد انبنت الرواية على أساس مقاومة ذلك التهديد القادم- وإن لم يعد قادما- من تلك الجماعة التى تسلمت موقع الأمر فى المجتمع، حتى أن قرارتها، ستكون نافذة، وهو ما يعيد المرأة إلى العصور الوسطى من جديد، لذا فهى تنادى بالحرية، ليس من الرجل، ولكن من تسلط الموروث الجامع للرؤى الاسلامية، والعادات المتسلطة على أدمغته، ليصبح لها الحق فى الحرية، وبالتالى الحق فى الحياة. ولتصبح السلاسل هى المستويات التي عاشتها “سما” فى الفردوس، المُتخيل.

ففى فردوس “دانتى” يناقش “الكوميديا” فيقول أن الفردوس –فى مؤلفه- يحمل معنيين، المعنى الأول هو المعنى الحرفى، الذى يدل عليه اللفظ، والمعنى الثانى هو المعنى الرمزى، أو الخلق الروحانى، ويطبق دانتى هذه التفسيرات على ما جاء فى التوراة بشأن المزمور الذى يتناول “خروج بنى إسرائيل” من مصر، فى زمن موسى. وفى المعنى الرمزى قد يُقصد به ما يدل على تحول الروح من بؤس الخطيئة وأحزانها إلى حال النعمة، وفى المعنى الروحانى، يدل عل انتقال الروح المباركة من قيد الفساد إلى هذا العالم الرحب من الحرية والمجد السرمدى}[3]. فتقدم الكاتبة عملها كله فى العالم العلوى، او الفردوس، إنتقالا بالروح ، لتكشف ما بين السماء والأرض من تباين، وتفاوت، فإن كانت الأرض مكبِلة للمرأة، مانعة لها من أى صور للحرية، فإنها فى السماء تنعم بالتخلص من شوائب الأرض، وتنعم بالحرية المنشودة. بالرغم من أنها اكتفت فى الكثير من المواقف بالإشارة، على أن هذه الإشارة ليست سوى الغطاء الذى يغطى بئرا من الرؤى، وكشفا للعديد من العوالم التى تفتح آفاقا رحبة من المعانى، وتعميقا للرؤية التى تهدف إليها. فإذا أخذنا مثلا، تلك العبارة/ الإشارة عن الشك واليقين { إنه صراع أبدي، في الماضي كان الصراع بين الشك واليقين، بين ما نراه وتستنكره قلوبنا، وبين ما نحسه وترفضه عقولنا. الآن أصبح الصراع بين يقينين، الموت يقين، والحياة يقين، كلاهما حق فلأيهما تنتمي؟ أيهما الأقوى كي تنتصري له؟}ص62. حيث تنفتح العبارة على مسيرة الإنسان، منذ الخليقة، فكان الصراع بين الشك واليقين، الشك فى رؤيتنا للظواهر الكونية، والتى نعيشها كل يوم. من أين تأتى الشمس، وإلى اين تسير؟ الشمس تدور حول الأرض، ثم يأتى جاليليو فى العام 1610 ليقول عكس ذلك.. فمن نصدق،  الرؤية تقول بالأولى ثم يأتى العلم ليقول شيئا آخر. فإذا كان اليقين الذى يأتى من الدين،  الذى يطلب منا سماع قول المفسرين فقط ، حيث يقول النص بان الله خالق كل شئ، ومُسَيره، حيث يقول النص(سورة المائدة) {ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم}، وكأنها تدعونا للإيمان وفقط، بما يقولونه، حتى لو خالف العلم، وألا نفكر فى أبعد مما نرى. كما أن ظواهر الحياة تؤكد أن الموت يقين، لا مفر منه، فيقول فى سورة الرحمن (كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام). أما الآن، عندما صعدت الروح إلى الفردوس، اصبح كل شئ يقين، الموت يقين، والحياة يقين. فيسألها الحارس الأمين، او ما يمكن النظر إليه على انه “مَلاك” اليمين، أو ما اسمته الكاتبة “ناجى.. العزيز”{ الموت يقين، والحياة يقين، كلاهما حق فلأيهما تنتمي} فيضعها أمام الاختيار، يحترم حريتها، وتحديد مصيرها، لا يفرض عليها أمرا مسلما. فهكذا تنتقل الكاتبة من القضية الشخصية، إلى الرؤية العامة التى تنعكس بالضرورة على الوضع الذى تتناوله فى مصر، أى رؤية الحياة فى ظل هؤلاء الذين تولوا الأمر والنهى فى البلاد. فى الوقت الذى نقرأ فيه {في اليوم التالي لمغادرته العمل أصدر رئيسه قرار تسريحه وأرسله له، عندما تسلمه وضع طرفه في كأس النبيذ ثم أحرقه، قال في هدوء:  يقول لي الدين؟ أنا أكثر منه تدينا، عندما أشرب النبيذ تدور رأسي، وأصعد إلى السماء، فأرى الله جميلا ، يستحق العبادة والحب}ص21. فهذه رؤية الإنسان الفرد، الذى يسعى لتكسير القيود، ويرى أن الحرية تؤدى لما يدعون إليه، ولكن بالحب والحرية. ولذا تقول الساردة {عدم الديمومة جعلتني أشعر بعدم الأمان، وربما الإيمان معه. الإيمان بكل ما هو ثابت ومطلق}ص47. فالإيمان مرتبط بالأمان، فإذا غاب أحدهما، غاب الآخر.

فما هى القضية الأساسية التى تستند إليها الرواية؟ إنها قضية خاصة، عامة، تعانى منها المرأة العربية خاصة، وهى قضية الختان، التى لا تعتمد على النظرة الدينية فقط، وإنما ذلك الموروث الذى ترسخ فى الأذهان، واصبح له قوة القانون، (حيث تقوم القابلة بالمهمة)، وهو ما تعبر عنه الكاتبة فى {لذا نمت بعدما رأيتُ ذلك الرجل وهو ممسك بالموسى، وعلى حافته تتقاطر الدماء. دماء أختي التي تنزف ما بين فخذيها، وأخي الذي يبكي في الفراش مباعد ما بين ساقيه، وابنة عمتي، وأخيها الصغير، مجرزرة يبتهج بها الجميع، يبتسمون لأجلها ويتبادلون التهاني والأمنيات. الدور علي، قرأت ذلك في أعينهم، رأيت اتفاقا غير معلن على وجوههم، ظهر هذا جليا في حضور رائحة الكحول وهي تتصاعد خانقة مخلوطة بلون الردم.

أثناء انشغالهم بربط الشاش، تسللت في هدوء، اختبأت في غرفة الخزين، ما بين برميل الزيت وأجولة الدقيق، ثم ذهبت في نوم مخيف}ص17. ورغم هذه المجزرة، وهذا الرعب المترسب فى قلوب الأطفال، وما تعيش عليه.. تكبر الساردة وقد انزرع هذا الرعب فى أعماقها، لتأتى لحظة المواجهة، التى ينظر فيها الأب إلى هذه العملية، وأنها تمثل الشرف، والوجود. يتقدم خاطب إلى الساردة، وهى لا ترضى عنه، ليس بالضرورة أنها مرتبطة بآخر، ولكنها لا تشعر بالتوافق معه، لتنطلق الكاتبة هنا من الخاص إلى العام، وتصبح الحرية هى الهدف، ويرغمها والدها على الزواج منه، وإلا فالموت هو مصيرها، فتقرر الساردة أن تحرم الخطيب من متعة ودهشة فض البكارة، فتتولى هى بنفسها إتمام العملية، خوفا لا من الدماء المسالة منها، وإنما الدم بصفة عامة {كنت أخاف الدماء، أصبحت أخاف الدماء وأبي معا، أن يذبحني دون ذنب أعرفه، ثم تطور الأمر، وأصبحت أخاف من الخوف نفسه، لذا لا أستطيع رؤية لحظة سحب الروح لطائر ذبيح، لا أتحمل رؤيته وهو يفقد حياته قهرا، وأن يحدث له هذا بسبب شخص يمارس قوته عليه. المسألة لا تتعلق فقط بالدماء المراقة، ولكن بجسد تسكنه روح تتوق للحياة، ولم تزهدها بعد}ص54. على أنه يمكن توسيع الدائرة، ليصح الأب هو السلطة الأعلى، والضحية هم الرعية.

فيتم الزواج، رغما عنها، وفى الصباح، يوجد العريس ميتا بملابس العرس، فيستدعى والدها بعضا من الرجال الذين يتولون قتل الساردة. لنكتشف أن الأب هو من شهد على ابنته بالقتل، فكان مصيرها السجن. وليست هذه قصة خاصة بالساردة ووالدها، بل هى قضية الأجيال الذين ينظرون إلى الأبناء على أنهم ملكية خاصة، يفعلون بها ما يشاءون {لقد قال لهم ذلك الذي قذف به نطفة في رحم أمه: اقتلوه. فهو يستحق أن يقتل مئة مرة. وقال لهم ذلك الذي أنجبني من صلبه: خذوها، لا أريد أن أراها مرة أخرى. الآن أتذكر كل شيء، شهادته ضدي كانت سببا في إدانتي بتهمةالقتل}ص45. كذلك تخرج الكاتبة من التجربة الخاصة، إلى التجربة العامة، فلم يكن ما تراه من دم يسقط منها فى لحظة نشوة، ولكنه إشارة إلى الدم عامة، وإلى ما يفرضه عليها المجتمع من (نقاب)، لا يغطى شعرها وفقط، وإنما يغطيها عن البشر عامة {إنه نفس المكان الذي قضيت فيه صباي وشبابي كنت أقف على أطراف الساحة أنتظر حافلة المدرسة أتأمل المشهد من بعيد خلف نقابي الأسود. أصبح للتخلي الآن رائحة الموت يا عزيز الموت في حد ذاته لا يشكل أزمة عندي، ولكن الموت بسبب سلطة تمارس القهر عليك هذا ما كان يفزعني، أن أرى روحا حرة تزهق بإرادة أحد متربص لها.

لم أخبرك يا عزيز كم كنت أخشى وأنا سجينة الغرفة البيضاء أن أغمض عيني فيأتي بشر مثلي، مخلوقون من لحم ودم ليريقوا دمائي على أرض باردة، أخشى من لحظة ضعف أتوسل فيها الرحمة بلا أمل، أو لحظة أتخلى فيها عن قوة أؤمن بها تحت وطء التعذيب……. لم يمكني نقابي المنسدل من رؤية شيء، أزحت السواد عن عيني لأرى ما تشير إليه فسقطت في سواد أبدي. رأيت إنسانا مثلي معلقا، ولا أعلم إن كان من وسطه أم من رقبته………. ظلت صديقتي تنقل بصرها ما بيني وبين المنصة المنصوبة في ساحة القصاص، فعلت ذلك عدة مرات حتى استوعبت أخيرا، أن ذلك المعلق في الهواء كان بشرا يستحق مني الإغماء}ص45. فاستخدام كلمة (القصاص) هنا تشير إلى تلك الجماعة، فهم من يستخدمون اللفظة.

وتروى الكاتبة قصة صديقتها مريم، التى ظل سرها مدفونا، لا يعرفه أحد، والظاهر منها، أنها تزوجت رجلا أكبر منها، وهى صغيرة الحجم، وإن كان الحجم هنا إشارة إلى كل شئ فيها، ليتحول الأمر كليا من الجماعة إلى العادات المترسخة فى لآذهان الأباء، أو من بيدهم الأمر {طفت صورة مريم على السطح، بجسدها الذي لم تغادره الطفولة بعد، ما بين مقاعد وطاولت المدرسة اخترعت ألعابا مرحة. كانت أثناء شرح الدروس تطلب منا أن نفتح الكتب، فنفاجأ بها وقد كتبت بالرصاص” افتحي صفحة رقم خمسة ستجدين سرا بها”، وعلى صفحة خمسة تكتب” لقد كتبت السر على صفحة رقم عشرة”، وفي الصفحة العاشرة تكتب” لقد غيرت رأيي وسأخبرك به في الصفحة العشرين…”  لم يقدر لسر مريم أن يرى النور، فقد ظل يتنقل من كتاب الجبر إلى كتاب التاريخ، ثم الجغرافيا، ثم العلوم على وعد بأن تبوح لنا به، لكنه ظل يتنقل عبر الكتب حتى رحلت هي قبل أن ننتهي نحن من حل شفرته. مريم التي كان جسدها صغيرا على الزواج من رجل في سن جدها، أغلقت على نفسها بابا مظلما}ص14. والسؤال هنا، او الاندهاش حول الحقيقة المخبأة وراء حكاية مريم، والتى تبحث كل البنات عنها، وكأنه سؤال استنكارى، لرفض التمويه وعدم المنطقية.

وإذا كانت سمة جوهرية بين تلك الجماعات المتاسلمة، والمُتخذة من الدين وسيلة، أنها لا تؤمن بغير ما تؤمن هى به، فتنفى الآخر، فشاعت عمليات القتل بين المسيحيين، وحرق كنائسهم. فإذا كان هذا على الأرض، فإن الكاتبة عندما تصعد روحها إلى الفردوس، بعيدا عن خرافات الأرض، تجد التعدد، وتجد الحرية، وكأنها تُدين ما يحدث على الأرض، حيث تستخدم المفارقة الكاشفة {على يمينها ويسارها تلاصقت بيوت شديدة القدم، جميعها دور عبادة لمسلمين، ويهود، ونصارى. معابد وأديرة ومساجد، كلها متتالية عبر طريق يصعد للأعلى}ص54، وحيث لا تأتى كلمة (للأعلى) هنا مجانية، وإنما كان أختيارها دقيقا للتعبير عن الصعود نحو السماء، أو الارتقاء، وكأنها –السماء- ترحب بذلك. وكان من نتيجة كل ذلك الاضطهاد، والمراقبة، هروب الناس خارج مصر ولتصبح مصر مثلها مثل غيرها من البلدان العربية الطاردة، حيث  تقول الساردة ” سما” تعليقا على كلام “هدى” زميلتها فى بيت “عاتكة”: {أو لعلها تقصد أخي الذي حمل زوجته وهاجر مثلما أخبرني العزيز، وربما جدتي التي ماتت حزنا على زوجها عندما فرقوا بينهما بالقوة}ص52. وكانها هنا تشير إلى قضية المفكر فرج فودة الذى فرقوا بينه وبين زوجته، نتيجة توصية من تلك الجماعات التى لا تطيق الفكر، ولا العقل، بالأساس.
ولم يكن الهروب كله إلى خارج البلاد، فما زلنا على الأرض، بكل سوءاتها، بل كان هروب الساردة إلى خارج الأرض كلها، والصعود إلى الفردوس الذى يعم بالسلام والأمان، والحرية، فتعدد الكاتبة مظاهر الفردوس، وكانها تعقد المفارقة بين ما يجب أن يكون وما هو كائن {تعجبت فلا ليل هنا أو ظلام، كيف يحسبون الزمن بلا شمس أوقمر؟

” لا حاجة لنا به هنا ” هكذا قال كبيرهم.

كيف عرف ما يدور بذهني؟ أضاف:

وعلى ذكر ما يدور بذهنك أنا لست كبيرهم، لا حاجة لنا به هنا. للزعامة، جميعنا سواسية، أطفال وكبار، هذا هو الشيء الوحيد الذي يمكنك تمييزه بعينيك. هنا ننقسم إلى أطفال وكبار، فيما دون ذلك لن تعرفي من منا أكبر أو أقل عمرا، نحن أنفسنا نسينا ذلك بعد أن خرج من دائرة اهتماماتنا. هنا لن يشي لك وجه بعمر صاحبه، انظري إلي، هل يمكن أن تتنبئي بعمري من خلال تقاسيم وجهي؟

نظرت إليه، رأيت وجها غير الذي كان يحدثني من قبل فتحت فمي مُندهشة.

أنت!؟ إنه نفس الشيخ وقد غير صورته إلى صورة جديدة}ص25.

{ وقعت في حيرة جعلتني أنتبه إلى أنى لم أعرف اسمه حتى الآن، سألته عن اسمه، رأيت في عينيه نظرة لوم، حدثت نفسي: “لقد جاء سؤالي متأخرا، لا بد وأنه قد انتظر مني أن أسأله عن اسمه منذ رأيته في غرفتي”. قال لي: حتى هذا يمكنك معرفته دون أن أخبرك به، المعارف ما هي إلا جزء من أحاسيسنا، ليكن اسمي هو تجربتك الأولى مع المعرفة، انظري إلى وجهي واتبعي قلبك. أعجبتني اللعبة، شعرت ببهجة كنت أحسها في الزمن الماضي، وأنا احاول قراءة الوجوه}ص25.

وتقدم الكاتبة خلاصة التجربة، فى الاستسلام، استسلام المرأة، واستسلام الإنسان عامة، حيث اصبحت الطيبة عيبا، فالعالم الذى نعيشه، عالم الغابة {” أنا من ترك باب الانتهاك مشرعا عندما ودعت إرادتي. ربما كان هذا ذنبي الذي استحققت لأجله هذا السجن وهذا البياض”. كانت لحظة كاشفة صدمت فيها بنفسي عندما وقفت أمامها دون ستار، لم أكن أهلا للحياة. عندما أنفقتها على من حولي، يصبح للطيبة رائحة عفنة، عندما ينتهكك لأجلها الآخرون. كنت طيبة إلى حد العطن، والعطن يترك الإنسان عودا رخروا لا يقوى على الصمود. بسبب رطوبتي أضعت حقي في المتعة، وقنص مسرات الحياة. عند هذا الحد تكورت على الفراش الأبيض، أتجرع مرارة طيبتي، وأنا أردد: أريد أن أنسى، أريد أنأمحو}ص16. وكأنى بالكاتبة تُعلن الثورة.

وسألها “عزيز الناجى عما تبحث عنه، على الأرض{ هل يرضيك أن نعيدك إلى ما كنت عليه قبل أن تُريقى دمك؟

-لا

– ماذا يرضيك إذا؟

– أن أعود إلى ما كنت عليه قبل أن أرى دماء إخوتى، الدماء التى هربت من وجهى كانت دماء الناس التى هدرت ظلما وتحملت أنا أوزارها. اعد إلى براءتى يا شيخ}ص27. وكأننا امام المسيح يُبعث من جديد، ليتحمل أوزار الناس جميعا، ولتخرج الكاتبة من الهم الخاص، إلى الهم العام.

         الصعود إلى الفردوس، لم يكن ليخضع لمجرد التصور، وإنما كانت العودة إلى الكتاب المقدس، وما يقدمه عن تلك الحياة بعد مغادرتها، أو تلك الرؤى التى جاءت بالنص القرآنى، ولم نرها، فكان الحس الصوفى أحد عناصر الرواية، وما ما يتوافق مع روحها، فتعددت الإشارات، التى يمكن فى كل منها العودة إلى النص القرآنى، فعلى سبيل المثال، الأوصاف التى تصفها الساردة، والتى يأخذها إليها الشيخ راضى، ما لا يتحقق إلا بما يتصوره المسلم للجنة.

{التوق إلى المنشود يفقدك الاستمتاع بالموجود} يقولها الشيخ “راضى” للساردة وتخشى الساردة أن تبتل ملابسها فيقول لها

{ ولكن، ملابسي؟

– دعيها تبتل.

أسدلت ملابسي، وقد وقع في نفسي أن هذا هو عرش سليمان، فالأرض التي أسير عليها شفافة وعاكسة، مثل سطح من زجاج، والمياه التي تسيل من الشللات غزيرة ومتدفقة، برغم ذلك لم يرتفع منسوبها على الأرض، كانت طبقة خفيفة ولامعة، لم تصل حتى إلى أطراف ملابسي، حيرني المكان الذي تذهب إليه، فلا يوجرد فجوات بالأرض تبتلعها، أين إذا يختفي الزائد منها؟}ص30. فنستطيع أن نقرأ فى سورة “النمل” وفى الآية 44 تحديدا والتى تقول {قيل لها ادخلى الصرح فلما رأته حسبته لُجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير، قالت رب إنى ظلمت نفسى وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين} حيث القوارير هى الزجاج. واللجة هى الماء، وهى الصورة التى رسمتها الكاتبة فى مشهدها.
وإذا كانت الكاتبة قد بدأ روايتها بالإشارة إلى الأفاعى، وانقطعت بها الصلة إلى ما قرب النهاية. فالرواية قصيرة نسبيا، ولذا فالكلمة فيها لابد أن يكون لها ثقل. الأمر الذى يجعلنا نتأمل سبب وجود الأفاعى، وفى البداية. ولكن بالتأمل يتبين أننها جاءى فى البداية، كفرشة أو تمهيد لما سيأتى بها، خاصة إذا ما تأملنا قول الرفيق المتججد والمتغير الصورة، وعلمنا أن الأفاعى من الأشياء الكثيرة التى يطارها البشر، ويسارعون بقتلها، فيبن قول الرفيق، ويبن رؤية الساردة، بانها روح، حتى لو كانت حشرة ضارة، لكنها ليست ضارة إلا عندما تشعر بالغدر، أو فقد الكبرياء، وكأنها الدرس الأول الذى يعطيه لها الشيخ “ناجى” {“إذا ظهرت أفعى في مكان غير متوقع فلا تجزعي، وراءها حتما كائن آخرر. قد تكون أما تبحث عن طعام لأطفالها، أو رجلا تنتظره حبيبة. تحب الأفاعي الحرية، وتكره من يتلصص على جحورها، لذا احرصي على تجاهلها كي ترحل بكبرياء”}ص17.

وعلى الرغم من ذلك السفر إلى عوالم غير مطروقة، فإن الساردة لم تغادر التفكير فى الأرض. ففى النهاية ، تكشف الساردة المخبوء تحت الأرض، وكأنها تستدعى الزمن الفائت، فتبحث عن أمها، وتحن إلى زمانها، زمن البراءة والمرح.

إلى جانب استدعاء أبيات الشعر المغناة، وكأنها تُشعرنا بين وقت وآخر، بان ما يجرى على الأرض، ليس ببعيد عن ما تم وصفه فى السماء. فإذا ما تأملنا بيتا مثل { لو عدت لي رد الزمان إلي سالف بهجتي}. وكأن الكاتبة تستدعى زمن الأم .. زمن البهجة، ذلك الزمن الذى كان الجد يأخذها فى أحضانه، ذلك الجد الذى فرقوا بينه وبين زوجته، وكأنه الداعى إلى النور، الداعى إلى التنوير، ولتصح الرواية.. رواية تنويرية بامتياز.
وإذا كانت “سلاسل الفيروز” هى أول رواية للكاتبة أسماء عواد، فإنها تفتح عالما من المواهب المخبأة، وتحمل الكثير والكثير من الروى، والكثير من الأساليب الإبداعية المسنحقة للوقوف والتأمل، ودافعا للنقاد أن يتأملوا، كيف أن بمصر من يستطيع أن يقف أمام دانتى ، ويوقولون هاأنذا.

………………………………………..

–  شوقى عبد الحميد يحيى- الهم السياسى فى رواية المرأة العربية- الهيئة العامة للكتاب –  2024.[1]

 – أسماء عواد – سلاسل الفيروز – دار النسيم – 2023.[2]

 -دانى أليجرى – الكوميديا الإلهية – الفردوس – ترجمة حسن عثمان – دار المعارف بمصر.[3]

مقالات من نفس القسم