إذا أردت أن تكسب انتباه أحد احك له حكاية. هذه أحد أكثر القواعد جدارة في الحياة. في الدراما ليس عليك أن تحكي حكاية فقط لكن عليك أن تحكي حكاية بطريقة جيدة. هناك قاعدة أخرى: لا تحكي الحكاية نفسها مرة أخرى إن لم يكن لديك طريقة جديدة لتحكيها بها. الأب (المتوفي) يبدأ في سرد حكايته على الابن عن طريق فيديو تركه ليشاهده الابن بعد موته. لولا تلك الحكاية لما استمر حسن في مصر ولما استمر الجمهور في السينما، خصوصا وأن فكرة الكنز الذي على حسن اكتشافه بالحمولات السحرية له في ظني لم تكن مجدية لأنها من ناحية كانت شديدة التقليدية ومن ناحية ثانية شديدة المباشرة. لكن حتى حكاية الجد كانت لتصبح مملة للغاية لولا أنها انشطرت لحكايتين: حكاية حتشبسوت وقصة إعتلائها العرش وحكاية علي الزيبق. والحقيقة أن كل حكاية منهم كانت لتصبح مملة لولا الطريقة التي حكيت بها الحكاية الأصلية وحكاية علي الزيبق. أنقذ الحكاية الأولى مغامرة وجود محمد سعد في شخصية “درامية” والتنوع سرديا بين الدراما والترفيه (رغم أن حذف الاستعراضات والمونولوجات التي قدمها أحمد أمين لم يكن ليؤثر على الدراما فإنه في ظني ساهم في الإبقاء على الجمهور لمتابعة قصة الأب). أيضا الطريقة الملحمية التي قدمت بها حكاية علي الزيبق أنقذت الحكاية نفسها، بداية من وجود الراوي منشد السيرة، انتهاء بالحضور المبهج لمحمد رمضان مع روبي. قصة حتشبسوت وحدها لم تجد ما يعينها على شد الانتباه، أولا بسبب المباشرة الشديدة في تقديم طرفي الصراع والمباشرة الشديدة في تعبير كل طرف عن نفسه بوضوح دون ترك مهمة ذلك للفعل الدرامي. الصراع نفسه ـ بسبب ذلك – بدا ساذجا – ومتوقعا. سوء اختيار هاني عادل في دور سننموت كاد ينهي أي شغف لمتابعة الحكاية خصوصا مع الرومانسية المفرطة التي لم ينجح مكياج وجهه في دفعنا لتصديقها (مشاهده تسببت في سخريات الجمهور عدة مرات)
الحكايتان الأخيرتان بدتا كحكاية واحدة: قصة صراع الحق مع الباطل، الناس مع السلطة. لكن في حين كانت تلك القصة مفتعلة في الحكاية الأولى بدت أكثر طزاجة في الحكاية الثانية، خصوصا وأن المرور العابر لطريقة تعاطي سننموت والكاهن مع الفيضان (كمعادل للصراع العلمي الديني) مر دون أن ينتبه أحد لأن مشهدا واحدا لم يكن كافيا.
ورغم أن الحكايتين هما حكاية الحق والباطل فإن الحكاية الأم (حكاية بشر) تسببت في كثير من الإرباك لأن الطرف الذي يحكيها كان رئيس القلم السياسي الذي كان يشرف على تعذيب المعارضين للملك ويلفق الاتهامات لآخرين ولا يتورع – حماية لمركزه وطموحه السياسي – عن أن يسجن أخيه الأصغر. ليس هذا فحسب بل إن الطرف الآخر بدا باهتا إن لم نقل إنه لم يكن موجودا. بعض المساجين (أحدهم الأخ الأصغر لبشر) لم ينجحوا في أن يكونوا طرفا قويا في المعادلة حتى ولو كان أحدهم هو أنور السادات شخصيا. الطريقة التي كسب بها رئيس القلم السياسي تعاطفنا (خصوصا وأنه الشخصية الوحيدة تقريبا المصنوعة دراميا في القصة) أربكت معادلات الحق والباطل التي غذّتنا دراميا طوال الوقت. إضافة إلى أن الكنز (بكل دلالاته) كان في حراسة طرفي الحق في الحكايتين (سننموت وعلي الزيبق) لكنه كان في حراسة بشر في الحكاية الأم! لكن فيما يبدو أن استمرار الحكاية للجزء القادم قد يكشف عن سوء تقديرنا.
على أية حال لم تكن المهمة سهلة على الكاتب عبد الرحيم كمال، وأظن أنه نجح إلى حد كبير في الانتقال السلس من حكاية لأخرى من جهة، وفي تطوير الحكايات بالتوازي من نقطة بداية للصراع الدرامي لنقطة ذروة لنقطة أخيرة لتغلب أحد أطراف الصراع. نجح أيضا في التنويع على اللغة العامية لكي يعبر بها عن ثلاثة عصور مختلفة. نجح أيضا في خلق بعض الشخصيات الدرامية بعيدا عن معادلات الحق والباطل أي بعيدا عن وجود الشخصيات كنمط (أغلب الشخصيات كانت نمطية إلى حد كبير). صحيح أن المباشرة والحدية خفّضا كثيرا من حضور الشخصيات كشخصيات درامية لكن نجاحه في الشخصية الأهم (الرواي الأصلي/ بشر) الذي بدا كإنسان وأفلت من النمطية كان نجاحا مهما. ويحسب الحقيقة لمحمد سعد إكساب الشخصية روحها. والحقيقة أن محمد سعد نجح بنسبة كبيرة كممثل لولا أن مقاومته لتقديم “كراكتر” كانت واضحة. هناك قاعدة مهمة: الحضور الحي للممثل يشكل نصف قوة الدراما في السينما والمسرح والتليفزيون.
بالحديث عن الطريقة التي تحكي بها الحكايات سينمائيا لا يمكن إغفال الدور المهم لأنسي أبو سيف (الديكور) وملك ذو الفقار (الملابس) في تحقيق صورة بصرية جيدة ومنضبطة خصوصا وأن الدراما التاريخية كثيرا ما تفقد نصف قوتها بإهمال أمر الصورة ومصداقيتها. ومع هذا فإن الفيلم في مجمله ليس أفضل ما لدى شريف عرفة الذي لفت النظر إليه بفيلمين مختلفين في تاريخ السينما (سمع هس ويا مهلبية يا) وفي ظني أن تاريخ شريف عرفة يدلل على أمرين: أنه مخرج جيد، وأنه مخرج ممتاز حين يكون لديه نصا ممتازا (أهم أفلامه كتبها ماهر عواد ووحيد حامد). ورغم أن نص الكنز في رأيي جيد فإن تنفيذه أصابه بعض الضعف لسببين أولا لأن مشاهد المعارك كانت أقل من المتوقع وثانيا لانتحال مشاهد مشهورة من بعض الأفلام (مشهد بشر في الكباريه والتقطيع بين نظراته وغناء نعمات والاستعراض محاكاة لنفس المشهد من فيلم مولان روج مثلا).
ومع هذا فإن الاحتفاء بهذا الفيلم يبدو بالنسبة لي الموقف الأكثر ضرورة ومنطقية. نحن أمام فيلم جيد وجاد وممتع. صناعه بذلوا ما في وسعهم ليصنعوا فيلما جادا وسط أفلام العيد التي بطبيعتها تفتقد الجدية. وأيضا لم يفقدوا بوصلتهم الجماهيرية فقدموا جديتهم بخفة ظل مدعومة بكثير من المتعة. الممثلون كلهم كانوا جادين مدركين أنهم في مغامرة: مغامرة تقديم عمل نصف تاريخي نصف اجتماعي ومغامرة حشد الفيلم بنجوم كثيرين ومغامرة الدفع بمحمد سعد في دور درامي، ومع هذا تفاوتت المستويات التي ظهر عليها الممثلون. بالنسبة لي كان محمد سعد وأحمد رزق وروبي وأحمد حاتم الأكثر حضورا، إضافة بالطبع لمحمد رمضان الذي يجب دفعه لاكتشاف قدراته بتشخيص شخصيات درامية تتعارض مع طبيعته الجسدية مثلا، والذي يجب عليه التدريب للتغلب على مخارج الحروف التي تنمّط أداءه في كثير من الأحوال.
للذين يغفلون أمر المتعة في السينما أحيلهم لروبرت ميكي مؤلف كتاب (القصة: المادة البنية الأسلوب) والذي يقول فيه “قد يكون لديك نفاذ بصيرة بوذا، لكن إذا لم تكن تستطيع أن تحكي قصة، ستصبح أفكارك جافة مثل الطباشير”. كثير من الكتاب والمخرجين الجادين الذين يصنعون أفلاما بين الحين والآخر يميلون لتحميل الجمهور مسئولية خسارة عملهم رغم الحكمة العميقة التي يظهرونها في الأفلام، لكن هؤلاء لا يعرفون القاعدة الأهم في الفن: إن أردت أن تتفلسف فاذهب للمطبعة. عبد الرحيم كمال وشريف عرفة – لحسن الحظ – ليسا من هؤلاء لهذا فإننا ندين لهما بالمتعة التي أبهجتنا حتى وإن لم تعجبنا الطريقة التي حكيا بها حكايتهما، حتى وإن كانت توقعاتنا قبل مشاهدة الفيلم كانت أكبر. قاعدة أخرى مهمة: لا تتوقع شيئا قبل ذهابك للسينما. في السينما فقط اذهب واكتشف!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائي وناقد مصري