د. جمال فودة
يرتبط الليل في العمل الشعري بدلالة النص حيث يبلور الشاعر من خلاله لحظة خاصة تضرب بجذورها في أعماقه، ومن ثم يكتسب مغزاه من خلال ارتباطه بالخبرة الإنسانية، أي بصفته معنى داخلياً و صيغة للتأمل.
وتأتي صورة الليل في شعر (مجاهد عبد المنعم مجاهد) حاملة دلالات اليأس، والهم، والحزن، والأسى، والقهر، والظلم، والظلمة التي ترتبط بغياب النور/ الأمل الذي يبدد عتمة الروح.
وها هو الشاعر في غياهب الظلمات تسري روحه في أبعاد الفضاء باحثة عن الأمل الذي يخلصه من أسر اغترابه، لكن هيهات فالليل/ اليأس مدركه وإن خال عنه المنتأى واسعاً!
وتطلعت إلى أفق الليل
فلم أبصر حتى نجمي
لم يسطع في وسط الحلكة إلا همي
هنا نرى الشاعر في ظلمة اليأس التي ملأت النفس يتطلع إلى أفق الليل، وما يبعثه في النفس من خوف ورهبة، فيري نجمه/ أمله آفلاً، ليس هذه فحسب بل تزداد المأساة حين يرى الهم/ اليأس/ الحزن ساطعاً.
لم يسطع في الحلكة سوى همي
وهكذا يعود الشاعر إلى بيته، وفي القلب من الهم والحزن ما فيه، ثم لا يجد حوله إلا الصمت يخيم على المكان، فيرتمي في أحضانه ويفضي بأحزانه.
وهرعت إلى بيتي
لكي في صمت الليل أعانق صمتي
يلجأ الشاعر في هذه الصورة إلى التشخيص إيماناً منه أن جميع مظاهر الكون الحسية والمعنوية إنما تجمع بينها الوحدة العميقة والعلاقات الوثيقة، والأشياء التي حولنا لها حياة خفية وكيان يشبه كياننا، فالشاعر جعل الليل صديقاً يعانقه، وفي هذا الصمت الرهيب لا يمر الليل بل يمتد ويمتد، ويقذف الشاعر بوابل من الطلقات المتتابعة من الهموم والأحزان التي تنثال عبر التذكارات المؤلمة والإخفاق الذي مني به إثر فشله في العثور على ذاته/ حلمه وأمله.
يا فرشي أن الليل رصاص
كيف يمر الليل ووجه صديقة عمري غائب
تزداد الصورة الرمزية هنا ثراءً وإيحاءً لاعتماد الشاعر في بنائها على الروابط النفسية والشعورية العميقة، ففي الصورة التشبيهية (الليل رصاص) يرتبط الطرفان برابط نفسي عميق، فكلاهما قاتل؛ الليل بهمومه وأحزانه التي تخترق الروح، والرصاص بقوة انطلاقه التي تخترق الجسد.
إن سواد الليل/ الحزن (اليأس) يغمر روح الشاعر فيري الدنيا مظلمة سوداء، فتخور قواه، وتميد الأرض من تحته، وهو يخوض صراعاً مع النفس النافرة الجموح.
اسودت الدنيا في عيني
ضعف النبض..
اهتزت من تحتي الأرض
اختنقت نفسي
أشبعها يأسي في الصبح وفي الليل
شجاراً وعراكا
إن الذات التي تحمل مأساة الشاعر الواقعية هي الذات المظلمة هذه الذات أكثر ارتباطاً بالظلام حيث العزلة والهروب، أما ذات الشاعر الأخرى فتتعلق بالحلم والنور، وفي ظل هذت الانشطار النفسي تدور معركة بين الظلام والنور في أعماقه، والنفس تستوعب كليهما (أشبعها يأسي في الصبح وفي الليل شجاراً وعراكا).
لقد امتدت وحدة الشاعر إلى الليل فصار هو الآخر وحيداً وغريباً عن هذا العالم الذي يئن تحت وطأة الظلام، حتى الليل تخلى عن الشاعر تاركاً إياه هائماً على وجهه في متاهات الوهم، وحينئذ يمر الليل:
يمر الليل…
وحيدا ليس معي إلا وهمي
أنك يوماً ستعود
لقد كان وهماً ـ إذن ـ حلم الشاعر بعودة ذاته، لقد داهم الليل/ اليأس أحلامه، وخلفه صريعاً بين (الوحدة والحسرة)
إن الليل يرسم للشاعر صورة الأمل الضائع في ظلمات اليأس وسط عالم الغربة، عالم الحزن، عالم الإنسان المزدوج الذي يفقد فيه الإنسان وعيه بذاته، فيستسلم لحالة الاغتراب الذي يسود العالم بأسره.