رامي عبد الرازق
السينما ليست صورة فقط كما يروج معتنقو المقولة الشائعة السينما صورة زائد صوت، فالصوت (الفيلمي) هو جزء من الصورة (السينمائية) وشريط الصوت بكل مكوناته (حوار-مؤثرات-اصوات طبيعية-موسيقى تصويرية) هو جزء من عملية السرد العام لمكنون الحكاية، واستخدام او الاستغناء عن أي من عناصر شريط الصوت لصالح الصورة هو اسلوبية تختلف من مخرج لآخر، والافراط أو التركيز على عناصر صوتية معنية في مقابل عناصر أخرى بما يتفق مع سياقات العرض الفكري والشعوري هو أيضا جزء من رؤية المخرج وليس لأحد أن يتهمه بضعف الصورة السينمائية في حال اعتماده على عناصر صوتية طالما أن الفكرة التي يسعى لبثها وجدانيا تحتاج إلى هذا القدر من الأتكاء على اشكال الصوت المختلفة التي يوفرها له الفيلم وتوفرها له فلسفة الصورة السينمائية في تشكيلها العام.
يقول المخرج الفرنسي روبير بريسون “إن العين سطحية والأذن أكثر عمقا منها، فصفير قاطرة واحدة يستدعى إلى الذهن محطات قطار كاملة”، وفي الفيلم الدنماركي “المذنب” للمخرج جوستاف مولر – والمعروض ضمن برنامج الأختيار الرسمي خارج المسابقة بمهرجان الجونة في دورته الثانية – تتجلى هذه الأشارة الصوفية اللامعة ليس فقط على مستوى الشكل الذي يحمل مغامرة التعاطي مع مكان واحد، تحتجز فيه الكاميرا الشخصية الرئيسية تاركة لشريط الصوت السينمائي أن يتحمل مسؤلية الإبقاء على شاشة ذهن المتلقي مشتعلة ومنتفخة بالتفاصيل والصور، ولكن على مستوى الهارمونية التعبيرية في ان يتحول شكل الفيلم إلى مضمونه بالفعل.
يقدم الضابط المكلف بتلقي اتصالات الطوارئ على أن يخطو باتجاه المنطقة الرمادية ما بين البطل الدرامي واللابطل، فمساحته المهنية لا تتيح له سوى أن يكون مجرد حلقة وصل بين نداء الاستغاثة وبين فعل الإغاثة نفسه، هذه المساحة الفلسفية جداً والشائكة هي مساحة متحققة على المستوى المعنوي والمجازي بالنسبة للكثير من البشر الذين لا يلعبون دور البطولة في حياة الآخرين – البطولة بمعنى الفعل واتخاذ القرار- بل هم أقرب لمتلقي الأفعال والمستجيبين لها بردود فعل جزئية – مثل تلقي المكالمات واعادة توجيهها إلى الدوريات الشرطية بالشارع- ثم تحدث الازمة عندما يقرر هؤلاء أن يصبحوا أبطالاً وتراودهم الرغبة في اتخاذ القرارات دون أن يكون لديهم زاوية الرؤية والرؤيا التي تسمح لهم بخوض تلك التجربة بأتجاه النجاح والنجاة.
هكذا يصبح تواجد الكاميرا ملازمة لضابط الاتصال طوال الفيلم في غرفة تلقي نداءات الطوارئ هو موقف وجودي معنوي وليس مجرد شكل تجريبي من اشكال فيلم المكان الواحد، ويصبح الصوت الذي يأتي عبر السماعة دون رؤية التفاصيل التي تحدث كاملة بل تخيلها وبناء التوقعات والقرارات استنادا عليها وانطلاقا منها هو تعبير واضح عن فكرة نصف الحقيقة التي تواجه الأنسان في مواقف حياتية وشعورية معينة يقدم بعدها على اتخاذ قرارات أو وضع تصورات والتصرف على أساسها دون أن ينتبه إلى أن ثمة نصف آخر ربما يكون غائبا عنه تماما، ثم لا تأتي لحظة الأدراك أو التنوير إلا مع زوال الضبابية التي يبثها القدر او الحياة او الإله عن النصف الأخر، تماما مثلما يتعرف الضابط على وضع الأسرة الغريب الذي يبدو فيه أن زوجا اختطف زوجته بالأكراه واصطحبها في سيارة تاركا ابنائهم الصغار في المنزل – فتاة في السادسة وطفل رضيع- فتلك السياقات التي تبدو منطقية جدا هي سياقات مموهة تعكس بوضوح فكرة نصف الحقيقة، ولكن عندما يصل أصحاب القدرة على الفعل المادي والتدخل – دورية الشرطة التي يرسلها ضابط الطوارئ- ينكشف نصف الحقيقة الاخر- فالاب اصطحب زوجته المريضة نفسيا إلى المصحة بعد ان قامت بشق معدة ابنها الصغير ظنا منها أن ثعابين كثيرة ترقد فيها وتؤلمه وتسبب له كل هذا البكاء.
هذا التجلي الخارق أو لحظة التنوير تلك التي تنعكس من خلال اللقطة الأخيرة بالفيلم وهي وقوف الضابط أمام الباب الزجاجي لغرفة الأتصالات بينما ضوء كثيف في الخارج – تنويري- ومن قبلها تلك المكالمة مع زميله بخصوص أزمته الشخصية – اتهامه بقتل خطأ لشاب اثناء دورية شارع- هذه المكالمة وتلك اللقطة تجسدان حلول الفكرة في شكل الفيلم عبر سياق ناضج وشديد العمق والتركيز. وباستخدام مواصفات الأثارة الصوتية وتوظيف التمثيل الصوتي (الحواري) لكل الشخصيات التي سمعناها تتحدث كجزء من نصف الحقيقة ولم نرها في الواقع كجزء من نصف الحقيقة الآخر.
ينتج شريط الصوت في الفيلم عبر المكالمات قدرا هائلا من الصور الذهنية وطاقة شعورية كثيفة عبر ذهن ومشاعر المتلقي، كما تجدر الأشارة إلى أن المونتاج في هذا النوع من أفلام المكان الواحد يضطلع بثاني أكبر مسؤلية بعد شريط الصوت خاصة في ايقاع اللقطات – زمن اللقطة واتجاه القطع- كما استطاع المخرج عبر توظيف اسلوب الغائم والحاد أن يعكس مدى انعزال شخصيته الرئيسية عن المكان وغيابه الذهني والنفسي أو تورطه الحاد في حالة العجز والاحتجاز كما في اللقطة التي يكتشف فيها نصف الحقيقة الأخر فنراه في مقدمة الكادر بصورة حادة وواضحة بينما كل ما حوله غائم حتى السماعة التي على اذنه والتي تمثل جسره مع الواقع.
المذنب ليس مجرد فيلم بروح مغامرة الشكل وتأصيل فكرة أن السيناريو هو سيد الصورة السينمائية ولكنه فيلما يحمل دافعا كبيرا للمتلقي كي يراجع الكثير من مواقفه الحياتية التي كان فيها نصف بطل يرى فقط نصف الحقيقة.
…………….
*نشر في نشرة مهرجان الجونة 2018