كنت واعيا من البداية لفكرة التجريب الروائي. لم أرغب في كتابة رواية واقعية تقليدية، بقدر ما انشغلت بالبحث عن شكل جديد للرواية، أو ربما عن أسلوب جديد للسرد، وهكذا، اخترت في كهف الفراشات المزج بين تفاصيل حياة أو خبرة شاب يعاني من فشل علاقة عاطفية فيرحل إلى “شرم الشيخ ” للاستشفاء والنقاهة، وفي مستوى آخر يتوازى بالتتابع تناولت أحداث رحلة شخص آخر إلى عالم غامض في كهف مجهول الموقع، يبحث فيه الراوي عن أسئلته الخاصة عن الحب والحياة.
وبينما كان الجزء الواقعي يعتمد على الذاكرة ومحاولة بناء عالم مدينة شرم الشيخ، في شكلها البدائي الأول، كما كانت عليه في الثمانينيات، من تفاصيل واقعية، فإن الجزء الخيالي في الكهف، اعتمد على الخيال وتخليق صور منبثقة من الواقع لكنها لا تنتمي للواقعية؛ فراشات تتحول إلى بشر مثلا، أصوات غير معروفة المصدر، وموسيقى سرية لا يعرف أحد من يعزفها، أو بحيرة باطنية تنبثق في عمق الحجر. فاتنات يبدون كأنهن شخصيات أسطورية أو مسرحية، وغيرها.
انبهرت بظاهرة الواقعية السحرية التي شغلتنا آنذاك بوصفها صرعة جديدة حققت بها أمريكا الجنوبية شخصيتها الروائية، وتميزها على الرغم من وربما رغم أنف المركزية الأوروبية الروائية. تابعت ماركيز وجورج آمادو، وبعض أعمال اليابانيين وخصوصا رواية كوبي آبي “امرأة في الرمال”، وانتبهت لتجربة “صخب البحيرة” للروائي المصر الراحل محمد البساطي. كنت معجبا بها كرواية نموذج للواقعية السحرية، مع ذلك كان هناك ثمة إحساس غامض تجاهها لم اتمكن من وضع يدي عليه إلا بعد فترة حين تسرب إلي وعي ما بأن أجواء النص، فصحيح أنه يدور في بحيرة مصرية، ومكتوب ببراعة، وبإيقاع هادئ مكثف، لكنه يبدو عملا غريبا، بمعنى أن ثمة استعارة من أجواء اخرى ومحاولات لتمصيره.
وفكرت أن صياغة أسلوب يجمع العجائبي أو الغرائبي بالواقعي وبحيث يبدو عربي الطابع هو ما ينبغي أن أبحث عن وسيلة لصياغته، وأظن أن قصة “قمر” في مجموعتي القصصية الأولى “باتجاه المآقي” كانت أولى إرهاصات هذه الأفكار، بأدواتي البدائية التي امتلكتها آنذاك، ثم صغتها بشكل أكثر تماسكا، متأثرا من حياتي في مسقط بسلطنة عمان خلال تلك الفترة، مستلهما أجواء تأخذ الطبيعة فيها ثقلا كبيرا، وتلعب علاقة البشر بالطبيعة دورا مهما في أجواء تفيض بالجبال والكهوف، وكتبت قصة “فراشات” التي أنهيت بها مجموعة “باتجاه المآقي”، وبدأت بها عملي الروائي الأول “كهف الفراشات”.
لكنني خلال كتابة الجزء الخيالي في هذه الرواية، تبينت فكرة المتاهة، ففي كهف أسطوري مختلق كانت الفرصة متاحة لوصف تفاصيل داخل مكان معتم، لكنها لا تصنع مكانا حقيقيا في النهاية. مكان يبدو مرسوما بقلم سحري تذوي خطوطه بين آن وآخر. مسارات الراوي تبدو في النهاية كمسالك لا يمكن أن يتتبعها أحد. أقصد أنها طريق طويلة يسلكها الفرد مرة واحدة لكن لا يمكن له أن يعود إليها مرة أخرى، فهو بالكاد يتكشف ما يذهب إليه، أما ما يمضي فينتهي كأثر، لا يمكن تتبعه، يصبح ماضيا مكانه الذاكرة فقط.
ومن جهة أخرى فقد حقق هذا البناء الخيالي أو الأسطوري، ما ابتغيته، كشرط أساسي للكتابة وهو محاولة اجتناب الواقعية، والتعامل مع الرواية كبناء سردي يحاول أن يتعالى على أو يهبط إلى ما دون مستوى الواقع، المهم ألا يتماثل معه، كرمز لقاموس فني لفهم الواقع الملغز.
مع الوقت واكتشافي أن الحياة ومساراتها معقدة، وأن البشر مجموعات من أفراد بالغي التركيب النفسي بما يفوق كل ما تخيلت أو تصورت، أدركت أنني لا يمكن أن أجد في الرواية ذات البعد الأحادي متصاعدة الأحداث وسيلة مناسبة للتعبير الفني عن تعقيدات الحياة والأسئلة الوجودية والإنسانية، إضافة إلى يقيني، الذي كان ينبني تدريجيا، بأن ما قد يتصوره كاتب ما خيال وغير مسبوق سيجد غالبا أن فردا ما، وهذا الفرد في الحقيقة مجاز يمثل مئات أو آلاف آخرين، قد مارس هذا الخيال في الـ”الواقع”. السلوكيات العجائبية، غرابة الأطوار، الشذوذ العقلي، الحيل النفسية الواعية وغيرالواعية، الجرائم، الخبرات العاطفية والجنسية، الفانتازيات الجنسية وسواها. أدركت أن الكاتب يمكنه فقط أن يدون سلوكا أو خبرة يتوهم أنها محض وهم روائي انبثقت من خياله، بينما يسجل، سواء عرف ذلك أم لم يعرف، ما يحدث في منطقة ما في العالم على يد بشر قد لا يلتقيهم أو يعرفهم من الأساس.
كنت أشعر بالغثيان من الأشخاص الذين يتحدثون كأنهم يعرفون كل شيء، ويسلكون مسلك العارفين والحياة لديهم قول واحد: يخططون لكل التفاصيل ويسيطرون على مصائر حياتهم. ثمة شيء غير بشري أو إنساني في مثل هذه السلوكيات. أقصد أن فهمي للنفس البشرية التي ترفع شعارات المثالية بينما تخفق في تطبيقها دوما هو ما يجعلني أتحسس من تلك النماذج. وأيضا لم أر أن نماذج من هذا النوع، وبهذا القدر من ادعاء المثالية، يمكن أن يمثلوا كشخصيات “روائية” على اعتبار أن فن الرواية، في النهاية مشغول بتفنين الأسئلة الوجودية، بالشك، باللايقين، وبالشخصيات التي تتجاوز القوانين التي يعترف بها الواقع بقوانينه الاجتماعية المقيدة. فن مشغول بأوهام الناس عن نفسها، وبمتاهات العالم : بمتاهات الأفكار والتاريخ والأشخاص.
مع هذا الفهم الذي كان يعتمل في وعيي بينما أكتب روايتي “ابتسامات القديسين” و”جنية في قارورة” كنت أحتشد فيما أظن لرواية متاهة حقيقية.
طبعا في ابتسامات القديسين كان موضوع الطائفية قد فرض معالجة سردية ينبغي أن تتكئ على الواقعية أكثر كثيرا من الخيال، لكني حاولت إضفاء لمسة الواقعية السحرية عبر صوت طيف أو شبح ميت، هو عماد، المسيحي الذي توفي صبيا وعادت روحه لتتفقد واقع حياة اقرب أصدقائه رامي وكريستين. ثم بتداخل صوت طيفه مع مذكرات صديقه رامي، بالإضافة إلى مونولوج داخلي لشقيقة رامي التوأم “نادية”، التي كانت تمتلك القدرة على الإنصات لوعي أخيها ولو كان على بعد أميال.
أما المتاهة كتصميم روائي فقد بدأت مع أبناء الجبلاوي. لم أرغب في الكتابة عن المتاهة، بل بناء رواية متاهة. رواية داخل رواية، وسرد داخل سرد. شخصيات تسلم بعضها لبعض، ووقائع مختلقة ترمي بظلالها على ما يطلق عليه الواقع. من منطلق أن الواقع الفعلي المعاش أصبح يبدو ككابوس لا يمكن لعاقل أن يصدق أنه يعيشه في حياة واقعية تماما. أن ابني المتاهة من دون أن أذكر الكلمة.
كان جانبا من الطموح أيضا تراكم خبرتي من منطلق استكمال مشروع السرد المتوازي، لكني هنا قررت أن أقطع شوطا أبعد باختلاق مسارات تلتقي تارة وتتباعد تارة حتى يظن القارئ أنها لا يمكن أن تلتقي. لكني كنت أراهن على قارئ أكثر وعيا ينتبه للخيط الضمني الذي يربط ما يبدو متباعدا في عالم كوكبي تشتبك فيه الأسباب والنتائج بشكل لم يعد من السهل فك أسرار ارتباطه ببعضها البعض. حتى لو تمكن من إنتاج تأويلاته الإضافية التي قد لا أكون قد قصدتها.
فالنص وفقا لأمبرتو إيكو، وهو تعريف يروق لي كثيرا: “جهاز الغاية منه انتاج قارئ خاص به. وهذا القارئ ليس شخصا قادرا على طرح تخمينات تكون وحدها دون غيرها جيدة: الأمر على عكس ذلك، يمكن للنص أن يتوقع قارئا نموذجيا له الحق في إسقاط تخمينات لا متناهية”.
كنت قد قرأت كتابا مهما أيضا للمفكر الأمريكي الماركسي ديفيد هارفي “حالة ما بعد الحداثة.. بحث في أصول التغيير الثقافي”، وهو يتتبع، بين عناصر وروافد أخرى كثيرة، تأثير التطورات الاقتصادية في العالم، انطلاقا من تكون بذرة الرأسمالية في الولايات المتحدة، وانعكاسها على المنتج الثقافي وتسليعه. وبين ما تناوله الفروق بين الحداثة وما بعد الحداثة، وكيف أن التشظي، لا الانسجام، أصبح ملمحا من ملامح ما بعد الحداثة، وفكرت أن تطبيق ذلك روائيا لا يمكن أن يتحقق في نص منسجم، بل في نص متشظ، لكن ما يبدو متنافرا في النهاية يعبر عن أفكار متجانسة.
وتأتي الحيلة السردية برواية داخل رواية كحل أساسي للسرد المتشظي، وعبر تعدد أصوات الرواة على يد قرائن الشخصيات أو أشباحها أو أطيافها. أما من حيث المضمون فهناك تقاطعات كثيرة بين فكرة الأجيال مثلا في مجتمعات تتغير فيها القيم بتناول فكرة الأب وسلطته، أولا من خلال علاقة الكاتب نفسه بنجيب محفوظ كأب روائي، ثم عبر علاقة البطل “كبرياء”، اللقيط الذي لا يعرف لنفسه أبا، مع جده الحقيقي، رفيق، والذي يرتبط به ويدون سيرته بوصفه خطاطا، من دون أن يعرف أنه جده لأبيه، كما تتحقق الحيلة السردية أيضا في تأملات جانب من رواية كاتب الكاشف؛ مؤلف شخصية كبرياء، على فكرة سلطة الأبوة في عدد من أعمال محفوظ أهمها الثلاثية وقلب الليل والحرافيش وأبناء الجبلاوي.
أما الأنثى التي تجسدها نجوى عشيقة البطل كبرياء، فتجسد نموذجا لانعكاس تغيرات سلطة الأب والذكورة في مجتمعات مشوهة، تصارع فيها الأنثى بين وهم التحرر من الذكورة وبين فرديتها في مجتمعات لا تريد لها أن تحقق تحررا لها على أي مستوى.
ولذلك فهي الشخصية الوحيدة التي لعبت دورا في مستويين مختلفين؛ الأول هو مستوى السرد، أي كشخصية روائية مختلقة من ذهن كاتب الكاشف، ثم ظهورها على أرض الواقع كشخصية من لحم ودم لم يستلهمها المؤلف من معرفتها بل كتب عنها كأنه يعرفها من دون أن يتلقي بها.
وهذه النقطة تحديدا لها علاقة بفكرة أخرى يتعرض لها الكتاب كثيرا حين يختلقون شخصيات من الخيال ثم يفاجئوا بمن يقول أنهم يكتبون عنهم! أو حتى أن يصف بعضهم مكانا فيراه القراء في هيئة مبنى أو مكان آخر قد شهدوه مثلا.
وهي صدف يتعرض لها كتاب كثر ولها تأويلات عديدة، بينها ما سبق أن فسرته من قدرات الواقع في إيجاد الغريب الخيالي بشكل يتفوق على ما نصفه بالخيال. وهناك تفسيرات أخرى تعرض لها أومبرتو إكو بينها، على سبيل المثال، تأملاته للكيفية التي اعتبر بها بعض قرائه عند زياراتهم لأديرة معينة أنها تماثل الدير الذي وصفه في “اسم الوردة”، بينما كان الدير متخيلا تماما بالنسبة له، اخترعه من المخيلة أو اختلقه بالكامل. كما يضرب أمثلة مما جاء به النقاد يحاولون الربط بين وردة إيكو، وبين مثيلات لها جاءت في كتابات أخرى معاصرة وقديمة، أو محاولات من قراء للتفتيش عن أنفسهم داخل النصوص، وغير ذلك، مما يراه إيكو مجموعة أمثلة على التأويلات التي قد يتيحها نص، ولا تكون لها علاقة حقيقية بما قصده المؤلف.
وهناك تفسيرات أخرى، لفكرة إحساس القراء بتماثلهم مع شخصيات في أعمال الكتاب، تستمد جوهرها من عوالم التصوف وعلاقات الأرواح، والتي يتبناها البعض بالقول بأن الروائي قد يمسي هدفا لأرواح محددة تود أن تخبره بقصتها، وأنها تلاحقه حتى يفعل!
وبسبب ميلي للسحرية عموما في العمل الأدبي أحب التفسير الأخير كثيرا حتى لو لم يكن عقلانيا أو مقنعا. وإلا لماذا أحيانا أفضل الحياة معتزلا ووحيدا في الواقع وقبل النوم؟ كأنني أنتظر الصوت أو الأصوات!
لكن في النهاية أقول أن نموذج نجوى كشخصية تبدو في أبناء الجبلاوي كشخصيتين الأولى ورقية سردية والثانية من لحم ودم، فإنها أيضا وأساسا تضيف لفكرة المتاهة بوصفها، بين مواصفات عديدة أخرى، تجسيد لانعدام اليقين والتماهي بين الواقع الحي والخيال.
في كل تأويل لرواية أبناء الجبلاوي باعتبارها عملا “غير مشوق”، أو متشظ، أو غير مترابط، كنت أرى قارئا لم أتقصده نهائيا في عمل كهذا، وكانت هذه التعليقات تسعدني لأنها تحقق تماما ما أريده، فلا يمكن أن يرتاد المتاهة إلا من هو أهل لها. فهو عمل مركب وشاق ويحتاج لقارئ خاص.
طبعا ما حققته في أبناء الجبلاوي أردت أن أطوره في “معبد أنامل الحرير”، فقد أردت تطوير فكرة المتاهة عبر تخليق أكثر من عالم سردي تتقاطع جميعا على نحو أو آخر، واستبدال التشظي بالتعدد والتنوع في الشخصيات. أردت أن أكتب نصا سرديا يتولى ناصية السرد بنفسه “ككتاب أو رواية أو نص أو أفكار” وعملت على أنسنته لأنه في النهاية يعبر عن المعرفة البشرية على نحو أو آخر. المستوى الثاني للسرد يحققه متن هذا النص أي القصة التي دونت في متنه. ثم في مستوى ثالث سيرة كاتب هذا المتن من خلال وعي وتداعيات “النص” أو الرواية التي تسرد للقارئ ما يحدث لها حين تتناقلها الأيدي حينا أو تعود لتداعياتها عن مؤلفها في حين آخر.
في كل عالم من العوالم الثلاثة كانت هناك شخصيات رئيسة وشخصيات ثانوية، تلاعبت بها حينا وتلاعبت بي أحيانا، وتنقلت بين مصر والإمارات وإثيوبيا وألمانيا وإندونيسيا في الجانب الذي يبدو واقعيا في النص، وبين عالم باطني تدور أحداثه في أنفاق تحت الأرض في عالم سري يعيش به مجموعة من عشاق الحرية والنساخين الهاربين من مملكة الرقيب والفاشية الدينية والأخلاقية. والعمل كله في تقديري يعد استمرار للأفكار الرئيسة التي تناولتها في “أبناء الجبلاوي” وأبرزها أن الوعي هو الذي يحقق الحرية. وأن الحرية لا يمكن أن تتحقق من دون حماية المعرفة.
وأخيرا حاولت في هذه الرواية إيجاد حل سردي بحيث تتقاطع مصائر الواقع الذي ترصده الرواية مع الشخصيات الخيالية الفانتازية في المتن الخيالي المؤلف بالشكل الذي أتصور أنه يعد إضافة جديدة لي في محاولاتي المستمرة في هذا المضمار.
هكذا بدأت اللعبة السردية أو لعبتي مع الكتابة بالأحرى، ويسعدني أنني لا زلت ألعب مع النص في هذا الأفق، وحتى إشعار آخر.