الماضي القريب ووجع الحنين في كتاب تسعيناتي لحسن الحلوجي

الماضي القريب ووجع الحنين في كتاب تسعيناتي لحسن الحلوجي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

قراءة: محمد عبد النبي

لا أظنه صحيحاً تماماً أن وسائل الاتصال الحديثة المتاحة حالياً تدفعنا للانغماس في تيار اللحظة الراهنة وحسب، دون التفاف إلى الأمس، والدليل على ذلك أن بعض تلك الوسائط مثل موقعي اليوتيوب وفيسبوك وغيرهما لعبا منذ ظهورهما دوراً حاسماً في استعادة الأمس، سواءً المواد الوثائقية والصحافية، أو الصور الفوتوغرافية، أو الكنوز الفنية في الغناء والسينما والدراما وسواها...

 

وبين عشيةٍ وضحاها سرتْ حُمى استعادة الماضي، سواءً كان جميلاً أم مضحكاً أم مجرد لحظة تنعش ذاكرتنا الخاصة. والعجيب أنه ليس من الضروري أن يكون هذا الماضي موغلاً في البُعد، بل قد يكون ماضياً قريباً، لم يكد يمر عليه إلا عقدين، هكذا صرنا نرى الأجيال التي ولدت خلال عقد الثمانينات ونهاية السبعينات وهي تنبش الفضاء الافتراضي عن رموز طفولتها وصباها، وتتكون الجروبات التي تجمع تلك المواد وتبثها، وتحولّت بهذا بعض المواد الفنية والثقافية المبتذلة والمتوسطة القيمة إلى أيقونات مكللة بهالة النوستالجيا.

في هذا الإطار ظهر “تسعيناتي”، وهو مشروع فني يتعرض للمشهد الإعلامي المصري خلال حقبة التسعينيات من خلال كتاب فني توثيقي، وكذلك شريط فيديو تم عرضه منذ شهور قليلة في جاليري التاون هاوس بالقاهرة، على الشريط المعروض في أكثر من جهاز كان من الممكن مشاهدة مقتطفات مبتسرة من المواد التليفزيونية التي فتح جيلٌ كامل أعينه عليها، بل وكبر ومرّ بالمراحل الدراسية المختلفة في رحابها. تلك المواد كانت نتاج جمع أكثر من 4000 شريط فيديو من محلا الخردة وسوق الجمعة بالقاهرة، قام بهذه العملية من البحث والنبش والتجميع والاختيار والتقطيع الفنان محمد علّام، منتقلاً من فكرة الأرشيف المنظم إلى مفهوم الكولاج العشوائي.

وإلى جانب شريط الفيديو المعروض والعرض السمعي البصري الذي قدّمه كلٌ من محمد علّام ورامي أبادير تم توزيع كتاب تسعيناتي في نسخٍ محدودة بالتزامن مع المشروع الفني ككل. الكتاب الذي يعد تحفة فنية في حد ذاتية بتصميم أدهم بكري، على شكل شريط فيديو، بحيث لا يصعب تمييزه للوهلة الأولى عن تلك الشرائط القديمة التي كانت منتشرة في البيوت ونوادي الفيديو قبل أكثر من عشر سنوات.

جمع مواد الكتاب وأعده وحرره القاص والصحافي حسن الحلوجي، صاحب الكتب: ألطف الكائنات، أخضر بحواجب، ورسم قلب…. وإذا كان محمد علّام من ناحيته غاص في أحشاء آلاف الأمتار من شرائط مواد الفيديو، بالمقابل عكف الحلوجي على النبش في الصحافة الفنية من جرائد يومية أو مجلات أسبوعية، كما قرأ العديد من الرسائل العلمية الجامعية التي تناولت المواد التي يقدمها التليفزيون المصري خلال حقبة التسعينات، وبعض الكتب التي وضعها إعلاميون حول المسألة ذاتها.

لكن الحلوجي لم يرجع لكل تلك المصادر ليقدم لنا مادة جافة وثائقية تعتمد على الأرقام والمعلومات، بل ليحوّلها إلى شيء أكثر انسجاماً مع المشروع الفني ككل، فعبر فصول الكتاب القصيرة كان شديد التكثيف والاقتصاد في تعقيبه على الجوانب الرئيسية التي تناولها الكتاب خلال أبوابه الثلاثة.

مبدئياً نستعيد مع الحلوجي في الباب الأول كيف يكون يوم التليفزيون خلال حقبة التسعينات، قبل الإرسال المستمر على مدى 24 ساعة، وقبل القنوات الفضائية التي لا يكاد يحيط بها حصر. يعيد إلى أذهاننا الجدل المصاحب لبداية تقديم برنامج صباح الخير يا مصر في هذا التوقيت المبكر من النهار، ومدى جدوى ذلك من وجه نظر البعض. ثم برامج الأطفال وهيمنة البرامج الغربية مقابل بضعة رموز مصرية خالدة مثل بوجي وطمطم وبقلظ وبرامج سينما الأطفال لعفاف الهلاوي وغيرها. مجرد تصفح الكتاب وقراءة سطور الحلوجي قد تعيد أبناء هذا الجيل إلى لحظات شديدة الحميمية من ذاكرة طفولتهم. في هذا الجزء أيضاً يلفت الحلوجي النظر إلى نغمة سادت حينها هي الهجوم على الشباب، على ثيابهم وأساليبهم وطريقة حديثهم بحيث صارت من بين القضايا العامة التي تثيرها البرامج النقاشية بين الحين والآخر، في مقابل النجاح والرواج الذي حققه برنامج مثل أماني وأغاني لاهتمامه بهؤلاء الشباب وبذوقهم في الموسيقى دون حكم أو إدانة.

كان الحلوجي موفقاً كذلك في استعراضه السريع الرشيق للمواد الدرامية من مسلسلات عربية وأجنبية ومواسم الأفلام الجديدة مثل الأعياد، لكنه غفل برنامجاً شديد الأهمية خاصاَ بالسينما التسيجيلية هو برنامج سينما لا تكذب ولا تتجمل، الذي كان يعرض هذه النوعية من الأفلام بانتظام.

في الباب الثاني من الكتاب اقترب الحلوجي من بعض المواسم المميزة لدى التليفزيون المصري مثل رمضان والأعياد أو الفقرات الخاصة بيوم الجمعة، وبرامج المرأة والأسرة، كما مرّ سريعاً أيضاً على قضايا بعينها أثيرت في التسعينات مثل الإنجاب وحملات تحديد النسل الإعلامية، وبالطبع القضية المفتعلة لعبدة الشيطان من الشباب المحبين لموسيقى الميتال.

في الباب الثالث يتناول مسألة مهمة وهي الوسائل والأدوات التقنية التي توفرت أو لم تتوفر في الغالب لصناع المواد التليفزيونية في تلك الحقبة، وكيف ساعد تطورها التكنولوجي إلى إحداث الطفرة التي نشهدها حالياً، مثل التقنيات الرقمية والجرافيك. وأخيرا ينتهي بثلاث صفحات حول مذيعي الربط والرقابة والفلوس أو الميزانيات المرصودة للإنتاج.

الصفحات تتوالي في وثبات سريعة من موضوع إلى آخر، كلها بالرشاقة وخفة الدم ذاتها، صفحة نص وصفحة صورة مأخوذة من المواد الموجودة على شريط الفيديو الخاص بالمشروع الفني ذاته.

تحية لصناع المشروع جميعهم، ولحسن الحلوجي على الخصوص لمجهوده والناتج الطيّب الذي أسعدنا به كأبناء جيل واحد، تربى على البرامج والحلقات نفسها.


* مشروع تسعيناتي تم إنتاجه بدعم من الصندوق العربي للثقافة والفنون (آفاق) وصندوق شباب المسرح العربي (YATF) وجاليري تاون هاوس.

مقالات من نفس القسم