محمد الفخراني
الكلمة هى أداة الخَلْق الأولى.
ربما هى أوَّل مخلوق، ثم تحوَّلَتْ إلى أداة أُولى للخَلْق.
ماذا لو اختفَتْ الكلمات من العالم، لو اختفَتْ من الكتب، ومن رؤوسنا، بحيث نعرف أنها موجودة، لكنها فى الوقت نفسه ضائعة مِنّا، لا نجدها، مثل أن تكون كلمة ما على طَرف اللسان، على طَرف البال، موجودة لكنها ضائعة مِنّا، كلنا عِشْنا هذه الحالة وما تُسبِّبه من حِيرَة وشعور غريب بالفَقْد، لنتَخَيَّل أن تكون هذه حالنا مع جميع الكلمات، حَتْمًا للجنون.
لنتَخَيَّل العالم بلا كلمة واحدة، هل يمكن أن نُسمِّيه عالم؟
العالم مُكَوَّن من كلمات، أسماؤنا، أسماء الشوارع، الروايات، الحكايات، القصائد، كلامنا العادى، أسماء مَنْ نعرفهم، ومَنْ لا نعرفهم، الصدق والكذب، الخيال والواقع، الوقت والمكان، أنْ يكون النهار والليل وما فيهما بلا اسم، أنْ تضيع مِنّا كل كلمة نعرفها عن أنفسنا وعن أىّ شىء، فوضى وانهيار كامل، حتى أننا لن نستطيع أن نفهم ما يحدث وقتها أو نَصِفُه، فليست لدينا كلمات لنفْعَل.
يمكننا أن نتوَقَّع إمكانية وجود خطة للتعامل مع أىّ ارتباك يحدث فى العالم، لكن لا يمكن أن توجد خطة للتعامل مع اختفاء الكلمات، كيف لأىّ خطة أن تكون موجودة فى غياب الكلمة؟
لأنها مُهمة لهذه الدرجة، نبحث عن أىّ طريقة لتكون الكلمة موجودة بيننا، لغة الإشارة لفاقِدى النُطْق، كلمات محفورة أو بارزة لكفيفى النظر، لابد من توافر الكلمة بيننا، نحتاجها لهذه الدرجة، ونُسَخِّر حواسنا كلها للتعرُّف إليها، لأننا بها نتعرَّف إلى العالم، وبها يتعرَّف العالم إلينا.
اكتشاف الكلمة يفوق أىّ اكتشاف آخر، و”الكلمة”، واكتشافها، شىء يختلف تمامًا عن قدرة الإنسان على النطق.
ولا يمكننا أن نَصِف الكلمات فى أىّ سياق بأنها “مُجرَّد كلمات”، الكلمات هى أكثر شىء لا يَصِحّ أن يوصف بأنه “مُجرَّد..”، ربما كل شىء فى العالم “مُجرَّد”، ويظَلُّ مُجرَّدًا إلى أن تكْسُوه الكلمات وتُعَرِّفه.
أصعَبُ الأبواب وأبْعَدُها لا تُفتَح إلا بالكلمة، أبواب السماوات والأرضين، أبواب القلوب والعقول تفتحها الكلمة، كل باب من طبيعته أن يُفْتَح، وكل ما نعتقد أنه لا يُفتَح، دواه الكلمة، هناك أبواب لا تَنفتح إلا بكلمة مُحدَّدَة، وأبواب تنفتح بكلمات مختلفة، فيمكن لكل مِنّا أن تكون له كلمته الخاصة التى يفتح بها هذا الباب، فقط عليه أن يتوصَّل إلى الكلمة المناسبة.
الكلمة مفتاح حُرّ، للجميع وفى الوقت نفسه ليس لأحد.
الروح والجسد يَنفِتحان لنا بالكلمة، وأقصد كل روح وكل جسد.
أصعب الأبواب وأجملها هى التى مفتاحها كلمة، حتى فى الحكايات الشعبية والأساطير، أجمل الأبواب وأصعبها، أروع الكنوز، وأقصد أىّ كنز مادى أو مجازى، تُفْتَح بكلمة، هى تجعل الباب الصَّعب سهلًا، ومن السهل جدًا العثور على الكلمة المناسبة، وبالقَدْر نفسه يصعب العثور عليها، هذا هو سِرّ الكلمة، إنها السَّهْل الصعب.
الكلمة هى الكنز والمفتاح.
لا يوجد باب إلا وهناك كلمة تفتحه.
العالم فى إحدى صوره ليس إلا أبواب مفاتيحها كلمات، أو أنه باب واحد مفتاحه كلمة واحدة.
للمفارقة، الكلمة يمكنها أيضًا أن تُغلق بابًا لم يكن شيئًا آخر ليُغلقه، ويمكنها أن تُنهى أشياء لم تكن لتنتهى.. إلا بكلمة.
نهتم لهذه الدرجة بأول كلمة، وآخِر كلمة، الأولى فى حوار عادى، أو رواية أو قصيدة أو فيلم أو مسرحية، ونهتم أيضًا بالكلمة الأخيرة فى هذا كله، الحقيقة أننا نهتم أيضًا بالكلمات التى بين الأولى والأخيرة، كل كلمة مهمة.
أول كلمة نسمعها أو نقولها قد تُحدِّد كل شىء، وآخر كلمة قد تُحدِّد كل شىء، يتغيَّر كل شىء بسبب كلمة ظهَرَتْ، أو كلمة لم تظهر.
ربما الكلمة هى أكثر شىء اِنتظرَه وينتظره البشر، حتى خلال اليوم الواحد، تبدأ أهميتها من أنها قد تجعل اليوم لطيفًا، وتُغَيِّر المزاج إلى الأفضل، إلى أنها قد تُغَيِّر حياة كاملة، هى الأكثر قُدرة على التأثير فى أكبر عدد من البشر، يمكنها أن تفعل هذا فى اللحظة نفسها، أو بعد سنوات، ويمكنها أن تمتد لمئات السنوات، لا تفقد تأثيرها، حتى أنها تُجدِّده.
كم مرة وقف ملايين فى انتظار كلمة، وكم مرة اختلىَ شخص بمفرده ليقرأ كلمة خاصة مكتوبة له وحده، أو ليكتبها، كم مرة اختلَىَ شخصان ببعضيهما ليتبادلا “كلمة” تخصُّهما، وكم مرة اختلى شخص مع الكلمة لوحدهما.
الكلمة دليل إثبات وأهم توثيق لوجودنا، أكبر دليل على أننا جئنا فى هذا العالم، ربما لهذا لدينا تلك الرغبة فى الكتابة على الجدران والملابس وأكواب القهوة وجذوع الأشجار وفى صخور الجبل ورمل البحر، كل شىء، حتى الرسم فى جدران الكهوف لم يكن إلا مُحاولَة للكتابة واكتشاف “الكلمة”.
والكلمة مُتاحَة للبشر كى يتمكَّنوا من فِعْل الخَلْق، هى الأذكى، والأكثر قُدرة على الوصول، وهى واحدة من أكبر حرية يمكن لأىّ أحد أن يحصل عليها.
كم مِنْ إنسان أحْيَتْه كلمة.
الكلمة كائن حىّ، مُحِبٌ للحياة، لعوب، رشيقة، فيها من كل شىء فى الكون، ومنها كل شىء فى الكون، ولا شىء أكثر جمالًا وتألقًا من كلمة لائقة فى وقت لائق، والشمس التى تظهر كاملة فى موعدها ومكانها ليست إلا كلمة لائقة فى وقت لائق، الكلمات ليست وسيلة للتعبير، هذا أقلّ ما تفعله، هى فى ذاتها جمال وغاية، الكلمات كائنات حيَّة، لها حياتها ووجودها الخاص.
هل قلتُ أن الكلمة يمكنها، حَرْفِيًّا، أن تنقذ حياة؟ هذا صحيح جدًا.
ويظَلُّ ظهور كلمات جديدة فى العالم شيئًا مُدْهِشًا بالنسبة لى، ولا أعتبر أن سبب ظهورها هو فقط احتياجنا لكلمات جديدة من وقت لآخر، وإنما تظهر لشىء فى ذاتها، لأن لها نَفْس وروح وكيان ومشاعر وأفكار، لها حياة جاءت لتعيشها، وتُشارِكَها مع غيرها، والإنسان ضِمْنَ مَنْ تُشارِكَهم حياتها.
الكلمة، المُحِبَّة للحياة تُغَيِّر من شَكْلها ومعناها وأسلوبها عندما تُغَيِّر أماكنها بين زميلاتها من الكلمات، تُفاجِئنا بشخصية جديدة فى كل مرة، كل كلمة لديها الكثير ممّا يمكنها أن تُفاجِئنا به، بألف وجه وشُعور.
تُحب الكلمات أن تُغَيِّر الأماكن والأساليب والمواقف التى اعتدنا أن نراها فيها، ونحن نُصِرُّ أحيانًا أن نضعها فى الأماكن نفسها، بالطريقة نفسها، نحرمها ونحرم أنفسنا من الاحتمالات الأخرى، وأنْ تكشف لنا أسرارها، لا نُغامر معها، بها، والكلمة بطبيعتها تحب المغامرة، والجموح، وأنْ تدخل التجربة، ونحن نحبسها فى المعتاد، داخل الأماكن نفسها، حتى تَمَلُّ هى من نفسها، ربما لهذا اخترَعَتْ الكلماتُ كلمة مثل “المَلَلْ” لتقول لنا أنَّ بعض ما نفعله معها لا يُعجبها، يصيبها بالملل ويكاد يقتلها.
الكلمة حُرَّة، منطلقة، ألعابها لا تنتهى، تَتُوق لمن لديه القدرة على اللعب معها، وستكشف له العَجَب، ستُعطيه مفاتيحها، الكلمة مفتاح كل شىء، وفى الوقت نفسه لها مفاتيح، تبدو الكلمة متاحة، ويمكن لأىّ أحد أن يستعملها، هذا غير حقيقى، هى فقط توهمنا بذلك، هذا ضِمْن ألعابها.
للكلمات مفاتيح، ومفاتيحها المغامرة والجموح واللعب والذهاب معها للمجهول، والدخول بها فى أماكن تبدو حتى لنا مخيفة، مساحات جديدة وغير معروفة، وغير مأهولة بالكلمات والجُمَل والمعانى، وهذا بالتحديد ما تريد الكلمة أن تدخله وتُجَرِّبه حتى فى كلامنا العادى.
الكلمة أعطتنا هذه الكلمات: المغامرة، الجموح، اللعب، التجريب، الابتكار، الحرية، وكلها مفاتيح الكنز: “الكلمة”.
………………
*نُشِرَ فى: Middle east online