أحـمد عبد الرحـيم
لم يكن شارلى شابلن فنانًا بريطانيًا عبقريًا فحسب، وإنما أحد رواد فن السينما أيضًا. من أجمل أعماله الفيلم الأمريكى (City Lights أو أضواء المدينة) الذى كتبه، وأنتجه، وأخرجه، وقام ببطولته، وألّف موسيقاه. فعلى الرغم من إطلاقه سنة 1931، فإنه لا يزال يثير الإعجاب، ويدعو لإعادة قراءة. إنه ثانى فيلم صامت قدّمه بعد ظهور السينما الناطقة سنة 1927، حيث كان أولها (The Circus أو السيرك – 1928)، وسيكون ثالثها (Modern Times أو العصور الحديثة – 1936)، وهى أفلام صمّم فيها على الإخلاص للفيلم الصامت عن عمد، بهدف المحافظة على سمات شخصيته المميَّزة التى ابتدعها منذ منتصف العقد الثانى من القرن العشرين، وهى شخصية “الصعلوك المتشرد” بملابسه الرثة، ومرحه المنطلق، وحسّه الإنسانى النبيل، وتقلّبه على نيران مدينة لا ترحم. دخول شابلن للسينما الناطقة سنة 1940 بفيلم (The Great Dictator أو الديكتاتور العظيم) كان إيذانًا باعتزال الصعلوك العظيم الظهور على شاشة تكلمت، وفتكت ببراءة مشاعره الأرهف من النطق.
الصمت عند شابلن ضلع أساسى من أضلاع شخصية هى أقرب للطفل الذى يعيش مُتلاطمًا فى عالم من الكبار، وتظهر رقته فى عالم أثيرى من النغمات أسمى من أى كلام ينطقه، للدرجة التى جعلت شابلن يرفض تمامًا أن تَكبُر هذه الشخصية إلى حد “النطق”، وتتمرد على ملمح صار مُكمِّلًا لسموها. إن الصمت كان عالم هذا الصعلوك البرئ، والموسيقى هى الصوت المُعبِّر عن كل شىء يدور حوله، ويعتمل فى نفسه، لاسيما عندما تجىء مُؤلّفة بيد شابلن شخصيًا.
فى (أضواء المدينة)، نتابع مشاعر الصعلوك المتألقة تجاه فتاة تعيش ظلامًا متصلًا، حيث أن بصرها مُهدَّد بالضياع، مُحاولًا بث بصيص من النور هو نفسه نور طهره، تجاه من تظنه خطأ أحد الأغنياء المحبين للخير، فيضحى كثيرًا كى ينير نقطة فى ظلام هذه المدينة، ليعمل كناسًا، ثم ملاكمًا، ويقترض من رجل ثرى، ثم يهرب بعدما تظنه الشرطة لصًا سرق ذلك الثرى، إلى أن ينجح فى مسعاه بعدما مَنَح كل ما يملك لمحبوبته، تلك التى تتعّرف عليه فى النهاية، لتتأكد أن الغِنَى لم يكن سوى غِنَى قلبه المفعم بالحب، وأن الثراء كان ثراء ذلك الذى يمنح بلا مقابل حتى يكاد يَفنى هو شخصيًا، وإن كانت أضواء المدينة تعمينا أن نبصره داخلنا، أو خارجنا.
هذا المتشرد الأنبل يخوض ذلك الصراع فى فصول بها من السخرية ما يفوقها من المرارة؛ وهو دستور كوميديا شابلن الإنسانية، التى تُراقص أحزاننا لكن دون أن تذل عجزنا، أو تُهين آمالنا، وتداعب أحلامنا لكن دون أن تُسكرنا بنشوى كاملة تجافى الواقع، أو تمنح البطل ما يعوزه كى يستحق ما نرغبه فى حلم مخادع يفرِّغ انفعالاتنا بخبث. لذا، فى نهاية هذا الفيلم، كان شابلن أذكى من الوقوع فى فخ الحسم، أو مصيدة العمر القصير للعمل الفنى، لو حلَّ المشكلة بما يرضى المشاهدين؛ لقد عرض لنا بطله وقد أبصرته محبوبته لأول مرة بهيئته الحقيقية المتشردة، فهل ستقبل أن تحبه كالضوء الوحيد الحقيقى وسط أضواء المدينة الكاذبة؟! مجرد ترك هذا السؤال بلا إجابة يضيف أعمارًا إضافية إلى هذا الفيلم.
عبّر شابلن موسيقيًا عن المتشرد وعالمه بصدق وشفافية، على نحو ولج إلى قلوب وعقول المشاهدين، بحثًا عن روح هذه الشخصية فيهم، وإيقاظًا لإنسانيتهم. لقد شكّل شخصيات، وميّز أحداثًا وعلاقات، وحدّد أماكن وأزمنة؛ كل هذا بالموسيقى. كذا استخدم السكتات وسط موسيقاه تعبيرًا عن أهم اللحظات فى حياة بطله، وأعمقها تأثيرًا. لست متخصصًا فى مجال الموسيقى، لكنى سأحاول – قدر إمكانى – عرض الدور الذى لعبته فى هذا الفيلم، إلى جانب دور الصمت أيضًا، وكيف كان كلٌّ منهما مبدعًا ممتعًا فى دوره.
أولًا – الثيمات الموسيقية المُمَيِّزة للشخصيات:
أ) ثيمة شخصية المتشرد:
تبدو دائمًا كموسيقى رقصة قد تكون رقصة تصعلكه العبثى على جدية الأحداث، وتملصه من مصيبة لأخرى فى زئبقية لا تنفصل وشخصيته، وعُبِّر عنها فى كمان متسارع طريف، يعترضه، أو يعلّق على سرعته، آلات نفخ لا تتمكن من إيقافه غالبًا، مُجسِّدة جدية الواقع، ومطاردته له، ونجدها بالعمل فى 4 مشاهد:
1_فى المشهد الأول، عند إزاحة الستار عن تماثيل تجسِّد قيم الوئام والرفاهية فى أكبر ميادين المدينة، نرى وسط الاحتفالية الجادة أكثر ما يهدِّد جديتها، ويكشف زيفها: المتشرد! فهذه القيم – التى سنراها مذبوحة طوال الأحداث – عجزت عن توفير عمل، أو مأوى، لهذا الذى ينكشف من تحت ستارها، نائمًا فى تلذّذ عليها، ومن خلال الكمان والإيقاع السريع وآلات النفخ الكاظمة الغيظ، نتابع المتشرد وهو يحاول النزول من على التماثيل بأسلوب مضطرب ينال ضحكاتنا على هذا الذى “شرّد” أهمية الافتتاح!
2_نسمع الثيمة ثانية عند محاولة المتشرد المستميتة لإنقاذ الرجل الثرى من الانتحار؛ فهذه الموسيقى التى تعكس تشرد البطل، حينما تصاحب اجتهاداته فى الإنقاذ، تعد تفخيمًا لشخصه البسيط الذى نال الاستهزاء والوعيد منذ قليل، وتبرِز نبله حينما يرفض مشاهدة رجل ينهى حياته بيده دون التدخل لإنقاذه.
3_تتردّد الثيمة فى بطء عندما يعمل المتشرد كنّاسًا لتوفير نقود لعلاج حبيبته، وعند إقترابه مرّة أخرى من تماثيل الافتتاحية التى تُناقِض بفخامتها تشرده، أو تحكم عليه بجمودها أن يلاقى هذا المصير.
4_عقب هزيمته فى مباراة الملاكمة، وفقدان الأمل فى توفير النقود لإنقاذ بصر حبيبته، يعود إلى الشوارع حائرًا ضعيفًا، لتتكرّر ثيمته الموسيقية كمعادل لضياعه، وتعبيرًا عن صعلكة تلازمه كظله، وإن وشت بأمل يحاول التحرُّر من اليأس الطاغى.
ب) ثيمة شخصية الفتاة العمياء وعلاقتها بالبطل:
هذه الثيمة هى الوحيدة التى لم تكن من تأليف شابلن بشكل كامل، فموسيقاها الأساسية من تأليف الموسيقى الإسبانى جوزيه باديلا، وهى عبارة عن مقطوعة رقيقة مؤلَّفة للبيانو تجسِّد رهافة ونعومة حضور بائعة الزهور العمياء، ثم تتطوّر للتعبير عن مراحل عشق البطل لها:
1_عندما يراها البطل لأول مرة، نسمع كمان مع آلات إيقاعية تُبِرز ضجيج الشارع، ثم سرعان ما يتوحّد الكمان مع شعور البطل المتطلّع لهذه التى سرقت انتباهه كزهرة وسط أحراش المدينة، فينفرد الكمان مع قيثارة تجسِّد رقتها فى التعامل مع طفل وعصفور. يشترى المتشرد منها زهرة، لنسمع كلارينيت عميق النبرة يعرب عن إحساسه وقد بدأ يتأصل.
2_تتردّد ثيمة الفتاة حين طرد المتشرد من قصر الرجل الثرى، وذلك قبل أن يبصرها، وكأنه الشوق لعبيرها فى هذه اللحظات القاتمة. وتستمر الثيمة مع رؤية المتشرد لها فى كلارينيت عميق يفضح مشاعره تجاهها، وفلوت سريع جسّد اختطافه لبعض النقود من صاحبه رغبةً فى مساعدتها ماديًا. يعود كلٌّا من الكمان والقيثارة ليصوِّرا فى موسيقاهما المميَّزة دهشة الفتاة لصوت السيارة التى يقودها البطل (سيارة الثرى فى الأصل)، وتتواصل مع القطع على منزلها، لنسمع الكمان المنفرد يردِّد إحساس المتشرد بالانتماء إليها، ثم يُصاحبه أكثر من آلة كمان لتعزيز هذا الإحساس.
3_تعلو الثيمة بكمان منفرد والبطلة تناجى حلمها وحيدة فى شُبّاكها، وفى لحظة مفعمة بالشجن يطالعها المتشرد من بعيد وهى غير شاعرة بوجوده، حتى وقوع إصيص الزرع فوق رأسه؛ وهى عادة شابلن فى عدم الاستغراق فى حالة شجن طويلة، وقطعها بابتسامة تفرِّج الحالة الوجدانية للمشاهد قبل انغماسها فى القتامة.
4_تتكرّر ثيمة الفتاة لتكشف حضورها رغم غيابها، عندما يلاحظ البطل اختفاءها من مكان بيع زهورها. الكلارينيت يتتابع مُصوِّرًا قلقه مع كمان ناعم حين يرى – مُتلصصًا من شباك منزلها – الطبيب والأدوية. إنه كمان رائع يرثى عجزه عن فعل شىء لها بفقره، مشحون بالآلات الإيقاعية والكلارينيت المُتحفظ؛ تمهيدًا ذكيًا لإقباله على العمل فى وظيفة كناس كما سيظهر فى المشهد اللاحق.
5_تتألق الثيمة مع استردادها لصحتها، ويتمازج كمان منفرد مع كمانجات عديدة عندما يساعدها البطل فى نسج التريكو، ونجد دقات كمان مُحذِّرة عندما تبدأ – بلا وعى منها – فى أخذ الخيط من صديريته، وعند صمته لهذا الخطأ واستسلامه لها يقدّم صورة لطيفة للتضحية، وعند تشغيله للفونوغراف تظهر أنغام كمان هادئ مُعادل للعلاقة التى تجمعهما.
6_عند تخيّل البطل لها خلال مباراة الملاكمة، التى يخوضها ليكسب مالًا ينقذها من العمى، ليشهدها تبصره لأول مرة، وتهديه زهرة؛ إنها تعيش فى خياله، ويتصوّر حبها دافعًا له. هذا الجزء يقطع استمرارية موسيقى المباراة بالثيمة الرومانسية المميزة عبر كمان ناعم، وقيثارة تنغِّم نبضات قلبها الذى يفتقده.
7_تكتسب الثيمة تطورًا بديعًا بتطور الحدث، فبعد أن يعالِج المتشرد الفتاة بالنقود التى أُتهم بسرقتها، ويدخل السجن بسببها، نراها لاحقًا مُبصرة تعمل فى محل تملكه، وهو صار أكثر بؤسًا وتشردًا، ثم تصادفه وهى لا تدرى حقيقة شخصيته؛ ليرثى الكمان حاله. لكنه عندما يراها، تحدث السكتة التى تبرز مفاجأته، لتهلّ موسيقى حبه بعدها عبر الكمان والقيثارة، بجوار ضحكها على هذا الذى يحدق بها مبتسمًا. ثم يكشف الكمان شخصيته فى لحظة استبصارها دراميًا به بعد ملامسة يده، ليختم الفيلم هادئًا كنظرة شابلن وهو يؤكد لها أنه هو من تعتقده. فى هذا المشهد الختامى المُعجز، استطاعت الموسيقى – مع عيون شابلن التى تحبس دموعها، وتغالب مرارتها، بقوة منهكة – أن تشى بكل هذه الفرحة (لرؤية حبيبته له لأول مرة)، وكل هذا الألم أيضًا (لذهولها من حاله المزرى)، لينتهى الفيلم بيأس هذا الصعلوك فى مقابلة أمل العالم وحبه، عبر ابتسامة تصارع ما يبدو قدرًا محتومًا.
ج) ثيمة علاقة شخصية الرجل الثرى بالبطل:
اختزل شابلن العلاقة بين الأغنياء والفقراء فى المجتمع الرأسمالى عبر العلاقة المضطربة بين المتشرد والثرى مدمن الكحول والانتحار، فالأخير له شخصية طيّبة لا يلاقيها إلا ليلًا عندما تخفت أضواء المدينة، ويرى بوضوح حياة النفاق الاجتماعى، والفراغ الروحانى، التى تدفعه للانتحار، وساعتها – فقط – يتعرّف على المتشرد، ويحب نصاعته، ويستمتع بصداقته. لكن سرعان ما تنهار العلاقة بمجرد بزوغ الشمس، التى توقظ وعى الثرى بمركزه، لتعميه أضواء المدينة من جديد، ويعود عبدًا لطبقته، جاهلًا بشخصية المتشرد، غير مبالٍ به. إنه تكرار لأزمة بطلنا بصورة مختلفة؛ فبائعة الزهور تعانى العمى “البصرى” لتخفَى عنها صورة البطل، والثرى يعانى العمى “الاجتماعى” لينكر صداقة البطل ويستنكر وجوده، وقد تعانى بائعة الزهور ذلك العمى ذاته لو رفضت البطل بعد رؤيته لأول مرة فى النهاية. أى أن هذا المسكين يَعمى عنه الجميع لأسباب مختلفة أولها فقره المادى، ومهمته – طوال الوقت – محاربة الظلام الذى تقاسى منه محبوبته، والآخر الذى يقع فيه الثرى كل صباح، لتتجلى لنا السخرية المريرة فى عنوان الفيلم؛ فالعمل ليس عن “أضواء المدينة”، وإنما – فى الواقع – عن ظُلْمَاتها.
جسّدت الموسيقى ملامح هذه العلاقة المزدوجة الشخصية، من ناحية الغنى تجاه الفقير، فى عدد من المواقف المختلفة:
1_يُصاحِب المتشرد فلوت خفيف كخفة روحه عند رؤيته لهذا الراغب فى الانتحار. تعلو أصوات الكمان عند موعظة المتشرد له كى يتمسّك بالحياة، لكن الكمانجات تتشنّج وتتسارع لتوحى برعب اللحظة عندما يقفز الرجل فى النهر، وتتردّد ثيمة المتشرد المميزة تعبيرًا عن شخصيته وهى تؤثِّر إيجابيًا فى شخصية الرجل الآخر، وتهديه النجاة، تأكيدًا أن هذا الصعلوك الفقير يحمل بين جنباته بطلًا. ينتظم الكلارينيت مع آلة نفخ فخورة بما فعله المتشرد عند مصافحة الثرى له شكرًا.
2_يؤكّد شابلن أن الأغنياء والفقراء سيان أمام اليأس عبر دقة عشوائية على البيانو لحظة وقوع رأس الثرى عليه مترنحًا فى بيته، ثم قيام المتشرد – لاحقًا – بالحركة نفسها مخمورًا أيضًا. عند إقدام الثرى على محاولة انتحار جديدة بالمسدس، نسمع آلة النفخ المُحذِّرة، ودقات الإيقاع المُنبِّئ بخطر، وصولًا لانطلاقة نشوة فجائية للثرى، يتزاوج معها الأوركسترا كله، احتفالًا بقرار الذهاب إلى الملهى، لقضاء الليلة بعيدًا عن الموت.
3_موسيقى الملهى الزاعقة، وإيقاعها المهتاج؛ حيث آلات نفخ فى جمل قصيرة، مع دقات كمان وبيانو متلاحقة تجسِّد فوضوية المكان، ثم إيقاع لاهث تدعمه الفرقة الموسيقية عند تقديم رقصة ڤالس جنونى السرعة. يمتزج هذا، عبر الكمان وآلات النفخ وآلات الإيقاع..، مع المشاجرات التى تندلع بين البطلين ورواد الملهى، فى إيقاع سريع يعكس مرح المكان، وغليظ مثل عنف رواده.
4_تتردّد الثيمة السابقة بطيئة فى بيت الثرى، عندما يفشل المتشرد فى تذكير صاحب البيت بنفسه وهو يفيق من سُكُره صباحًا، حيث محاولة استعادة ملامح الأمس القريب لكن فى إيقاع مُخالِف فرضه اختلاف اللحظة، وتبدل الشعور بتبدل الوعى، مع نهاية حزينة ترثى العلاقة. وعند اكتمال طرد البطل، نسمع دقة إكسليفون أخيرة كعلامة تعجّب أمام هذا الإخلاص للأغنياء، ثم تنكُّرهم للفقراء إذا ما فارقهم يأسهم؛ وكأنه اختصار للوعود المعسولة لرجال الطبقات العليا، التى ما إن تواجهها شمس الصباح حتى تذوب مُنتهية!
5_عندما يتذكّره الثرى قبيل النهاية، مخمورًا بالطبع، نسمع الكمان مُتدفقًا مع فلوت يشى بأمل المتشرد الباحث عن نقود ضرورية لحبه، لكن تحت الجلد نشهد آلة نفخ مُحذِّرة مع نظرات المتشرد القلقة من صديقه متقطع الوعى هذا، إلى جانب دقات كمان متباعدة كنبضات توتر المتشرد من إفاقة صديقه من صداقته.
د) ثيمات شخصيات أخرى:
يهزأ المتشرد من السلطة، ويهزأ شابلن – من ورائه – من جديتها ووقارها وشعاراتها الجوفاء التى تحاصر صعلوكه، واعدة إياه بإنقاذ لا يتحقق، وعدالة لا يقابلها. يظهر ذلك فى موسيقى شابلن الدرامية، حين تعبيرها عن عدد من الشخصيات هى بالتأكيد أكثر قوة وأعلى مرتبة من بطله، لكنها لضعفها العقلى أو الروحى تبدو من منظاره مثيرة للتهكم:
1_المحافظ ورئيسة الجمعية المُشرِفة على بناء تماثيل القيم المجتمعية العظيمة: عند خطبتهما الطويلة قبل إزاحه الستار عن خلاصة زيف هذا المجتمع وقِيَمه الوهمية، نسمع صوتيهما مُجسَّدًا عبر آلة نفخ تمثِّل كلامهما “الفارغ” بنغمات عشوائية متقطعة تهزأ من بلاهة مجهودهما، وتنتج مفارقة كوميدية جارفة الضحكات لاسيما مع جديتهما الشديدة.
2_رئيس المتشرد فى عمله ككنّاس: يؤدى الكمان السخرية نفسها عند بلع هذا الرئيس قطعة صابون كان المتشرد قد وضعها بالخطأ بدلًا من ساندويتش الرجل. توعُّدات الرئيس بعدها، وغضبته العارمة، تخرج كفقاقيع من فمه يتابعها كمان ساخر ذو دقات مسرعة كإيقاع الإسكتش، وسرعة هروب المتشرد من العقاب. شابلن هنا يسخر من السلطة أيا كانت، بل من “الكلام” ذاته!
3_صاحب حلبة مراهنات الملاكمة: يصاحب دخوله آلة النفخ العميقة التـوبا. غالبًا كل الأغنياء، أو أصحاب السيادة، فى عالم المتشرد التعس ضخام الجثة، صغار العقل، إيقاعهم عميق ذو رنة مخيفة، كما أنهم متثاقلو الحركة فى بطء صوت التوبا، وداخلهم أجوف مثلها أيضًا.
ثانيًا – الثيمات الموسيقية المُمَيِّزة للأماكن:
تحديد الزمان والمكان فى عمل غير ناطق لا يتوافر إلا فى حدود بصرية ضيقة أضعفها بالطبع لوحات الكتابة التوضيحية بين كل مشهد وآخر، لكن شابلن لم يلجأ إليها كثيرًا لبراعته فى تصميمها صوتيًا.
أ) ثيمة بيت الرجل الثرى:
تتمازج الموسيقى مع الصورة السينمائية لتؤكد ملامح المكان، فالكمان رصين فى تتابع دقاته كأننا أمام مقطوعة كلاسيكية مُحافِظة، والتشيللو العميق ينضح بالجدية، والإيقاع الثابت يعكس نظامًا يفرضه المكان على من فيه. تتكرّر هذه الثيمة الموسيقية قبيل هجوم اللصوص على المنزل قرب النهاية، لكن مع دقات طبل مُحذِّرة.
ب) ثيمة حلبة الرقص:
1_الموسيقى الهائجة فى فوضوية، بصحبة إيقاع ساخن، منشورة على الحلبة المزدحمة، خلال استغراق البطل وصاحبه فى سكرهما، وعربدة المكان بشكل عام، ويتردّد إيقاع الرقصة بآلات نفخ، وبيانو لاهث.
2_تتكرّر الثيمة فى ضمير المتشرد، عبر إيقاع أبطأ، حين محاولات تذكيره للثرى بشخصيته، كإحياء لذكريات الأمس الصاخبة لكن بلا جدوى.
3_تتردد الثيمة مرّة أخيرة مع دخول المتشرد لحلبة الملاكمة، غالبًا لإظهارها كحلبة رقص لكن من نوع آخر، لاسيما مع تراقص المتشرد بالفعل مترنحًا فى هذا المشهد الكوميدى الطويل، أو لإظهار شهوة البشر فى مشاهدة الرقصات، والملاكمات الدموية، سواء بسواء.
ج) ثيمة حلبة الملاكمة:
1_هى موسيقى تغلى كرقصة الملهى، خاصة عند الدخول لكواليس تدرب الملاكمين. جو المكان يُناقض وداعة البطل، ويُجسِّد قِيَم الشراسة من حوله. يعلو الإيقاع عند تدربه الخاطئ بقفازات الملاكمة، مع آلات نفخ قد تجسِّد عضلات “منفوخة” حوله لا يملكها!، وتعلو دقات الكمان لتعكس توتره وخوفه عند هزيمة ملاكم كان اتفق معه على الانهزام بلا أذى مع اقتسام الربح.
2_آلة الصنج تبرز عند دخول المتشرد للحلبة مع خصمه الضخم تأهبًا للمعركة، وتصويرًا لحماس جمهور مهتاج، متعطش للعنف.
3_النفير يعادل نداء بداية أشواط المباريات فى جملة واحدة متصلة تكرّرت أكثر من مرّة، بل تكرّرت ببلاغة فى مشهد القبض على المتشرد كلص لاحقًا، فعند دخوله سيارة الشرطة نستمع فى وضوح إلى نداء بداية المباراة؛ لكنه هذه المرّة نداء عنف حلبة الواقع رغم نبل مقصد البطل، وإظهار لسيادة قانون القسوة خارج مربع الملاكمة.
ثالثًا – الثيمات الموسيقية المميِّزة للزمان:
أ) استخدم شابلن أجراس الكنيسة تعبيرًا عن ولوج الصباح للحدث أكثر من مرّة:
1_دليلًا على حلول الفجر بعد ليلة سهرة الثرى والمتشرد فى الملهى.
2_قبيل استيقاظ الثرى على فراش يجد به صديقه المخلص الذى يرفضه.
3_تكرّر الأمر فى استيقاظ جديد يحسم أمر طرد المتشرد نهائيًا.
4_عند سرقة المتشرد للنقود كى يعالج الفتاة عقب مطاردة البوليس له؛ هنا يتمازج معه الكمان والقيثارة المميزان لعلاقته بالفتاة.
ب) عقب القبض على البطل وإيداعه السجن، تتساقط أوراق تقويم سنة 1930 مع موسيقى تعبِّر بآلات عديدة متنوعة عن تقدم الزمن، ونسمع وسطها آلات إيقاعية وبيانو تتداعى نغماته مع تساقط الأوراق / الأيام.
رابعًا – الثيمات الموسيقية المُمَيِّزة للحدث:
هنا الموسيقى تعطى للحدث / المشهد وحدة واحدة:
1_عند انغماس المتشرد والثرى فى الخمر ببيت الأخير، نسمع موسيقى المكان المميَّزة الرصانة، لتُناقض عبثية ما يقومان به من أفاعيل سكارى، وهو ما حقّق مفارقة ساخرة.
2_موسيقى مباراة الملاكمة: الفلوت مع الكمان عبّرا عن سرعة المتشرد، ورغبته فى التملّص من الضرب، هربًا وراء جسم حَكَم المباراة، لكن الموسيقى تظل فى إيقاع واحد رتيب طوال المشهد – باستثناء حلم المتشرد بحبيبته المذكور سابقًا – بشكل لا يقطعه سوى دقات جرس نهاية الجولات. عدم تغيّر الثيمة أو إيقاعها، رغم حيوية المشهد بصريًا، قد يكشف عن رغبة شابلن كمخرج فى أن يكون صوتيًا فى حياد الحَكَم، تاركًا الإحساس الضاحك مُنطلقًا إلى عين الجمهور، فى تحرّر بصرى لا يلزمه أى تعليق هازئ على شريط الصوت، كأنه ينتصر لرحابة الصورة السينمائية وشفافيتها، بحيث يبدو الصوت بجوارها زائدًا أو مُكمِّلًا فى ضعف.
خامسًا – السـكتــات:
تضمّن الفيلم على شريطه الصوتى 16 سكتة وسط موسيقاه، ربما لالتقاط أنفاس العازفين والجمهور أيضًا، كذا لإراحة الضغط الدرامى للحدث صوتيًا، إلى جانب لحظات بعينها تجىء فيها السكته كأفضل “موسيقى تصويرية” فى تعبيرها؛ سواء عن ذهول ما، أو مواقف إنسانية عميقة العاطفة:
أ) لحظات الذهول الصامتة:
1_عند مواجهه بطلنا القصير لعامل طويل تشاكس معه مبكرًا؛ هذه السكتة عبَّرت عن مفارقة الموقف الكوميدى، وسخرية المتشرد من ذاته الأضعف من مواجهه هذا الغاضب الضخم.
2_عند ثورة الثرى فى منزله، ومعاودته محاولة الانتحار.
3_عند إطلاق الثرى لطلقة نارية فى محاولة انتحار جديدة تفزع المتشرد.
4_عند بلع المتشرد لصفارة وسط حفلة للطبقة الراقية، وتردُّد صفيرها بما أزعج مطرب الحفلة بنشاز متكرر.
5_عند عودة المتشرد للحفل ذاته مع كلاب عديدة انجذبت قسرًا لصفارته المنبعثة من بطنه.
6_عند دخول الملاكم، الذى اتفق المتشرد معه على صفقة ما، وقد انهزم فاقدًا الوعى، لتضيع الصفقة!
ب) لحظات توهج المشاعر؛ فى ألم الوحدة، أو فرح التوحد مع المحبوبة:
1_عند خروج الملاكمين من حجرة التدرب، وبقاء المتشرد وحيدًا مذعورًا، غريبًا عن المكان والموقف.
2_عندما أمسك يد الفتاة لأول مرة، ليقبّلها وداعًا فى توهج شاعرى.
3_عودته من الحلم بها فى – حلبة الملاكمة – إلى الواقع وحيدًا بدونها جواره.
4_فك حبل جرس الملاكمة عن رقبته كتخلُّص جزئى من مأزق الصراع مع الملاكم الشرس.
5_طرده مرّة من قصر الثرى على يد خادم غاضب لوجوده.
6_طرده النهائى من قصر الثرى.
7_القبض عليه كسارق لنقود الثرى.
8_خروجه من السجن أعنف بؤسًا، معانيًا سخرية أطفال الشارع.
9_رؤيته لحبه أخيرًا من وراء الزجاج، حيث عبّرت السكته عن مفاجأته لرؤية الكائن الوحيد الذى يعشقه بعد طول عذاب، وكانت اللحظة سينمائية خالصة فى تجسيدها لافتراق الحبيبين وانفصالهما عبر حاجز زجاجى؛ كأنه سجن هذا المجتمع لنفسه بعيدًا عن فطريته.
10_نطقه عبر لوحة مكتوبة على الشاشة: “أنـا!”، مُؤكِدًا للفتاة أنه المُحسِن الثرى الذى عطف عليها واختفى. وقعتْ السكتة لذهول الفتاة، ولأقصى توحد حقيقى بين البطل وحبه؛ وإن جاء متأخرًا فى وقته، لاذعًا فى صراحته.
=
وهكذا، فإن الموسيقى فى هذا الفيلم، أو عدمها، هى الحوار، والمؤثرات، وسمات الشخصيات، وأجواء الزمان والمكان، وحالة الحدث والمفارقة معه.. إلخ. إن شريط الصوت عند شابلن، لاسيما فى أفلامه الصامتة، دومًا بطل لا يقل قوة عن نصه المكتوب، بل إنه جزء لا يتجزأ من هذا النص نفسه، وإن كان قد كُتِبَ فى هيئة موسيقى قادرة على التعبير عن أفكار ومعانى العمل، ببلاغة ورقّة وسخرية. لذا فهى ليست موسيقى بقدر ما هى دراما، ورغم بساطتها البادية فإنها نموذج للريادة، وغاية فى الإبداع.
………………….
نُشرت فى مجلة الثقافة الجديدة / العدد 266 / نوفمبر 2012.