محمد عبد الحافظ ناصف
سعد القرش قاص وروائي مصرى ينتمى لجيل التسعينيات؛ صدر له عدد من الروايات التى تركت تأثيرا مهما فى السرد المصرى المنتمى للأجيال الجديدة من كتاب الرواية المصرية منها حديث الجنود، وباب السفينة، وثلاثية أوزير: أول النهار، ليل أوزير، وشم وحيد، وأخيرا رواية المايسترو الصادرة عن دار العين، إضافة لكتابه عن أدب الرحلات “سبع سماوات” وكتابه شهادات مهمة “الثورة الآن” و”قبل تشييع الجنازة” و”فى مديح الأفلام.
وتنطلق رواية المايسترو من لحظة مهمة وهى تجمع أربع شخصيات فى مواجهة الخوف والتوتر والقلق حين يصطدم قاربهم البسيط الفقير المتواضع بيخت كبير ضخم ومتجبر بفعل ما عليه من شخصيات ثرية وسلطوية؛ تمتلك هذه الشخصيات القدرة على الظلم والقهر والعدوان الكثير؛ ولم لا؟ ولديها المال والنفوذ والسطوة والقدرة على سحق الآخر/الضعيف الذى لا يمتلك إلا المتاح والقليل للدفاع عن نفسه.
صور الكاتب سعد القرش حالة تلك المجموعة البائسة لأربعة رجال من أربع بلدان مختلفة؛ لكل واحد منهم حكايته الخاصة التى تتكامل وتتشابك مع البؤس الإنسانى المتفاقم والمتعاظم فى كل مكان بسيط وفقير ومتواضع وباحث عن الأمان المادى والإنسانى، تاركا وطنه كى يشعر بلحظة أمان بسيطة لحياة يحلم بها وهو بعيد عن وطنه ومهاجر لبلاد أخرى وهبها الله الخير، لكنهم لم يحفظوا هذا الخير ولم يستغلوه الاستغلال الأمثل من أجل حياة البشر جميعا.
فكل شخصية من الشخصيات الأربع تنتمى لحضارة مختلفة، لكنهم جميعا يتكاملون معا لرسم صورة تعبر عن تكاملهم الإنسانى البائس؛ فنواف المنتمى للبشر البدون جنسية والمتواجدون فى بعض دول الخليج العربى يشعر بالأزمة نفسها التى تشعر بها شخصية الخادم أنيل الهندوسى، كما تتكامل المشاعر نفسها والأزمات مع شخصية تسو العامل القادم من هضبة التبت، وتتماس كذلك مع شخصية مصطفى المحامى المصرى الذى يمتلك شخصية تتغذى بفلسفة جبران خليل جبران، تؤكد ذلك شخصية لورا المواطنة الأمريكية التى أحبته وتزوجته بعد أن عرضت عليه الزواج بعد أن تعرفت عليه من خلال السوشيال ميديا، ولم يكذب خبرا واستضافها فى القاهرة فى منزله بعد أن مهد الأمر مع أمه وأبيه الذى لا يترك المسجد ويريد أن يحج فشعر بالإحراج لما طلب ذلك من شيخ المسجد فأخبره أن ابنه يستضيف امرأة فى بيته بدون زواج والأفضل له أن يحل تلك المشكلة المحرمة قبل أن يطلب الحج ويذهب لبيت الله الحرام.
جاءت لورا المرأة الأمريكية التى أحبت مصطفى وتهتم بدراسة الشرق الأوسط فى جامعة متشيجان للقاهرة بعد أن تركت الدراسة فى كلية العلوم بعد عام، وتركت زوجها الأستاذ فى هذه الكلية لأنها اكتشفت أنها لم تكن تحبه، قالت لمصطفى وهى منجذبه ومفتونة به: “مذهبك مذهب جبران فى الحياة، هكذا تفهم، وهكذا تؤمن، وهكذا تعيش. هكذا أنت. أحبك كما أنت. أحبك لأنك أنت “مصطفى”. حين قابلتك وجدت جبران، فأنت لا تعيش نصف حياة، ولا تحب نصف حب ولا تقول نفس كلمة… وجدت جبرانى، أقصد أننى وجدت عالمى، حلمى وتمردى”.
من خلال تلك الكلمات نكتشف أن الشخصيتين تكملان بعضهما البعض وكأنهما كانا يبحثان عن بعضيهما فى شتى بلاد المعمورة، وأن كل شخصية منهما لا ترضى بأنصاف الحلول، فأما الشيء كاملا أو لا يريدانه!
وأرى أن الشخصيات الأربع تشكل معا شخصية إنسانية واحدة فى مقابل الشخصية الخليجية المتعجرفة فاحشة الثراء والظالمة والتى لها دوائر أخرى فى البلدان الأخرى تتماس معها أيضا، وهنا يرتفع الصراع بين العالمين ويتكامل كل عالم مع زميله المشابه له فى مواجهة الآخر، فمجموع الشخصيات الأربع يتحدون كى يهربوا جميعا من مواجهة عالم الثراء الفاحش الظالم الذى لا يتهم بشىء إلا نفسه ونزواته، واستطاع الكاتب أن يأتى بنموذج يؤكد ما يقول فى روايته المايسترو؛ فأتى بالمرأة/حياة التى أُلقى بها فى الخليج من قبل أشخاص غير معلومين من اليخت الكبير الضخم بالقرب من قاربهم، وذلك بعد أن رفضت أن يتم اغتصابها من قبل أحد الأثرياء البربريين الذين لا يفرقون بين حلال وحرام، ولا بين قُبل ولا دُبر، ولا يهتمون إلا بالشاذ فى كل أمر، والغريب أن الأمر يتم بالرغم من وجود زوجها ـ اسما فقط ـ الموجود على ظهر اليخت والمشغول ربما بامرأة أخرى، والذى لا يتهم بها على الإطلاق، ولم يصوب الكاتب عين الكاميرا ناحيته، وربما يدفعها لذلك كى تسير فى فلكهم من المجون والانحلال نفسه.
يقول نواف لمصطفى متأسيا لحال المصريين الذين يعملون فى دول الخليج العربى: “أنت قلت إنهم يحلمون بالعمل هنا، يعملون ويعملون ولا شيء إلا العمل، يهدرون أعمارهم ويؤجلون بدء حياتهم إلى أن يرجعوا إلى بلادهم، والبعض يبدد عمره كله ولا يرجع إلا مثقلا بأموال لأولاده وبأمراض تعجل موته. لا أريد مصيرا بائسا”.
ويرد عليه مصطفى متأسيا لحال الخليج قائلا: “كلمنى عن البؤس. كل شيء فى بلادكم مراقب. قالت لورا إن السياب سمى الخليج واهب الردى”.
ومن الأشياء العجيبة فى الرواية أن لكل شخصية من الشخصيات منطقها وعقيدتها التى تؤمن بها بشدة وتدافع عنها لأقصى مدى؛ فتسو العامل القادم من هضبة التبت يدافع عن منطق تقطيع الميت لقطع حتى يأكلها الطير لأن طبيعة أرضهم صخرية ولا مكان لدفن أحد فأوجدت عقيدتهم منطقا فى تلك القسوة والغرابة مع موتاهم رغم أن الآخرين يجدون أن ذلك غريبا، والمدهش أن أنيل الهندى لا يبالى بالأمر عندهم حين يكون الموقف بحرق الموتى وكأن الأمر شيء عادى وبه تكريم للميت ويؤكد نواف قائلا: “حرق الجثث عند أهل أنيل أكثر إكراما للميت، ورحمة به وبأهله من مجزرة غير أدمية يطول زمن طقوسها”.
ويقول تسو ردا عليهم بإيمان عميق: “سمعت الرواية من أبى وعجبت، فنصحنى بالرد على من يستنكر هذا بأن حرمة الأحياء، من المغلوبين على أمرهم العاجزين عن نيل حقهم فى العودة، أكثر أهمية وقداسة مما يسمى حرمة الموتى”.
ورغم صداقتهم إلا أن كل شخصية منهم تؤمن بما لديها من معتقد، وتعتقد فيما تحب بصرف النظر عن رأى الشخصية الأخرى، لكنهم جميعا مشتركون فى مشاعر القلق والخوف والتوتر من السيد صاحب الثراء والسلطة الذى لا يفكر إلا فى نفسه.
وينصت المايسترو، ويمسك كف تسو ويحييه ويقول لنواف:
ـ هذا البوذى تسو يقول الحكمة. وكل إنسان تبعا لعقيدته على حق، ومن المهم أن يؤمن بأن الآخرين أيضا على حق.
وأعتقد أن تلك رسالة مهمة من رسائل الرواية؛ فقبول الآخر واحترام عقيدته وعدم التقليل منها أو منه شيء غاية فى الأهمية لسلام الناس والشعوب والبشر جميعا ورغم أن الإسلام أكد على ذلك فى معنى النص القرآنى: “من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر” ، “ولو أراد الله لجعل الناس أمة واحدة” إلا أن كثيرا من المسلمين عمليا لا ينفذون ذلك. والحقيقة أن إيمان أحد أو كفره بأى عقيدة لن يزيد أو ينقص منها.
وأرى أن من أهم أفكار الرواية التى تحاول أن تطرحها هى قبول الآخر المتشابه مع الآخر فى الشقاء والبؤس والمعاناة وبعيدا عن ديانته أو عقيدته، والبحث عن المشترك بينه وبين هذا الآخر؛ لذا حاول الروائي سعد القرش أن يبحث عن هذا ويدعم هذا الخط فى الرواية بين المشتركين فى الهم والحزن، فهم جميعا فى الهم عرب كما يقول المثل والأكثر عمومية أنهم جميعا فى الهم بشر، وأعتقد أن هذا الهم وهذا الشقاء القادم من عقل الإنسان الذى ميزه به الله عن سائر الكائنات، وهو السبب فيما وصلت وستصل إليه البشرية من شقاء وبؤس وحروب ودمار.
ومن مظاهر قبول الآخر قبول كل من مصطفى للورا الأمريكية وقبولها له بكل ثقافته التى ربما تكون مختلفة تماما عنه، لكنها وجدت نفسها معه متقبلة كل ما عنده؛ والمدهش أنها عرضت نفسها للزواج منه خاصة بعد أن وجدت مجموعة من المواقف التى أكدت إنسانيته؛ وخاصة موقف قطة الشارع الذى أحضر لها اللبن والماء وموقفه مع المرأة الأرملة التى كانت ستسجن إذا لم تعط للتاجر جسدها فساعدها وأحضر لها وصلات الأمانة، أخذت القرار بالزواج منه بعد زيارة مصر وجاءت لتعيش معه فى البيت وفى مكتبه.
وأكدت الرواية على العلاقة التى بدأت تتكون شيئا فشيئا بين كل أفراد الأسرة؛ فبدأ الأب قبولها تماما بعد أن تم الزواج بينهما، وقد وردت إشارة مهمة فى الرواية حين خلع الأب عباءته ووضعها على كتف زوجة ابنه حين ذهب يبحث عن أمه التى خرجت ليلا بعد ليلة الزواج، ورغم بعض المشاكسات من أمه إلا أنها تصب فى ناحية مشاغبات بين زوجة الابن وحماتها لا أكثر، والدليل أن الأم قد ذبحت فى ليلة العرس الديك الرومى الذى كانت تربيه وكأنه ابن من أبنائها، وفى الوقت نفسه قبلت لورا حماتها وثقافتها وبدأت تتعلم أشياء ومفردات لم تكن لتتعلمها أبدا لولا أنها بدأت تتأقلم وتحب حماتها؛ مثل تعلم عمل الخبز لدرجة أن لورا بدأت تأكل هذا الخبر حين يخرج من الفرن، وبدأت تناديها بلقب “أمّ” مثل ابنها مصطفى، ونجد ذلك ص 256:
مالت إلى لورا، و هى تصعد وراء مصطفى:
ـ جننتِ الولد من أول ليلة؟ معذور ابنى.
ـ صعب عليه الديك والله يا أمّ.
ـ الديك؟ هاتى عباءة الرجل، واطلعى لعريسك.
وختاما أرى أن رواية المايسترو للروائى سعد القرش واحدة من الروايات المهمة التى صدرت فى الفترة الأخيرة لأنها تكشف طبيعة النفس البشرية التى بها من المشترك الكثير رغم المسافات والجنسيات والديانات والعقائد والأفكار والايدلوجيات التى قد تباعد بين النشر لكنهم جميعا ينسون أنهم من أب واحد وأم واحدة.