الكتابةُ على حافة القيامة: قراءة تأملية في “كتاب غزة” ليوسف القدرة

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

مهيب البرغوثي

ليس هذا الكتاب شهادةً فحسب، ولا هو دفترُ يومياتٍ ناجٍ من المجزرة. “كتاب غزة” هو ارتجافةُ قلبٍ نجا من الموت، لكنه لم يَسْلَم من الحياة. هو أثرُ أصابعٍ كانت ترتجف فوق الورق، فيما السماء تمطر نارًا، والأرض تحتفظ بسرّ الذين عبروا ولم يعودوا. يوسف القدرة لا يكتب كما يكتب الآخرون؛ هو لا يدوّن الحدث، إنما يتماهى معه. يلتقطه من حوافه المحترقة، ويعيد تشكيله لا كما حدث، بل كما ارتُجف في الروح.

في هذا النص، لا تجد حربًا بقدر ما تجد بشراً انفجرت ذاكرتهم وهم يحاولون الاستمرار. “غزة”، كما تتجلى هنا، ليست مدينة جغرافية، إنها جرحٌ مفتوح على شكل مدينة. ليست “مكانًا” تنتمي إليه، بقدر ما هي سؤال يلاحقك: كيف تعيش في مدينة تأكل أبناءها وتُضطر لأن تبني أحلامك فوق قبورهم؟

الكتابة في غزة ليست تمرينًا في الأسلوب، إنما اختبارٌ للنجاة.

في كل سطر، يجرّب القدرة أن يمنح الحياة شكلًا يُحتمل. في اليوميات، لا يسرد الوقائع بتقنية تسجيلية، إنه يغزلها كأنها خيوط دخانٍ تتصاعد من بيتٍ لا سقف له. الكلمات هنا لا تعمل كوسيط بين الواقع والقارئ، بل كممر داخلي نحو الهاوية، حيث تتعثر الأرواح بما تبقّى من أسماء، وتلهث في محاولة لفهم “ما جرى”.

الزمن في الكتاب مشوش، مفكك، تائه بين سطورٍ ما عادت تقيس الوقت بالدقائق، إنما بالضربات التي تهوي من السماء. لا تجد تواليًا خطيًا، إنما دوامةً من الذكريات والأحداث، وكأن الكتاب لا يُكتب، بل يُنزف.

القدرة لا يسأل: “ماذا حدث؟”، إنه يسأل: “من كنّا عندما حدث؟”

يومياته، المكتوبة بنَفَسٍ مشبع بالأسى، تُسائل القارئ كما تُسائل الذات. يكتب عن الطفلة التي كانت تنام قبل أن يُردم البيت على أحلامها. عن الأم التي فقدت ثلاثة أجيال دفعة واحدة. عن الأب الذي يردّد “باي باي سيدو” في جنازة لا يعرف كيف يحضرها أو يغادرها. كل تفصيلة هنا ليست حالة، إنها اختزالٌ كثيفٌ للكارثة: الموت لا يأتي هنا كضيفٍ ثقيل، بل يسكن البيت، ينام على الأرائك، ويتناول الفطور مع الناجين.

ثمّة وجع لا يُقال، فيتسلل إلى الهامش، يندس بين الفواصل.

قصائد القدرة في الكتاب ليست زينة لغوية ولا استراحة من ركام اليوميات، إنها النزيف الخام. كل سطر شعري هو ما تبقى من صرخةٍ لم تُسمع، أو من نظرةٍ حائرة وسط الرماد. لا يكتب شعرًا لتجميل الألم، إنما لتقشير الوجع حتى ينكشف العظم. إنه ينقّب في اللغة عن النبضات الأخيرة لمن غادروا، فيأتيك الشعر كشهقةٍ محمولة على حافة صوتٍ لا يجد من يسمعه.

الكتابة هنا ليست فعلَ توثيق، إنها فعلَ احتجاج.

ليست الرواية الأدبية لما حدث في غزة، إنها الوقوف ضدّ أن يُنسى ما جرى. لهذا، تُستبدل وظيفة الكلمة من كونها وسيلة تعبير، إلى أن تكون وسيلة نجاة، وسلاح بقاء. يوسف القدرة يقاوم بالنصوص ما تحاول الكاميرا أن تختصره. يقاوم بالتفاصيل الصغيرة: ملعقة في الركام، وردة على السطح، صوت طفلة تحت الردم تقول “أنا هون”، مقاومةً أخيرة في وجه محوٍ منهجي.

أما عن العالم، فحضوره في الكتاب ليس غائبًا، بل مصمتًا.

العالم عند القدرة لا يخذل غزة لأنّه غائب، لكن لأنه يتواطأ في حضوره الصامت. الكلمات في “كتاب غزة” تحاول كسر هذا الجدار، لا بنداءٍ صاخب، بل بهمسٍ دامٍ، يقول: نحن هنا، ولا نزال نحمل أسماءنا رغم أن القبور لا تضع شواهد. النصوص تُمدُّ كجسور من الدم نحو الخارج، لا لتستنجد، بل لتُحرج.

ثمّة منفى داخلي يسري في الكتاب، بقدر ما تسري الجغرافيا المحاصَرة.

لا يكتب القدرة عن اللجوء الخارجي فقط، ولكن عن التمزّق بين الداخل والخارج، بين أن تنتمي لوطنٍ ينهار، وأن تحاول الفرار منه. في هذا الكتاب، يُصبح الفلسطيني نازحًا من قصته إلى قصص الآخرين، ضائعًا في السرد الذي لا ينتهي. وهذا ما يجعل النص ليس مجرد أدب مقاومة، بل أدب تشظي، أدب سؤال: من نكون حين تُكتب أسماؤنا في قائمة الشهداء قبل أن نموت؟

ووسط كل هذا، لا يغيب الأمل، لكنه لا يظهر كنهاية سعيدة.

الأمل في “كتاب غزة” ليس وهجًا يتلألأ في آخر النفق، إنه جمرة صغيرة في راحة يدٍ مرتجفة. يظهر الأمل كعنادٍ بسيط، كصوتِ أمٍ تصرّ أن تخبز لأولادها رغم الحصار، كضحكة طفلٍ من تحت القصف ويقول: “إحنا بخير”. هو أمل لا يعد، لكنه يشير إلى أن الإنسان، مهما تكسّر، يظل يبحث عن معنى.

“كتاب غزة” ليس كتابًا يُقرأ، إنه جرحٌ يُصغى إليه.

هو تأبينة للذين لم تُتاح لهم الفرصة ليقولوا شيئًا، وهو نشيدٌ خافت للذين بقوا كي يكتبوا نيابةً عنهم. يوسف القدرة لا يطلب شفقة، ولا يقدم دراما. هو فقط يشير إلى العدم ويقول: “هنا كنّا، وما زلنا وسنبقى.” وهو إذ يفعل ذلك، لا يقف كصحفي ولا كشاعر، لكن كمن حمل روحه بين كفيه، وعاد من حافة النهاية ليكتب.

مقالات من نفس القسم