مترقرقَ الغصّاتِ كالناياتِ
يخطو الموتُ خطوتهُ الحزينةَ قرب آلامي
ويشربُ من دموعي نرجسُ الصبحِ الكئيبْ !
اليوم تتركني الأغاني
مثلَ نعشٍ ( أبيضٍ )
في الباحةِ البيضاءِ للبيتِ العتيقِ
تضمُّ أزهارُ الحليبِ شفاهها
وتنامُ ظامئةً على صدري
ويرضعُ من جراحي ثديُ ريحٍ جائعهْ ..
وتلفّني مثلَ العباءةِ غيمةٌ عندَ المغيبْ !
ما شفّني وجدٌ
لأغفو تحتَ جنحِ الليلِ غفوةَ عروةِ بنِ الوردِ
بينَ قصيدتينِ تناديانِ الحاءَ في الصحراءِ
عن معنى يردُّ الشمسَ أجملَ
من حمامٍ زاجلٍ فوقَ السهوبْ .
أو راعني مرآى هلالٍ شاعريٍّ
ساعةً في الليلِ
كي أهتزَّ كالأوتارِ للرؤيا
وأشربَ نورها المذبوحَ فوق دمِ الورودِ
كأنّني قنديلُ دمعٍ يرضعُ العينَ الحزينةَ
في مغاربَ ضائعه !
حامتْ طيورُ الصيفِ حومتها الأخيرةَ
فوق بستاني ،
تحطّمَ في نحيبِ القلبِ صوتُ ربابةٍ سكرانُ
يا خيطَ المنيّةِ ضُمَّني وتراً إلى تنويحةِ الصفصافِ
أو فارتقني بالأشجانِ يا وترَ المباكي الموجعه !
أنا عازفُ الأنشودةِ الأعمى
على أسماعِ من سكنوا قداديسَ الخريفِ
وأصبحوا خلفَ النوافذِ كالشموعِ الدامعه !
لكأنَّ من أحببتُ ماتت
واستحالَ جمالُها ألغوزةَ العشّاقِ ،
إيقاعاً بعيدَ الرجعِ
للحزنِ الخليليِّ المحدَّبِ فوقَ نارِ الشعرِ
كالأوزانِ ،
أطيافاً تسيلُ كغيمةٍ زهريّةٍ فوقَ السفوحِ
وتذرفُ الماءَ المدمّى فوق أفواهِ الجراحِ الجائعه !
كانتْ سماءً من أسى مغسولةً بالدمعِ
أكثرَ رقّةً من
جلّنارٍ دامع ٍتحت العيونِ ،
وصدرُها زهرَ الأنوثةِ طاهراً ،
مُتطلَّعَاً للناظرينْ !
كانت ضفائرها سنابلَ عذبةَ الأمواجِ ،
دمعتُها زهورَ الثلجِ في الأقداحِ
كانت زرقةٌ عذراءُ ترعشُ في سماءِ عيونها
مثل السفرجلِ في الغصونِ
ويمسحُ الطيّونُ فوقَ الخدِّ قطرةَ زيتهِ الصافي
لتشربها قلوبُ العاشقينْ .
الأنثويَّةُ ، شهوةُ السكرِ الجريحةُ
في ابيضاضِ الفجرِ
تفّاحُ الصباحِ المشتهى
ما شبَّ عن صدرِ الصبا نهدانِ
مذ غابتْ تفتّحَ حزنُها ورداً على الجدرانِ
والنورُ المؤنّثُ في كسوفِ الضوءِ تحت الشمسِ
أعماهُ الحنينْ .
لم يبلغِ العشرينَ بعدُ جمالُها
ليفوحَ كالتفاحِ في شجرِ الصباحاتِ الرضيعِ
ولم يسلْ رمّانُها في الخدّ
كالعسلِ المصفّى من نهودِ التينِ
بل شهقَ الوحامُ من انبلاجِ الصدر ِ
شمساً من رنينْ .
لم تنهضِ الأشجارُ عن ينبوعها الموؤودِ تحت الضوءِ
كي تقتاتَ عشبَ الشمسِ كالغزلانِ
بل صارت جراحاً في الجذوعِ
ولم تجدْ زيتونةُ الحزنِ التي تعتاشُ في الصحراءِ
عكّازَ الكهولةِ
كي تسيّلَ زيتها دمعاً على الأبوابِ
فالتفتت إلى زيتونها
وبكتهُ في شتويّةِ العطشِ الحزينْ !
لا صوتها الباكي ترعرعَ تحتَ قوسِ الأبجديّةِ
كي يردَّ الريحَ – راهبةَ المراثي الأمّ –
عن مزمارها المكسورِ
أو دقَّ الصدى بمطارقِ الخشبِ الطويلةِ طبلَها الوحشيَّ
كي تصلَ استغاثتها
ولا سمعتْ نداءَ الحبِّ أجراسُ النحومِ الساهره .
بنتٌ تحدّقُ في السماءِ الفاطميّةِ
ثم تشرعُ للمدى جسدَ البياضِ ولونَهُ المجروحَ
مطلقةً حمائمها الحزينةَ في فضاءِ النهرِ كي تهبَ السحابَ بهاءها
فيهزّها وترُ الهديلِ على أناملِ همسهِ البحّاءِ
والأشواكُ تهديها تدحرجَ قلبها الذاوي
على دربِ الغيومِ العابره .
لكأنها منذورةٌ لتموتَ كالرمانِ في شجرِ الخريفِ
وحيدةً ثكلى ،
وتسقطَ روحها كالشمسِ من غصنِ الصباحاتِ الصبيّةِ
في بحيراتِ الأفولِ الغائره .
أتكونُ ساقيةُ الغروبِ جمالَ إمرأةٍ حزيناً
في ارتجاعِ الدمعِ نحو العينِ ،
والصفصافُ قاماتٍ مؤنّثة َ الحفيفِ على الضفافِ
تلاعبُ النسماتُ خضرتها الجريحةَ
كلما دارتْ نواعيرُ الحنينِ الحائره ؟
أم أنّ حزنَ النهرِ موصولٌ بأحزانِ النساءِ الغابراتِ
ووقفةُ الأشجارِ إنصاتٌ بدائيٌّ إلى الموتى البعيدينَ ..
انحناءٌ متعب ُالأيدي لهدهدةِ الجراحِ ،
ولمسِ أفئدة البناتِ الغارقات
وقد رقدنَ بأعينٍ بيضاءَ
في رحمِ المياهِ الخاسره ؟
صافٍ أديمُ الحزنِ في فلكِ المغيبِ
الروحُ جاثيةٌ كصفِّ ( حمائمٍ ) سوداءَ
فوق أصائلِ القرميدِ
والكلماتُ ترفعها على إبرِ الدموعِ
بلابلُ الشرفاتِ
لكن الأسى لا يُستطاعْ !
وندائي المشدودُ كالوترِ الجريحِ على معازفَ أرهقتها الريحُ
يصرخُ مثلَ ياءِ الليلِ بين قصائدِ الشعراءِ
والحبرُ الذي يجري بمجرى العينِ
من لبّ الفؤادِ إلى اليراعْ .
ما كانَ لي امرأة تهزُّ الليلَ في جسدي
لتبلغَ نشوتي إثمارها
وتكونَ لي تنويمةً ريفيّةَ الأهدابِ ،
مروى شمعدانِ الفقدِ في إغماءةِ العتماتِ
والسمَّ الذي أُسقاه ُ
إن جمّتْ مغاريبُ الوداعْ .
فارفعْ وداعكَ للذين ترهّبوا في الريحِ
كالناياتِ
أو صاروا ( تماثيلاً ) لحبٍّ ضاعَ
تعلوها ( مصابيحٌ ) معلّقة ٌعلى الذكرى
ويكسوها الشحوبْ !
فاليوم يتركني التأمّلُ ساكناً
في ساعةِ الليلِ الحزينةِ
أستحمُّ بدمعتي كالشاعرِ البدويِّ في نجواهُ ..
تتركني الكتابةُ
مثل طيرٍ حائرٍ في وحشةِ الشرفاتِ
تحملهُ إلى المنأى الرياحُ
ولا يؤوبُ مع الغروبْ .
ـــــــــــــــــــــ
* شاعر سوري
خاص الكتابة