الكوميديا النقدية .. القرّاء كأبناء شرعيين (1)

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ممدوح رزق

هناك الكثير من النقاد العرب ـ ربما يتجاوزون بالفعل الحدود الكمّية التي يُمكن تخيلها ـ لا يتوقفون عن تصدير الانطباع بأنهم مقيمون داخل الجحيم .. يوزعون صرخاتهم ولعناتهم طوال الوقت عبر الصحف، والمجلات، والمواقع الإلكترونية، وصفحات التواصل الاجتماعي، والندوات، والمؤتمرات، والمقاهي تجاه "الرداءة"، و"الابتذال"، و"الفوضى" التي تسود الكتابة الأدبية العربية .. يتركون شعورًا مُلحًّا بأنهم يتعذبون بشكل حقيقي، ولسبب يمكن تلخيصه في أن كل ما هو مضاد ومناقض في عقيدتهم لـ "جمال وعمق الكتابة" يرونه مهيمنًا وطاغيًا ومتمتعًا بتقدير غير مستحق، واحتفاء لا يمكن تبريره .. تكاد الحسرة في أعنف مستوياتها، والكامنة بين سطور مقالاتهم ومنشوراتهم أن تفيض بوضوح تام، وهم يتأكدون يومًا بعد آخر أن "علمهم الأكاديمي" عاجز عن إنهاء المهزلة الأدبية الهائلة التي يُسمح فيها لكل من هب ودب أن يكتب ما يشاء، أو أن "وعيهم الجمالي" غير قادر على إنقاذ الحياة الثقافية من الخراء الكثيف الذي يحكمها.

ممدوح رزق

هناك الكثير من النقاد العرب ـ ربما يتجاوزون بالفعل الحدود الكمّية التي يُمكن تخيلها ـ لا يتوقفون عن تصدير الانطباع بأنهم مقيمون داخل الجحيم .. يوزعون صرخاتهم ولعناتهم طوال الوقت عبر الصحف، والمجلات، والمواقع الإلكترونية، وصفحات التواصل الاجتماعي، والندوات، والمؤتمرات، والمقاهي تجاه “الرداءة”، و”الابتذال”، و”الفوضى” التي تسود الكتابة الأدبية العربية .. يتركون شعورًا مُلحًّا بأنهم يتعذبون بشكل حقيقي، ولسبب يمكن تلخيصه في أن كل ما هو مضاد ومناقض في عقيدتهم لـ “جمال وعمق الكتابة” يرونه مهيمنًا وطاغيًا ومتمتعًا بتقدير غير مستحق، واحتفاء لا يمكن تبريره .. تكاد الحسرة في أعنف مستوياتها، والكامنة بين سطور مقالاتهم ومنشوراتهم أن تفيض بوضوح تام، وهم يتأكدون يومًا بعد آخر أن “علمهم الأكاديمي” عاجز عن إنهاء المهزلة الأدبية الهائلة التي يُسمح فيها لكل من هب ودب أن يكتب ما يشاء، أو أن “وعيهم الجمالي” غير قادر على إنقاذ الحياة الثقافية من الخراء الكثيف الذي يحكمها.

لو أخذنا عينة من أسماء هؤلاء النقاد وتتبعنا تاريخ كل منها؛ هل سنعثر على ثوابت متشابهة، قد تصل إلى درجة التطابق فيما بينهم؟ .. هل سنلاحظ ـ مثلا ـ تركيزهم الدائم على انتقاد الأخطاء النحوية في النصوص التي يقومون بتناولها، أو اهتمامهم بمدى التزام الكاتب بالقيم المثالية في عمله، أو حرصهم على تصويب تشاؤمه، ومعالجة انغماسه في التشوهات الأخلاقية، والرذائل، والفكر العدمي، وتصحيح رؤيته السوداوية التي تجرّد الحياة من كل معنى أو غاية أو أمل؟ .. هل سنكتشف عدم تسامحهم فيما يتعلق بالتماسك البنائي، أو وضوح الدلالة، أو انسجام العناصر السردية؟ .. هل يمكن أن تبدو قراءاتهم النقدية كأنها إعادة نسخ مستمرة لبعضها البعض، ولا أقصد اللغة، وإنما أسلوب التأويل، وطريقة تحليل العمل الأدبي وفك شفراته؟.

لكن صرخات ولعنات هؤلاء النقاد لا تستهدف الكتّاب “السيئين” فقط، وإنما تصب غضبها ونقمتها على قرّاء هؤلاء الكتّاب أيضًا .. الجمهور الذي يُقبل على أعمالهم، ويروّج لها، ويمجّدها بوعي سطحي، وذائقة فاسدة، الأمر الذي يتماشى منطقيًا في تصورهم مع الانهيار الشامل والتدني العام في كل شي: الثقافة .. الأخلاق .. البديهيات الإنسانية التي لا ترتبط بمكان وزمان.

لعل الاتهام الأبرز الذي يوجهه هؤلاء النقاد إلى جموع القراء المساهمين وفقًا لاعتقادهم بدور أصيل في هذه المأساة العظيمة هو عدم الإنصات لهم .. الانفصال عن المعرفة الأدبية التي قامت بتأسيسها وثتبيتها مشروعاتهم النظرية والتطبيقية المتعددة .. يؤمن هؤلاء النقاد أن ابتعاد القراء عن كل هذه الأرصدة التوجيهية، والمرجعيات الإرشادية قد حرم بصائرهم من الاختيارات السليمة، والإدراك المتيقظ، والانحياز الجمالي الحصيف .. يؤمنون أيضًا أن المأساة تزداد فداحة مع تحوّل القراء إلى كتّاب مراجعات، تُنشر، وتنتشر، وتفسر، وتشرح، وتعطي آراءً وتقييمات، وتقترح، وتفاضل، وتصدر أحكامًا يتوافق معها ويتبناها الكثيرون؛ أي أنهم باختصار يعطون لأنفسهم بكثير من العبث والمجانية والاستسهال الحق في أن يقوموا بما ليس جديرًا بأحد في العالم أن يفعله سوى الناقد فحسب.

لكن، هل يوجد بالفعل هذا التنافر بين النقاد والقراء؟ .. هل يمضي كل من الناقد الغاضب والقارئ اللامبال في طريقه المعارض للآخر؟ .. هل يختلف حقًا ما يكتبه هؤلاء النقاد العرب في دراساتهم عما يكتبه القراء العرب في الريفيوهات؟.

مقالات من نفس القسم