الكوميديا النقدية.. القرّاء كأبناء شرعيين (3)

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ممدوح رزق

لكن الممارسات التطبيقية ـ بوصفها الأقرب ربما والأكثر تداخلا مع وعي القراء وتدويناتهم ـ ليست وحدها ميدان "الأبوة النقدية" بل تنشط هستيريا هذه السلطة أمام ظواهر وأحداث تمثل تهديدًا أو مجابهة لمرجعياتهم.

ممدوح رزق

لكن الممارسات التطبيقية ـ بوصفها الأقرب ربما والأكثر تداخلا مع وعي القراء وتدويناتهم ـ ليست وحدها ميدان “الأبوة النقدية” بل تنشط هستيريا هذه السلطة أمام ظواهر وأحداث تمثل تهديدًا أو مجابهة لمرجعياتهم.

كان حصول “بوب ديلان” مثلا على جائزة نوبل للآداب عام 2016 من أكثر اللحظات قسوة على هؤلاء النقاد، ومن أكثر المواقف الكاشفة للجذور الثقافية الصلبة التي تحدثت عنها في المقال السابق باعتبارها محرّكًا ثابتًا لهوس الهيمنة المعرفية لديهم؛ فلم يكن من الصعب أن يتم رصد ذلك الناقد الذي بُنيت سمعته أو قام رصيده في الحياة النقدية على الإدانة، وتوزيع الصواب والخطأ، أو على إعادة تدوير عقيمة لتراث جسيم من التناسخات الهامدة، وقد تحوّل إلى نفس “القارئ العادي” الذي طالما هاجم ذائقته، وشجب انحيازاته، ليدخل في سباق هزلي مع نقاد و”مثقفين” آخرين لاسترداد “القيمة المهدرة” عبر السخرية “اللزجة” من فوز “مغني” بجائزة نوبل .. كانت فرصة أيضًا هناك من أراد استغلالها، حتى لو لم يسبق له قراءة بوب ديلان من أجل الحصول على هذه “القيمة” التي يؤمن تمامًا أنها تنقصه، في حين أن إيمانه بها هو ما يجبره على محاولة تعويضها بهذه الصورة التعيسة .. ليس النص وحده هو الذي يفضح إذن الوهم الفاصل بين الناقد، ومن يُسمى بـ “القارئ العادي” بل يمكن لحدث معين أن يجعل ناقدًا ما يعتبر نفسه أكثر “ثقافة”، و”علمًا” من شخص آخر أن يتصرف تمامًا، ودون أدنى مغايرة مثلما يتصرف هذا الشخص الآخر. أن يُعري هذا الحدث ادعاءاته بكونه مختلفًا. يمكن لموقف ما أن يسوق أحد النقاد، وأن يُجبر استجابته على التجسّد بالضبط كأنما يقول: “لن أقدر أن أراجع أو أن أفكر في الانحياز النخبوي الذي يسيطر على أحكامي. لا أستطيع أن أجادل المبادئ الرجعية، أو أن أتحدى التصنيفات والتراتبيات الثقافية والأدبية والفنية الصدئة التي شكّلت ذاكرتي، وحددت وعيي .. لا يمكنني أن أقبل أو أستوعب التحولات التي قوّضت الأنظمة الطبقية القديمة، المحتقرة لما تم الاعتياد على تسميته بـ “التفضيلات الجماهيرية” .. المتغيرات التي خلخلت المعايير القيمية المتعسفة، والتي تتعمّد إقصاء ما يُطلق عليه “الذوق الشعبي” .. ليس بوسعي أن أتجاوز طغيان المفاهيم لصالح التجاور والتعدد والتشابك وتذويب الحدود الأزلية المصطنعة .. أريد أن أكون كما أنا، وأن أدافع عن هذا الإيمان، وأن أظل أحارب من أجله .. أريد أن أستمر في محاولة جعل الآخرين مثلي، وأن أعاقب من يرفض أن يكون كذلك بأي شكل ممكن .. لا يعنيني أن بوب ديلان شاعر، وأنه مُنح جائزة نوبل لقصائده .. هو مُغَنٍ فقط .. مجرد مُغَنٍ”.

هناك قراء عُرف عنهم حبهم لأشعار بوب ديلان؛ إذ كانوا دائمي الإشارة لسيرته الإبداعية، ونشر الاقتباسات من قصائده على صفحات التواصل الاجتماعي .. هؤلاء أنفسهم لم يستوعبوا أن بوب ديلان قد فاز بجائزة نوبل .. لم يفهموا لماذا فاز بهذه الجائزة التي لا تعنيني الآن في حد ذاتها .. لم يتقبلوا فكرة أن يفوز بوب ديلان بنوبل في مقابل أسماء أخرى ـ أكثر أهمية ـ يتم ترشيحها كل عام ولا تحصل عليها .. إن ما حدد (الأهمية) لدى هؤلاء القراء ـ ومنهم من ساهم في فقرات السخرية ضد فوز بوب ديلان ـ هو نفسه ما كرّس للانحياز النخبوي عند هؤلاء النقاد .. أن تحب بوب ديلان شيء، وأن يفوز بجائزة كان يستحقها “هاروكي موراكامي” أمر آخر .. يمكن لكل هؤلاء النقاد والقراء أن يستخدموا في هذا الصدد كلمات شائعة أقرب إلى اللافتات التحذيرية الضخمة سهلة الاستدعاء: المعنى ـ الثقافة ـ العمق، لكن الأمر لا يتعلق بهذه المفردات التقليدية المائعة بل بالأسباب المتراكمة التي جعلت كلمة مثل (المعنى) تفقد أهميتها أو تكتسب منزلة أقل حينما نتحدث عن أشعار بوب ديلان .. بالدوافع المتكاثرة التي أعطت لكلمة “الثقافة” حقيقة حاسمة قررت ـ كإجراء منطقي ـ وضع بوب ديلان في مكانة أدنى من كاتب آخر .. بالبديهيات المكدسة التي منحت كلمة (العمق) وظيفة عنصرية، جعلت قصائد “بوب ديلان” بالضرورة في مستوى أقرب للسطح من أعمال كاتب آخر. .. الأمر يتعلق بمحاكمة ما يسبق الهيمنة، بتشريح ما قبل (المعرفة)، وتفكيك المسارات التي تكفلت بإنتاج وترسيخ هذه (الأبوة).

هناك زيف هائل ومسيطر وراء ما يُسمى بالفجوة بين الناقد والقارئ .. أتحدث عن الناقد الغاضب، المروّض، المقدِس لليقينيات الثقافية والأخلاقية والجمالية، والقارئ اللامبالي، المدجّن، المقدِس لنفس اليقينيات، ودائم التطلع من وراء لامبالاته نحو هؤلاء النقاد كي يجدد ثقته دائمًا في كونه على صواب مثلهم.

مقالات من نفس القسم