حاورها: حسن عبد الموجود
تؤمن الروائية السعودية أمل الفاران، إيماناً حرفياً، بأن الكاتب يجب أن يختفى خلف نصه، ولذلك تكتفى بأن تضع غلاف روايتها الأخيرة «حجرة» بديلاً لصورتها على الفيسبوك، كما أنها اعتذرت عن نشر صور لها مع هذا الحوار، بل قالت إنها كانت لو تتمنى أن تأخذ خصوصيتها منحى أبعد لدرجة ألا تضع اسمها على كتابتها، لكنها تعرف أن الأمر مستحيل طبعاً.
تدور روايتها «حجرة» حول ما تتعرض له امرأة وحيدة اسمها مريم، والوحدة ربما أحد هواجسها الأساسية، التي ظهرت بشكل من الأشكال في أعمالها السابقة، مثل رواياتها «روحها الموشومة به» و«كائنات من طرب» و«غواصو الأحقاف»، أو مجموعتيها القصصيتين «وحدي في البيت» و«الفتاة التي لم تعد تكبر في ألبوم الصور». في هذا الحوار تتحدث أمل الفاران عن نفسها وكيف تفكر في الكتابة وكيف صاغت معاناة بطلتها مريم في عالم قاس لا يمنح أحداً أية خصوصية.
ألم تفكري أبداً في مراجعة قرارك بعدم نشر صورك في الأحاديث الصحفية؟
لا، لم أرغب في ذلك، وأتمنى لو أستطيع سلخ نصوصي عن ذاتي في ذهن القارئ. أتمنى لو يقرأها خالية من أي توقعات أو أحكام مسبقة أو حتى ظنون حسنة. ربما هذا هو السبب الذي يجعلني عازفة عن الحوارات، عن الندوات، عن المؤتمرات، عن أي احتكاك محفلي، حتى الحوارات القليلة التي أجريها أضغط فيها على نفسي لعلها تكون لصالح الأعمال وانتشارها، ورغم هذا أبتهج جداً برسائل القراء الخاصة والحميمة.
هذا طبعا لا يفسر عزوفي حتى عن كثير من الاحتكاك بأقراني أهل الأدب، وهنا قضية أخرى فأنا أحب شعور أني طارئة ومنفصلة. هذا يدعم الكتابة، يزيد حساسيتي وتوتري الباعث على الكتابة.
روايتك «حجرة» من الروايات القصيرة، ومع هذا فإنها ليست بالسهولة المتخيلة في القراءة، لأنها تستبطن ما يدور في أعماق الشخصيات، وهي بذلك تنتمي إلى روايات «تيار الوعي». هل واجهتك صعوبات في كتابتها؟ وهل بذلت جهداً مثل ذلك الجهد الذي يُبذل في الأعمال الطويلة الممتلئة بالشخصيات والأحداث لإخراجها على هذه الصورة؟
شكلت كتابة هذه النوفيلا تحدياً لي على أكثر من مستوى: التحدي الأول أن أكتب رواية قصيرة بعدد شخصيات قليل، وهو أمر لم أفعله أبدا في رواياتي السابقة. هذا كان فعلاً مقصوداً تماماً. أما التحدي الثاني غير المقصود فقد جاء نتيجة محاولة كتابة مريم من الداخل.
هل تتذكر الأمير ميشكين أبله دوستويفيسكي؟ كان مريض صرعٍ، طيب القلب، لو كتبه دوستويفيسكي من الداخل لأنهى حكايته في خمس صفحات ولما سيطر على تفكيرنا. كان يجب أن نراه من مسافة لنتشكك مثل أبطال العمل ونعيد التفكير ورسم الحد ببن البلاهة والطيبة.
كان لا بد لي أن أكتب مريم من الداخل في مواضع كثيرة، لكنها لم تكن كتابة سهلة إذ كيف تكتب من داخل شخص منفصل عن محيطه والكل يعتقد أن به مساً في حين هو مصاب بعلة لا يعرفها. في مواضع كثيرة كنت أكتب وأبكي، لأن الالتباس في داخل مريم جاء صعباً ومؤذياً نفسياً.
روايات تيار الوعي تكون صعبة في تلقيها وفي قراءتها وفي نجاحها بالضرورة. ألم تشعري بالقلق وأنت تكتبين هذا النوع من الأعمال؟
القلق رفيق المبدع: حاميه وجلاده.. أشعر بالقلق مع كل نص أقدمه لأني بالعادة أطلب من المتلقي شراكة كاملة في العمل. لا أسهّل عليه الأمور إطلاقاً، وكنت دائماً محظوظة بقراء نوعيين يحبون هذه الثقة التي أمنحها وهذا الجهد الذي أطلبه.
أدرك طبعاً أني أحرم أعمالي من شرائح قراء أكبر لكن كل رسالة تصلني من قارئ اجتهد مع النص أجدني أهتف «ربح البيع».
مريم البطلة بحسب الرواية عاشت في قرية تشبه قرى ما قبل التاريخ هي قرية نجدية ولا نعرف بشكل محدد ما الزمن الذي تحياه وإن كان – من إشارات بسيطة لشكل المكان وبعض أجهزة الكهرباء المستخدمة – يبدو السبعينيات، فلماذا حددت الماضي زمناً للعمل؟
لديَّ قناعة بأنه كلما توجب أن يركب بطل «سفينة الحمقى» كان لزاماً على الكاتب أن يجعل مغامرته أكثر مشقة. حين بدأت كتابة حجرة أدركت أن مريم حالة عابرة للأزمان والأمكنة، ثم اخترت السبعينات في السعودية باعتبارها فترة مثالية للقبض على أساليب تعامل مجتمعية كانت على وشك التبدل والاختفاء: قمع وإخفاء المرضى، شعور العار تجاههم، شح العلاجات المتوفرة والخجل من طلبها، كان يجب أن تظهر مريم في بيت طيني في بلدة نائية ويتولى رعايتها من يعتبر الأقل قدرة على ذلك (ابنا شقيقتها الصغيران اللذان لا يزالان بحاجة لمن يرعاهما) كل هذا يكثف حالة الضعف البشري للجميع ويجعل خياراتهم أشق وأجمل.
جاء ابنا أخت مريم (شاب وفتاة) بعد وفاة أمها لرعايتها، إذ تعيش أزمة انفصال عن الواقع بشكل مَرضي، لدرجة الشك في أنها تخاوي الجان. هل عايشتِ حالة مرضية مثل حالة مريم قبل الكتابة عنها؟ أم أنك قرأت عنها ودرستيها؟ وكيف جاءتك الفكرة؟
لا طبعا لم أعايشها عن قرب، لو حصل ذلك ما استطعت كتابتها، وأنت تعرف أن الحكايات التي نشهدها ونسمعها كلما كانت الثغرات فيها أكبر كلما كانت فرصة الخلق والإبداع أكبر..
لديَّ حكايات مكتملة جداً رائعة جداً لم أستطع ولا أظن إني قادرة على كتابتها: لأنها مكتملة، أما الجنون أو المرض النفسي أو المس فصفات أسمعها تلصق بأناس في بلدتي الصغيرة ولا أعرف عنهم الكثير.
إن كنت أستطيع التنبؤ ببذرة مريم فسأرجعها ليوم بعيد في طفولتي. مشهد حصل قبل أكثر من ثلاثة عقود حين كنت ألعب في الشارع مع رفاق ومرت شابة ممشوقة بعباءة حريرية وعليها من القطع الذهبية ما لم أره على امرأة قبلها ولا بعدها. رأيتها تقطع الشارع حين همس أحدهم فجأة مؤكداً أنها مجنونة.
وقعت الإشارة عليَّ وقوع صاعقة، فلأول مرة يوصف شخص أمامي وبيني وبينه خطوات بالجنون وهي مفردة تبدو للطفلة مخيفة ولم يتحدد معناها بعد.
تأملت المرأة التي بدت لولا الذهب الكثير ككل نساء البلدة فلم أر الجنون، لم يصبغها بلون مختلف، ولم يكن لها شكل أو مشية جنونية، شككت في كلام الولد حتى أضاف إنها تضرب أمها، فسقطت عليَّ السماء مرة أخرى: بدا الجنون منطقياً فهو الوحيد الذي سيسمح للأولاد بضرب أمهاتهم.
قبل سنة تقريباً ربما بسبب حجر الكورونا وربما لأسباب لا أعرفها بدأت تلك المرأة تلح عليَّ لأكتبها، ولم أعرف ما أفعله بها فبدأت مشواراً شاقاً في قراءات مرهقة عن المرض النفسي والمس والجنون فقط لأعرف ما لا يجب أن أكتبه حين أرسم مريم على الورق.
معظم الأبطال لا نعرف أسماءهم، مثل ابني الأخت، اللذين تناديهما مريم بـ«عيال موضي» فلماذا؟ واختيار اسم مريم للبطلة هل هي محاولة لإسباغ صفة النورانية التي تتعلق بالعذراء مريم عليها أو ربطها بها بشكل ما؟
تجهيل المحيطين بمريم حدث عرضاً أثناء الكتابة حين أطل الولد وأخته في وجهها أول مرة ولم تثق بهما ولم تعرفهما وعرّفا نفسيهما لمريم بأنهما ابني أختها موضي.
في هذه اللحظة حين شكت مريم بكلامهما عرفت أني لن أعطيهما أسماء، كان هذا خيارها فأحببت أن أبقيه لها، ثم وجدته ينسحب على الآخرين فلا أسماء إلا للموتى أو لمريم المنفصلة عن المحيط.
بالنسبة لاسم مريم فربما كانت مريم العذراء (خطر هذا ببالي) كان اسمها في البداية بدرة (القمر في اكتماله) ولا أعرف أيهما أليق بها.
قدمت صورة لمجتمع قاس يدير ظهره للمختلفين ولا يمنحهم إمكانية الخلاص أو الحياة كما يرغبون. هل الرواية تمارس دورها بمحاكمة ذلك المجتمع؟
من السهل محاكمة المجتمع من الصعب جداً فهم دوافعه. كتبت «حجرة» لأختبر ردود فعل الناس تجاه أزمة مواجهة شخص مختلف منفصل عن مجتمعه، كنت أراقب لحظة بعد أخرى كيف يؤثر التعامل المجهد نفسياً على ابني موضي كيف يخشيان انتقاد الآخرين لهما كيف يخشيان التصاق رائحتها وطباعها بهما؟ وكيف تتلقى مريم محاولات تواصلهما؟
وصدقني كنت أندهش وكنت أتألم وأبكي عجزا مع البنت والولد، كنت أكثر تعاطفاً معهما.
بعد أن أنهيت الكتابة وصلني خبر وفاة ابن سيدة تعرفت عليها قبل فترة، سيدة أمريكية في مجتمع وثقافة مختلفة. اتصلت بها لأن الخبر صعقني فصورة الابن الشاب الصحيح جسدياً والمبتسم مع الخبر الذي وضعته في صفحتها في الفيسبوك لا تشرح شيئاً عن موته وتفاجأت وهي تبكي وتخبرني بأنه كان مصاباً بالشيزوفرينيا وبدأت تسرد معاناتها معه من طفولته وصعوبة رعايته والأسئلة الصعبة عن دورها في حياته ووفاته.
جاءت مكالمة صاحبتي لتريني مريم في مكان وزمان آخر وإمكانات أفضل ونهاية واحدة وألم واحد. نحن بالكتابة لا نحاكم الواقع وإنما نصنع واقعاً أشد تكثيفا ونأمل أن يضيء شيئاً نعيشه.
لماذا كان المكان ضيقاً في الرواية، فهو أقرب إلى «حجرة» مريم وبيتها الصغير الذي اقتطع منه ابن أختها حجرة صغيرة؟
لا أعرف، ربما تأثير الكورونا والحجر تسلل للنص. أذكر ملاحظة قارئ لروايتي الثانية «كائنات من طرب» حيث ترك الشخصيات الكثيرة والأحداث والحوارات الطويلة وسألني لماذا كل الأخبار السيئة في الرواية تأتي عبر الهاتف الجوال؟!
ضحكت وقلت له صادقة إن فترة كتابة الرواية كانت الفترة التي توليت فيها إدارة مدرسة وكانت فترة ضغط نفسي كبير عليَّ وكل الضغط كان يأتي عبر الموبايل. أمور كهذه تتسرب للنص دون قصد.
وما السبب في ظهور مريم أمام الجميع بمن فيهم ابني أختها بالبرقع؟ ولماذا كانت تأنف سائر الرجال؟
البرقع تلبسه لدينا النساء المتزوجات، بعض الآنسات سابقاً كن يرغبن في ارتدائه استعجالاً للنضج، لم يكن هذا شائعاً جداً ولم يكن مرفوضاً. في حالة مريم الموشكة على الزواج يبدو لي أن البرقع كان بالنسبة لها رغبة في الانتماء لعالم المتزوجات، ولا أظنها كانت تأنف الرجال فقد ظلت تنتظر الزوج وفي ذاكرتها كما يبدو ملامح من علاقة تراها طيبة مع والدها، أما ابن الأخت فيبدو أنها عرفت أنه هو من سيُضيِّق عليها أكثر فهابته.
كيف عالجت فنياً الانتقال بين الضمائر المختلفة فجأة وبدون تمهيد مثل الانتقال من ضمير المخاطب إلى ضمير الراوي الأنا بحيث لم يحدث نوع من الارتباك؟
كانت هذه مغامرة، هناك كتاب عالميون يكتبون بطرق كثيرة مربكة: بلا فواصل، بلا علامات ترقيم، بلا أسماء للشخصيات. كلها خيارات مقصودة تقدمها للقارئ وتأمل أن يكون راغباً ولائقاً لاستكشاف غابة السرد.
هل تستطيعين الكتابة كما ترغبين في أعمالك أم أن هناك فلنقل رقيباً داخلياً يضع سماء للأفكار مهما بدت أفكاراً متحررة أو مفتوحة؟
الرقيب الداخلي موجود دائماً، وجبان كما تعلم، يخشى أشباحاً كثيرة، لذا أحاول في كل عمل أن أعقد معه هدنة وننهي العمل مثخنيْن وغير راضييْن عن بعضنا.
الرقيب في حالة المرأة الكاتبة أكثر قسوة في محاذيره الاجتماعية لكن هذا الوعي بحد ذاته محفز.
متى بدأت الكتابة. ما أقدم حكاية تتذكرينها عن أمل الفاران الصغيرة التي فهمت وقتها أنها ستصبح كاتبة؟ ومن شجعك على الكتابة؟
لم أعرف نفسي يوماً خارج الكتابة. لو أردت أن أكتب سيرتي الآن فإنها وإن لم تُفتتح باللحظة التي بدأت فيها الكتابة فسأبدأ روايتها من اللحظات التي بدأت فيها أعيش واقعي مرتين في نفس اللحظة، حيث لا تهدأ دهشتي بالوجود حتى أسرد أحداثه في خاطري منتقية الصيغ اللغوية بعناية.
لا ينجو من هذه اللعبة الخطرة أي مشهد، حوار، لفتة، أو حتى إشارة. كل شيء سأعيد خلقه في اللحظة التالية لوقوعه في جمل مُعتنى باختيار فواصلها وعلامات تعجبها وقد أرويه لآخرين أو أخبئه في صدري.
بالنسبة لأهلي أظنهم عرفوا خطورة وجود امرأة كاتبة لذا لم يكن هناك تشجيع بمعنى التشجيع، كان هناك قلق دائم مما قد يتسرب للكتابة من صور عائلية.
هل ترين أنك مظلومة نقدياً، وهل أنت مهتمة بفكرة انتشار أعمالك عربياً؟
لا أرى حركة نقدية كبيرة وجادة لأحدد إن كانت تظلمني أو تنصفني، أما الانتشار فهو طبعاً فكرة لذيذة، جميل أن يأتي انفجارياً كضربة حظ أو مع تراكم النشر، مخيف وخاطئ جداً أن تتبع الوصفات الواضحة لنيله.
…………………….
*نقلاً عن “عمان”