الكلبُ العَقُور

كريم عبد السلام
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

كريم عبد السلام

عاد الكلبُ العَقُور
عاد النَّبّاحُ الهدَّارُ العوَّاءُ الرَمّاح
انظروا..
ها هو متأهبٌ للهجوم
بجلدهِ الأجربِ المليء بالبثور،
وذيلهِ المسلوخ،
ولعابهِ السائل،
وغضبهِ الدائم على كل من يتحرك، أو يضحك من قلبه
ووراءَه عصابةُ التابعين.
…………..
قيل إنه سقط مع نيزكٍ محترقٍ من السماء
وقيل إنه خرج من باطن الأرضِ السحيق
وقيل إنه تسلل ذات فجرٍ من كوابيس الخائفين
وقيل..
وقيل..
في الليالي القمرية يتمدد ظلُّه على جدران المنازل، وفى الخرابةِ الكبيرةِ التي يحتمى بها من الشمس والمرايا،
صوتُ هديره وزمجرتِه ونباحهِ يتتابع في أحلام الأطفال المغضوبِ عليهم،
فينهضون باكين من النوم، يرجون العفو في أحضانِ الأمهات
………….
عاد الأجربُ العقور متباهياً:
“أنا صاحبُ رسالة
كلُّ من يمشى، لماذا لا يعدو مفزوعاً
كلُّ من لا يخشانى، يستحق العقاب
كلُّ من يبتسم، خطرٌ على وجودى”

عندما تحكى الأمهات عنه لأبنائهن الراسبين فى المدرسة، تدور أشباحُه حول مجالِ الحكى، كما لو كانت تبحث عمن استدعاها لتغرز أنيابَها فى عنقه، وتُضطر الأمهات إلى الصمت وسط الدموع المكتومة للأبناء، ويُشرن بأصابعهن ناحية الأشباحِ بالخارج:
سمعتم أعورَ العين؟
سمعتم أجربَ الجلد، مسلوخَ الذيل؟
فتنطبع صورُ المسوخِ والوحوشِ على ذاكرة الأبناء
……………

لا أحد يعلم لماذا غاب العقور عندما غاب
لكنه عاد وخلفه عصابةٌ من الكلاب الجرباء العوراء، تتبعه فى كل هرولة أو هجوم، وتجاوب نباحه فى الخرابةِ الكبيرةِ، وتلصق أوامره فوق جدران المنازل وعلى أعمدة الكهرباء وزجاج السيارات..
“النهارُ من الشروق إلى الغروب لكم،
والليلُ لى
الكلامُ فى النهار لكم
وتسمعون غنائى ليلا
أريد أغنياتى فى كل قلب
أريد صوتىَ صديقا للعاشقين
ودستورى محفورا فى الألباب”
……………
وبين الصمت والخوف
بين العجز والاستمراء
بين اللامبالاةِ وإيثار السلامة
تحولت أوامرُ العقور إلى آيات محفورة فى أذهان العائشين خلال أشهر قليلة،
وأصبح دستوره المحركَ الأول للخائضين فى وحل الحياة الممتد من الأرض إلى أغوار النفوس..

دستور..
عواء..
صمت..
للعائد الحق فى إقرار النشيد الوطنى ” Let Me Make You Cry A Little Longer “، بناء على حلمٍ صادقٍ ذاتَ ظهيرةٍ حارةٍ فى الركن الأيمن الشرقى من الخرابةِ المقدسة

دستور..
عواء..
صمت..
تحريمُ الغناء على السكان ما عدا العائد مع استثناء النشيد الوطنى من الترديد على كل الألسنة، وعلى جميع العائشين إذا أرادوا البقاء أن يستمعوا لأغاني العائد بكثير من المحبة والتسامح والقبول

دستور..
عواء..
صمت..
منعُ ازدراء الكائنات الجرباء وخصوصا الكلاب، والسماح بالحق فى الجَرَبِ للعاديين من السكان

دستور..
عواء..
صمت..
تقديس الخرابة الكبيرة ووجوب زيارتها مرة فى الشهر، والمساهمة فى تغطية قُمامتها بالرمل، وغرس الأشجار فى زواياها، والتبرع لصندوق نذورها، وتعليق اللافتات المزينة بصور العائد والتابعين

دستور..
عواء..
صمت..
يجوز عقد اختبارات مفاجئة للسكان فى مواد الدستور ليلا أو نهارا، لقياس مقدار الانتماء والصلاح والاندماج
دستور..
عواء..
صمت..
لمجموعة التابعين حق العض والنهش لأي من العائشين المتلكعين، بهدف التأكد من تحصينهم ونقل الرؤية الكلبية لعقولهم ووجدانهم بوتيرة سريعة ومضمونة

دستور..
عواء..
صمت..
إلزام جميع العائشين بحضور حفلة القمر الشهرية، ومن يتخلف عن الحضور يغادر المنطقة، على أن يلتزم الحاضرون بالتصفيق بعد كل فاصل غنائى، ومن تسجل الكاميرات أنه لا يصفق يتعرض لغرامات مالية متصاعدة، وصولا إلى العزل فى الصحراء

دستور..
عواء..
صمت..
كل مواطن عليه التأمل فى الأداء العبقرى للعائد وهو يغنى النشيد الوطنى، والاجتهاد فى وضع مؤلفات تتقصى إضافاته الإبداعية والروحية، وتخصيص الجوائز للأفضل منها سنوياً

دستور..
عواء..
صمت..
اعتماد النباح لغةً ثانيةً لجميع السكان، مع مهلة ستةَ أشهر لجميع العائشين حتى يتقنوا اللغة الثانية ويعملوا كمواطنين صالحين على الاندماج فى المجتمع الجديد
……………..
دقت الأجراس
تن.. تن.. تن
وبدأت التطوحات مع الحفل الكبير
تن.. تن.. تن
“أنا صاحب رسالة
تن
كلُّ من يمشى، لماذا لا يعدو مفزوعا
تن
كلُّ من لا يخشانى، يستحق العقاب
تن
كلُّ من يبتسم، خطر على بقائى
تن
تن
تن
وتصاعدت العواءات فى الحفل الكبيرتحت أشعة القمر البدر، وتعارضت وتكاملت واتحدت، وامتزج عواء العقور وعصابةُ التابعين مع صرخات العائشين المُتَكلّبين وجماعات مؤيدى الجَرَب والنباحين الجدد والنهاشين القوميين، وخرجت النداءات من القلوب والصرخات من ظلمات النفوس والاعترافات من الأجساد المتشنجة، وبلغ التسامى ذروته، حتى استقبلت السماء دخان العشرات من المحترقين ذاتيا والراغبين فى الاتحاد مع جوهر النباح، باعتباره النداء الخالد للرب القمر
……………
أنقذنا
هل تسمع رجاءات عبيدكَ
هل تصلكَ زفراتهم الحارة
هلاّ نظرتَ إلينا بعينك العظيمة
هلاّ مددت إلينا أطراف أصابعك
لمسةً نرجوها من ذاتكَ
حتى نقترب من المدار
ودموعنا تسبقنا
وأرواحُنا المنسربة إليك
تكشف غاياتنا
…………….
لأيام متواصلة، أطاح النومُ بالمحتفلين فى الميدان الرئيسى
ممن فشلوا فى الارتقاء
ممن عجزوا عن الاحتراق ذاتيا
وتساقطوا فى أماكنهم منهكين،
إلى أحلام تأخذهم نحو ما عجزوا عن الوصول إليه باليقظة
ولم يستطع أحد أن يفرق بين العقور وعصابته وبين العائشين المندمجين بالتعاليم
لكن المستيقظين تباعاً، لاحظوا الصمتَ المطبق فى الميدان والشوارع والخرابة الكبيرة
صمت الظهيرة الحارة بعد مجزرةٍ،
والبطلُ طنينُ الذباب
صمتٌ لزجٌ كأنه مصنوعٌ من القار
يحيل إلى فجوة بين ما كان وما سيكون
من نحن
أين نحن
وأين ما كنا نحيا به
أما زلنا نتخبط بين أبواب الأحلام وعتبات الكوابيس
هل انتبهنا أم نحن مع الموت وزخارفه وأسراره؟
…………
اختفى العقور
اختفت عصابة الكلاب الجرباء
صعدوا إلى السحاب
اتحدوا مع جوهر العواء الممتد نحو أشعة القمر الفضية
غاصوا فى باطن الأرض السحيق من حيث جاءوا
تحولوا إلى هواء يتنفسه العائشون
…………..
تعددت التفسيرات
وأصبحت غيبةُ العقور وتابعيه فزعاً فى كل قلب
ورفضاً فى كل مؤتمر
ونشيجاً عند ترديد النشيد الوطنى
Let Me Make You Cry A Little Longer
ثم تحولت من الإنكار إلى طمأنينة التأويل
من الرفض إلى خيال الأمنيات
ومن الحزن إلى التجارة وتحويل العائشين إلى كلابٍ عقورة جرباء
…………
سنواتٌ مرّتْ على اختفاء العقور والعصابةِ
سنواتٌ على الحفل الكبير للارتقاء
وما تبعه من ظهيرة حارة ممتدة بطنين الذباب إلى ما لا نهاية
لكنّ العقورَ ظلّ متشبثاً بالعائشين
من خلال تماثيله المتوزعة فى الشوارع
وهو يتطلع إلى القمر
وهو رابض فى الخرابة عند الظهيرة
وهو متأهب للانقضاض
وهو يحك جلده بعنف
وهو يتشمم الأصوات المخبأةَ فى الهواء
كما ظلّ دستوره باقيا فى النفوس
وصار من المعتاد أن ترى بشرا يمشون على أربع، أو يتعصبون للنباح كلغةٍ أولى، ومنهم علماء وضعوا رموزاً مقابلةً للأصوات المتتابعة فى لغات الكلاب من النباح إلى العويل والخرخرة والهدير والأنين والسعال والشخير والنحيب والعطس،، حتى يتمكنوا من تدوين اللغة وتقريرها فى المدارس
كما أصبح الجَرَبُ حقاً مشروعاً، وموضةً بين المراهقين مثل الجينز الممزق والوشوم والراستا والحلقات المعدنية فى الأنف والفم
ومن دعاة الجَرَب من يفاخر بعدد جروحه وبثوره
ومنهم من وضع فيه مؤلفات باعتباره رياضةً روحيةً وتصالحاً مع الألم ونبذاً للمظاهر لحساب الجواهر
أما المتطرفون فينظمون مسيرات بأعلام خاصة بهم، ويدعون للاحتكاك بالعاديين من العائشين لنقل العدوى إليهم بالقوة
………..
إلى أن
إلى أن قامت الحرب
واتسعت المدينة للدمار واللاجئين من كل صوب
واختفت الخرابةُ الكبيرة من شدة القصف وكثرة الأنقاض وتناسخ الخراب
واختفت تماثيلُ العَقور
والبشر الماشون على أربع
ودُعاةُ الجَرَب
والنهاشون القوميون
وامتد العمران إلى ما وراء الخيال
وجاء الغزاةُ البيضُ من أوربا بأسلحتهم
وتمركزوا عند طرف المدينة
وبعدهم جاء الزنوج من إفريقيا هربا من المجاعة والوحوش الغامضة
وأبناءُ الجنس الأصفر جاءوا بحراً من الصين
والترابيون من الهند
والقوقازيون والتتار من آسيا
والحُمْر من أمريكا اللاتينية
وراجت تجارة الأشياء القديمة
ومبادلة الغذاء بالأعضاء
وأمكن استدعاء الموتى القدماء عن طريق التضحية بالأرواح
وتعلّم الشباب ترويضَ الذئاب وألعابَ الحواة وأكلَ النار والسفرَ عبر الزمن
وأصبحت النساءُ هى العملة الأساسية فى الأسواق
وابتكر الغرباء أنواعا من الخمور تجلب السعادة وتذهب بك إلى عوالم جديدة
قد لا تعود منها
وانكسر الزمنُ الجامعُ،
وأصبح لكلّ واحدٍ ليلُه ونهاراتُه وأشباحُه التى يستعين بها على ضياع الأيام
…….
وفى يوم
وقفت عجوز فى وسط السوق تلطم خديها وتشق جلبابها وتصيح:
عاد الكلبُ العَقُور
عاد النَّبّاحُ الهدَّارُ العوَّاءُ
انظروا..
ها هو متأهب للهجوم
بجلده الأجرب الملئ بالبثور،
وذيلهِ المسلوخ،
ولعابهِ السائل،
وغضبهِ على كل يتحرك أو يضحك من قلبه

عاد الأجرب ُ العقور
ووراءَه عصابةُ التابعين.

مقالات من نفس القسم

خالد السنديوني
يتبعهم الغاوون
خالد السنديوني

بستاني