سيد ضيف الله
في السيرة الهلالية مشهد ثقافي بامتياز، هذا المشهد يصلح كوسيلة إيضاح للشروط التي تضعها الثقافة العربية للاعتراف بالمبدع الجديد. المشهد عبارة عن مبارزة بين الابن/ البطل الجديد “بركات” والأب / بطل الماضي والحاضر ” رزق بن نائل”، والهدف المعلن من المبارزة هو حفاظ رزق على كونه البطل الأوحد بلا منازع، أما بالنسبة لبركات /البطل الجديد فالهدف هو اعتراف “بطل الماضي والحاضر” به بطلاً، ذلك الاعتراف الذي لا يأتي إلا باعتراف رزق بهزيمته وبالتالي تنازله عن البطولة، والموت أهون على الأبطال من ذلك. لكنَّ البطلين المتنازعين بينهما علاقة لا تنفصم، فالجديد امتداد للقديم حتى وإن أنكر القديم أبوته له لمجرد أنه يخالفه في اللون، فرزق استنكر سواد ابنه وطرده وأمه ونفى نسبه إليه، لكنه يحارب -في هذا المشهد- هذا البطل الجديد حفاظًا على بطولته وهو يجهل تمامًا أنه امتداد لبطولته. أما الابن بركات / البطل الجديد فيعلم علم اليقين أنه ابن البطل القديم وامتداده وأن المبارزة قدرٌ عليه لإثبات بطولته هو ذاته، لأن إثبات البطولة هو السبيل الوحيد لإثبات النسب للبطل/الأب إذ ليس بمقدوره أن يغيّر لونه الأسود المخالف للون الأب / البطل القديم، مثلما كان ليس بمقدور الأب أن يخالف عرف الثقافة التي ربته ويقبل أن يكون ابنه مخالفًا له، لأن البنوة ثقافيًا أعلى درجات الاستنساخ لأنها الامتداد البيولوجي والأخلاقي والمعرفي والوجداني.
وحتى أوضح صلة هذا المشهد الثقافي بحالة الشد والجذب بين الأجيال حول مسألة الإبداع، سواء كان أدبيًا أو نقديًا أو في أي مجال معرفي إن لم يكن في كل مجالات الحياة، أحتاج لتأكيد أمرين – هما بالنسبة لي فرضيتان سبق لي التحقق منهما- الأولى: أن السيرة الهلالية ليست مجرد نص شفاهي ينتمي للمورث “الشعبي”، وإنما نص ثقافي يجسد المنظومة القيمية والمعرفية لـ”الدول” العربية أو بالأحرى للقبائل العربية ذات الأعلام المرفرفة على مبانيها الرسمية. الأمر الثاني الذي أحتاج لتأكيده هو أن الإبداع أصبح هو التجلي الوحيد المتاح للبطولة الإنسانية في العالم العربي، وذلك لأن الإبداع نقيض النسخ والتكرار، فبطولة المبدع مخالفة في جوهرها لبطولة الزعيم أو القائد أو الرئيس أو حامي حمى القبيلة، لأن الأخير جوهر بطولته وغايته تأمين استمرار واستقرار الأوضاع في العالم القائم بالفعل بغض النظر عن كل مساوئه وذلك من خلال أجهزته الخشنة (العسكرية) أو أجهزة الأدلجة العقلية المسماة القوة الناعمة (وزارات الثقافة والإعلام والتعليم)، أما جوهر بطولة المبدع وغايته فهي ألا يكون نسخة مكررة من ملايين النسخ التي تقذف بها مطابع الكائنات البشرية اليومية. إن بطولة المبدع تكمن في أن يكون إنسانًا بالمعني العميق للكلمة، لأن الإبداع هو ما يميز الإنسان ليس عن بقية الكائنات الحية فحسب وإنما -وهذا هو الأهم- عن الكمبيوتر؛ الشئ الذي كشف عن حقيقة أن جوهر العقل الإنساني ليس قدرته على التذكر والاستذكار وإنما الإبداع.
وعلى هذا، فإن المبارزة في مجال الأدب والنقد بين الأجيال ليست من قبيل رغبات فردية ذات طابع شخصي، إذ لا يعدو أن يكون الأشخاص إلا كائنات ثقافية تؤدي أدوارًا سبق أن لعبها آخرون مئات المرات لأن السيناريو محفوظ في الذاكرة على النحو الذي سرده لنا راوي السيرة الهلالية في مشهد(البطل الجديد/الابن، البطل الحالي الأب). ومن هنا، أعتبر هذه المبارزة دليلاً على عدم قدرة جميع اللاعبين على التملص من آلة النسخ الثقافي ليكونوا تجليات لمعنى الإنسان ومن ثم تتحقق بفعل إبداعي يخرج بالمبارزة عن السيناريو التقليدي للثقافة. وإلى أن يأتي لاعبون جدد قادرون على كتابة سيناريو جديد للعلاقة بين “المبدع الجديد/الابن” و”المبدع الآني/الأب” فإن على اللاعبين الحاليين احترام قواعد اللعبة والالتزام بشروط الثقافة للاعتراف بـ”المبدع الجديد/ الابن” ألا وهي:
1- على “المبدع الجديد/الابن” أن يعترف أولاً بالبطولة “الإبداعية” لرموز من “المبدعين الحاليين” حتى لو كان ذلك على مضض.
2- على “المبدع الجديد/ الابن” أن يدرك أنه لا يحقّ له دخول حلبة المبارزة إلا بتقديم عمل إبداعي حقيقي يجعل المتلقي يرشحه للمبارزة إيمانًا به كبطل قادم، ودون ترشيح المتلقي العام لهذا البطل الجديد فإن خلق أبطال جدد وهميين يصبح من قبيل التزييف المراد به مد عمر بطولة القديم وهيمنته بحجة خواء حلبة المبارزة من أبطال جدد حقيقيين يمكنهم خلافته.
3- على “المبدع الجديد/الابن” أن يدرك أنه يبارز “المبدع الآني/الأب” لا ليقتله ويمحو ذكره وينفي بطولته في زمنه وإنما ليستخرج من فمه اعترافًا ببطولة هذا البطل القادم.
4- على “المبدع الجديد/الابن” أن يدرك أن “المبدع الآني/الأب” لن ينطق الاعتراف ببطولته- لأنه شبه اعتراف بنهاية زمنه- إلا إذا شعر في لحظة المبارزة أنه يبارز ابنه المخالف له في اللون لكنه الابن الذي فيه شئ منه حتى لو كان هذا الشئ مجرد تذكيره بنفسه عندما كان يبارز ليحقق بطولته.
5- على “المبدع الجديد/الابن” ألا يدخل حلبة المبارزة مع ضيّقي الأفق من الآباء الذين يعتقدون أن الاعتراف ببطل جديد موت لهم بل محو لتاريخهم، وأنه لا وسيلة لهم للاستمرار على الساحة الثقافية إلا من خلال إنكار حق البطل الجديد/الأبن في الوجود إلا بعد أن يكون نسخة كاملة التطابق له. لأن المبدع الجديد بتخليه عن مبارزة هذا النوع من الآباء يمنع عنهم أسباب استمرارهم ووقود قوتهم.
6- على المبدع الجديد ألا يتطرف في تمرده ومبارزته؛ أي لا يتورط في غلق الباب وراءه عند الدخول لحلبة المبارزة، فليجعل الباب مواربًا للعودة للوراء قليلًا مع مرور الزمن ؛ إذ الذكي من يعمل حساب الأيام ويدرك أنه سيصبح شيخًا وأن من عاداتنا الثقافية أن معظم المجددين/ “المتمردين” /”الطليعيين” يتحولون لشيوخ يساندون آلات النسخ البشري حين يكون التمرد ضدهم.
7- على المبدع الجديد ألا يأخذ فقط، فعليه أن يدرك أن الثقافة نصّبت له من الآباء الأذكياء من أناطت بهم مهمة احتواء التمرد لتأمين فضيلة الاستقرار والاستمرار الثقافيتين، وبالتالي على المبدع الجديد إذا ما قابل أحد هؤلاء الآباء الأذكياء، الساعين للاستمرار بالاحتواء لا بالمبارزة، أن يدفع الثمن من جدّته وتمرده وفقًا لقاعدة المقايضة.
وأخيرًا، أعتقد أن مفهوم الإبداع عندي يتناقض مع ممارسات المبدعين لنفي الآخر ومحوه أو تهميشه، لأن الإبداع تحققٌ لمعنى الإنسان في كل ممارسات الذات الحياتية. فهل بالضرورة أن يكون هناك صراع بين إبداع وإبداع؟ أم أن الصراع بين مبدع ومبدع؟ وإذا كنا قد اعتدنا أن نسمع من البعض أن الأديان لا تصارع بعضها بعضا، وإنما المتدينون هم الذين يتصارعون نتيجة الفهم الخاطئ للدين، وإذا كنا نسمع من البعض الآخر أن الديمقراطيات لا تحارب بعضها بعضًا وإنما الديمقراطيون هم الذين يتحاربون نتيجة الفهم الخاطئ للديمقراطية. فهل يحق لي أن أقول إن الإبداع لا يصارع بعضه بعضا، وإنما المبدعون هم الذين يتصارعون نتيجة الفهم الخاطئ للإبداع؟! ولا أريد أن أغالي فأقول إن مفاهيم (الدين /الديمقراطية/ الإبداع.. إلخ) هي نفسها كمفاهيم تحمل في جوهرها أسباب فشل البشر عن أن يكونوا تجسيدًا إنسانيًا لها وذلك لمفارقتها لشروط تحققها في الواقع الإنساني ليغدو وجود متدين إنسان وديمقراطي إنسان ومبدع إنسان أدلة تؤكد القاعدة ولا تنفيها كما يقولون.