سامح محجوب
ليس أصعب من أن تكتب عن إيهاب البشبيشي.. ذلكم الكائن الشعري الذي يمثل وجوده إدانة لمفاهيم مغلوطة اصطلح عليها آل الثقافة الاستعراضيون.. فقد ترك البشبيشي -الإنسان -للقصيدة والشاعر نزقه وفوضويته وجنونه وحيرته وأسئلته الكبرى وولعه بالمثال وشهوة المحال، بينما اكتفى الآخرون بادّعاء ذلك كله في ممارسة الحياة تاركين نصوصهم باردةً وفارغةً إلا من الضجيج والافتعال.
فالبشبيشي الشاعر الثمانيني إن صح أن اعتمد المجايلةَ معيارًا -فى التجربة الشعرية جماليا وأيدلوجيا-لم ينظر خلفه للبحث عن الفردوس المفقود في الشكل التقليدي للقصيدة العربية كبعض أبناء جيله من الذين آثروا السلامة محتمين بالمياه الدافئة في الذائقة الجمعية، فكان أن قدموا خطابًا جماليًا فيه رائحة السلف سرقةً واجترارًا لذاكرة أنهكها مبدعوها تجريبا في الشكل والمضمون.. كما أنه لم يذهب للفريق الآخر الذي أطلق جملةً من الشعارات الجوفاء والتف حولها كتشعير الواقع وإعادة الاعتبار للعادي والمعاش واليومي والقضاء على (السوبرمان ) لصالح أبطال جدد من المهمشيين والبسطاء، فكان أن قدموا نصًا مشوَّهًا يفتقر لحيوية النثر وكثافة الشعر… اعتصم البشبيشي بالقصيدة وحدها تاركًا لها اختيار لون شعرها ورائحة عطورها.. مؤمنًا بأنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يقفز الفنان قفزةً هائلةً إلا إذا عاد إلى الوراء مسافةً مناسبةً تمكِّنه من القفز نحو حداثةٍ حقيقيةٍ تحمل نصَّه لأزمنةٍ قادمةٍ يصبح فيها مقدسًا جماليًا لا مقدسًا تاريخيا خاصة وأن الشعر من الفنون التي تطوِّر نفسها ذاتيًا وليس العكس..
اعتصم البشبيشي بالقصيدة وحدها بطاقةَ هويةٍ وساحةَ نزالٍ وفعل تغيير في وسط ثقافي معطوب تحكمه المجانية والشللية فهو ليس صحفيا وليس موظفًا في وزارة الثقافة وليس لديه سوى سلطة القصيدة/ القصيدة التي حملها في جيب روحه منذ أكثر من ثلاثين عامًا هو عمره الشعري الذي بدأ في أواخر المرحلة الثانوية بمحاولاتٍ خجولةٍ شجّعه على تجويدها أساتذة اللغة العربية في مدرسته بينما اكتفى والده مفتش اللغة العربية بتقويمها لغويا، ليدخل بعدها كلية الهندسة جامعة القاهرة مسكونًا بعشق اللغة العربية تاركًا للهندسة بعض عقله ووقته بينما حاضرُ بكلِّه روحًا وعقلًا في كلية دار العلوم بنفس الجامعة.. الكلية التي قسَّم بينها وبين كلية الهندسة وقته وتكوينه الثقافي والإبداعي.. ليتخرج في أواخر ثمانينيات القرن المنصرم مهندسًا يعمل في الهندسة بروح الشاعر ويكتب القصيدة بعقل المهندس محتميا في ذلك كله بموهبة باذخةٍ ظلت تلاحقه في كل مكان يأخذه منها حتى أنه عاد وترك عمله في إحدى الدول الخليجية -رغم المغريات المادية الكبيرة-ليستقر في مصر حاملًا قصيدته في جيب روحه يقدمها ببساطة عبقرية في كل مكان -كبيرا كان أم صغيرا – بحب وودٍّ يليقان بفنان لا يهمه سوى أن يعزف على كمانه شجنه اليومي.
إنه الكائن الشعري إيهاب البشبيشي أحد البنَّائين العظماء في صرح القصيدة العربية، وأحد المجازات الكبيرة التي تمشى في الأرض هونا مبشرةً بالجمال طريقةَ حياة ومذهب كتابة، وهذا برهانُهُ؛
قيثارةٌ محلولةُ الشَعرِ
تجرى وعمري
خلفها يجري
لى دمعةٌ فى كل قافيةٍ
تتنازعان ملوحةَ البحر
فإذا تماهى الحزنُ واكتوتا
تتقاسمانِ عذوبةَ النهرِ