أمل سالم
عبر شاهد من كتاب: “اللا طمأنينة” لـ”فرناندو بيسوا” انطلق ديوان: “مكان مشبوه” للشاعر “محمد الكفراوي”، وقبل الدخول إلى حاشية الديوان، وجب أن نتوقف قليلًا عند فرناندو بيسوا؛ فالشاهد الذي بدأ به الديوان، وهو جملة: (أن أكتب.. خيرًا لي من أن أجازف وأعيش) لم تأت اعتباطًا، ودون علة، كما سنرى فيما بعد، ومن السذاجة أن نظن أنها في هامش الديوان، إنما في الواقع هي حالة تتلبس الديوان ككل، بل وتتجذر في حاشيته! و”فرناندوا بيسوا”: شاعر، وكاتب، وناقد، ومترجم، وفيلسوف برتغالي. ويُعد “بيسوا” (1935-1888) قائد حركة الحداثة في البرتغال، ملهم الشعراء، وهو واحد من أهم الشخصيات الأدبية في القرن العشرين.
والسؤال الذي يطرح نفسه قبل الدخول إلى عالم “بيسوا”: ما علاقته بالتنوير؟
عقب ترجمة ابن رشد- وتعليقاته حول أرسطو- قُدم الفكر النقدي العقلاني إلى أوروبا. وعليه، فقد اشتمل التنوير على مجموعة من الأفكار تروج لسيادة العقل والأدلة على الحواس بوصفها مصدرًا أساسيًا للمعرفة، وهذه الأفكار تدعو إلى الحرية، والتسامح، والإخاء، والحكومة الدستورية، وفصل الكنيسة عن الدولة. وفي فرنسا دعا فلاسفة التنوير إلى الحرية الفردية، والتسامح الديني، مقابل الملكية المطلقة، والعقائد الثابتة للكنيسة الكاثوليكية الرومانية. وعليه، فإن التنوير قد ركز على المنهج العلمي، وعلى الاختزالية، فضلًا عن التشكيك المتزايد بالعقائد الدينية، وهو ترجمة فعلية لموقف كانط، حينما وضع شعاره: “تجرأ على المعرفة”.
وإن كنا قد اعتبرنا أن التنوير ثورة، فإننا بقليل من التمعن ندرك أن “بيسوا” -على التقريب- ثورة مضادة؛ لقد كان “بيسوا” إنسانويًّا يرتكز في فلسفته على قيمة الإنسان وكفاءته، لكنه يرفض ما أقره التنوير فيما يخص نقد الكتب الدينية، وإزاحتها من قدسيتها، ووضعها تحت المساءلة. يقول “بيسوا” في المقطع الاستهلالي من كتابه: “اللا طمأنينة”: (لقد ولدت في عصر فقد فيه أغلب الشباب الإيمان لنفس السبب الذي امتلك به هذا الإيمان من هم أكبر منهم سنًا بدون معرفة لماذا حينئذ، ولأن النفس الإنسانية تتجه إلى النقد بدافع من إحساسها لا من تفكيرها اختار أغلبية الشباب الإنسانية كبديل لله، شخصيًّا أنتمي، مع ذلك، إلى من يوجدون دائمًا على هامش ما ينتمون إليه…؛ لذلك لم أتخل تمامًا عن الله مثلهم، ولم أقبل البتة بعقيدة الإنسانية)(1).
إذًا ما علاقة ذلك بديوان: “مكان مشبوه”؟
إن “بيسوا” الذي اشتهر بخلق البدائل، والبديل: هو شخص يبتكره “بيسوا”، يهبه تاريخ ميلاد، ربما أن تاريخ ميلاده سابق على تاريخ ميلاد “بيسوا” نفسه، ثم يخلق منه شاعرًا ذا أسلوب خاص، ووضعه في خضم الحياة، إلى أن يكتب تاريخ وفاته. فقد وصل عدد بدائل “فرناندو بيسوا” إلى نحو 80 شخصية، منها: 3 شخصيات رئيسية، لكل منهم تجربة مختلفة تماماً. وارتبط جميعهم باسم “بيسوا”، وعُرفت هذه البدائل بأعمالها المستقلة؛ وهي: “ألبرتو كاييرو”، وهو شاعر موضوعي ومحايد للطبيعة، و”ريكاردو رييس”، وهو الشاعر الكلاسيكي، و”ألبارو دي كامبوس”، وهو أكثر شخصيات “بيسوا” واقعية، وكان أكثرها وجودية، وأكثر قلقاً وضجرًا وجرأة، وبالتالي أكثر شبهًا بشخصية “بيسوا” الحقيقية، وتميز بظهوره في اللحظات التي كان “بيسوا” يشعر فيها برغبة ملحة للكتابة دون أي سبب، وجُمعت قصائده في ديوان بعنوان: (قصائد ألبارو دي كامبوس)، وأشهر قصائده: (تحية إلى والت ويتمان)، كلٌ ممن سبق هو أنًّا أخرى، ونديد للشاعر، وليس مجرد شخصية مختلقة.
والآن نقول: إذا كان كتاب “اللا طمأنينة” يمثل رؤية شاعر متعدد الشخصيات يخلخل رؤية العالم، فإن ديوان “مكان مشبوه” يمثل رؤية شاعر مفرط الأحاسيس يعيد بناء رؤيتنا للعالم، بل ويعيد ترتيب الأشياء حولنا وداخلنا، طبقًا لقوانين موجودة، لكنها مهملة قل استخدامها أو الاعتداد بها.
ويحتوي الديوان على 77 نصًا شعريًا معنونًا، وقد يتكون العنوان من مفردة واحدة، مثل: نصوص: “ضجر”، و”خيالات” …، وبعض النصوص تتكون عناوينها من مفردتين، مثل: “نهاية مناسبة”، و”أصدقائي الخونة” …، وما أكثر من مفردتين فهو قليل، وأطول عنوان لنص هو النص 33، بعنوان: “الوعول التي تصطف بالقرب من مجرى الروح”. ويمكن أن نرصد بعض المظاهر الوجودية في هذا العنوان، منها:
-القلق الميتافيزيقي:
أعني بالقلق هنا الوجود وتحقيقه، فالقلق ليس الحالة التي تعني باليأس، وعندما نرجع لمقولة هايدجر: “لا يعادل إحكام أي علم رصانة الميتافيزيقا”(2)، فإننا نجد حتمية الميتافيزيقا، والقلق الميتافيزيقي، في النظر إلى نصوص الديوان، ففي نص “مولع بالأذى”، يقول الشاعر: (رُوحي أيضًا لم تعُدْ طيّعة، انْخلَعتْ من جَسَدي، واستقرّتْ في جَسدٍ آخرَ، رُبّما لِفَأرٍ أوْ حِدّأَةٍ). هذا هو حضور القلق الميتافيزيقي الذي أعنيه، فالروح: وهي الجانب الخفي من طبيعة الإنسان، وليس الإنسان فقط، بل الكائنات الحية كلها-حيوانية ونباتية- تشترك في هذا الجانب الخفي، الذي يمكن ضمه في الإطار الميتافيزيقي بسهولة ويسر. الشاعر هنا لجأ إلى أحد الحلول الإنسانية التي عنيت بحل إشكالية القلق الميتافيزيقي هذه، وهي فكرة: “تقمص الروح أو التناسخ- Reincarnation”، وهي: رجوع الشخص البشري إلى الحياة في جسد إنسان آخر أو حيوان أو نبات، وهي فكرة فلسفية ودينية. ففي نص: “خيالات”، يقول الشاعر: (أَتصوَّرُ أنّنِي كنتُ فِي الأصلِ شبَحًا، ضَلَّ طرِيقَهُ فِي الفضَاءِ، ليَستَقرَّ فِي صورةٍ بَشريّةٍ، تَفْتَقِدُ رُوحَ المُغَامَرةِ)، بل تتعدى الذات الشاعرة الأفكار التقليدية عند البحث في موضوع الروح، وتختلق وضعًا جديدًا، يقول في نص “روح ملوثة”: (وَأَتَوَحَّدُ مَعَ جَسَدِ الفَرَاغِ، رُبَّمَا وَقتُهَا أَعْثُرُ عَلى رُوحٍ جَدِيدَةٍ، نَقِيَّةٍ وَصَافِيَةٍ)، فالتناسخ لم يعد كافيًا لتفسير علاقة الذات الشاعرة بالروح، فنجدها تنتقل إلى التوحد؛ والتوحد هو فعل ضروري في التصوف، الذي يعني تداخل صفات المحب مع صـفات المحبوب وذوبانهـا، فغاية الصوفي-في الانتقال من مقام إلى آخر- الوصول إلى مرحلة الفناء والتوحد؛ يرى ابن عربي أن التوحد هو الاتــصال بالجهــد الخــالق المتجلــي عــن الحيــاة، واتحــاد بــه، وإكمــال لفعــل الله، غير أن الشاعر هنا أشار في سطره الأول إلى التوحد مع جسد الفراغ! وهذا في حد ذاته شيء لا وجود فيزيائي له، فالجسد الفيزيقي هو مادة، والمادة يستلزم لها أبعاد في الفراغ، ويستحيل أن يكون للفراغ جسد، ولكن لكون الميتافيزيقا، كما سبق أن ذكرنا تعريفها عند هيدجر، ففي الميتافيزيقا يمكن أن يتجسد الفراغ، والأدهى أن الذات الشاعرة تستطيع التوحد معه. وإذ إن المحبة هي الفكرة الأساسية، والسلوك الأولي في التصوف، تـؤدي فـي نهاية المطاف إلى تحقق الفناء؛ ولأن هذا الأخير يعني تداخل صفات المحب مع صـفات المحبوب وذوبانهـا، فإننا نجد أن الروح جديدة التي تنشدها الذات الشاعرة هي الروح النقية الصافية، أي الروح المحبة.
فالدلالة الأركيولوجية -في هذا المقطع من نص خيالات- هي القلق الميتافيزيقي أيضًا، النص في باطنه يبحث ما قبل الوجود، حين يقول: “أتصور أنني كنت في الأصل شبحًا”، أو بالأحرى يبحث في العدم، العدم ذلك المحجوب عنا بفعل الوجود، لكنه في العدم يمكن تحقيق ما لا يستطيع الوجود تحقيقه، ففي نص بعنوان “روح ملوثة”، يقول: (شَعرَةٌ رَفِيعَةٌ تَفصِلُنِي عَن العَدَمِ، أَمشِي فِي الشَّارِعِ بِخِفَّةٍ، عَلّنِي أَطَيرُ)، والذات الشاعرة عبر نصوصها تنقل فكرة فقد الأمان الديني في حل معضلة الحياة، ومصطلحات معضلة الحياة ومعضلة الوجود هي مصطلحات تآمرية؛ تهدف إلى إخفاء فكرة القلق الميتافيزيقي، وعلى سبيل المثال: نجده في نص بعنوان: “الروح”، يقول: (لاَ تَنخَدعْ أَكثرَ مِن ذَلكَ، لَيسَ دَمًا ذَلكَ الّذيِ يَجرِي فِي عُرُوقِكَ، إِنَّها شُحناتٌ كَهرَبيّةٌ مُكثّفةٌ، تَحَوّلتْ إلى سَائلٍ أَحمرَ رَتِيبٍ، بِفِعلِ العَادَةِ، وَحِينَ تَفقدُ هَذهِ الشُّحنَاتِ، ستَعرِفُ وَقتَها فَقطْ، ما الذِي تَعنِيهِ كَلِمةُ الرُّوحِ، تلكَ الكَلمةُ التِي ظَللتَ طَوالَ حَياتِكَ تُطَارِدُها دَاخِلَ جَسَدِكَ، دونَ أنْ تَعرِفَ أَينَ تَسكنُ بِالضَّبْطِ).
فالروح -التي شكّك النص فيها- هي مفهوم ديني لمحاولة تفسير الحياة، ثم توقفها فجأة، غير أن إصرار الشاعر على تكريس فكرة فقد الأمان الديني يزداد عبر الديوان؛ إذ إننا سنجده يناقش البديهيات الدينية، ويعطي تأويلًا مغايرًا لها، يقول في نص “مولع بالأذى”: (الشياطينُ التي تتراقصُ في المرآةِ، أمامَ عينَيّ مباشرةً، طيّبةٌ لدرجةٍ مخجلةٍ)، فهذه الشياطين التي هي رمز ديني للشر يتحول هنا -حيث الميتافيزيقا/حيث العدم- إلى فعل خير في أبعد حد له.
-القلق الروحي:
يظهر فقد الدعم الأخلاقي -الداعم الرئيسي للقلق الروحي- من عنوان النص الأول: “مولع بالأذى”، فأذى الآخرين -في عرف الديانات والقيم- عمل لا أخلاقي، بينما أذى النفس/ الذات يصنف على كونه عملًا جنونيًا، إلا أنه رغم تشدق البشرية بهذه القوانين التي وضعتها ورسختها، فإنها تمارس الأذى على المستويين؛ الفردي: في العلاقات بين الأفراد في المجتمع الواحد، والجماعي: في العلاقات بين الجماعات البشرية بدءًا من القبيلة، منتهيًا بالدول! إلا أن الممارس لأصناف الأذى المختلفة غالبًا ما يشرع لذلك تحت مسميات عديدة يستحل بها ذلك، وقد رصد الشاعر ذلك في نصه “مولع بالأذى”، فقال: (لَمْ أَفقَأْ عَينَ أرمَلةٍ، لَمْ أَسْلُخْ جِلْدَ طِفلٍ، لَمْ أغرِسْ أَسنَانِي فِي لَحمِي، ولوْ بِضعَة سَنتِيمتراتٍ قَليلةٍ).
حتى إننا نجد أن الإصرار -على إيذاء النفس- مستمر عبر نصوص الديوان! غير أنه يصنف إيذاءً للنفس غير انتحاري؛ وهو القيام بإيذاء الجسد عمدًا، مثل: جرْحِ النفس، أو حرقها. وعادةً لا يُقصَد به محاولة الانتحار، ولكنْ يُعَد طريقةً مؤذية للتأقلم مع الألم العاطفي، والغضب الشديد، والشعور بالإحباط، ففي نص “دعوة للتخريب”، يقول: (طَوالُ هذِه السَّنواتِ، أُحَاولُ أنْ أُخرِّبَ جسدِي، نُدبةٌ هُنا…، غُرزةٌ هُناك، حُروقٌ وبُثورٌ مقصودةٌ، أمراضٌ لا نهايةَ لها، زرعتُها بعنايةٍ وقُمتُ بِرِعَايتِها).
والهدف من الإيذاء -هنا- إحساس الذات مؤقتًا بالهدوء، والتخلص من التوتر. وعادةً ما يتْبَعه عودة المشاعر المؤلمة، إلى جانب الشعور بالذنب، والخزي ومحاسبة النفس، يقول الشاعر في نفس النص السابق: (لمْ يكُن قَصدِي الإِيذاءُ، بِقدرِ ما كنتُ أُريدُ أنْ أُسرِّبَ لِهَذَا الجَسدِ، هذهِ الكُتلةِ الصماءِ الّتِي لا تَعنِي شيئًا، على الأقلِ بالنسبةِ لِي، إحساسًا بالإمَاتةِ).
القلق الروحي -الذي أقصده هنا- قد يصل بالذات الشاعرة إلى رفض الوجود، والبحث عن الماهية في العدم؛ لذا نجده يقول في نفس النص السابق: (كمْ هي نقيةٌ وخفيفةٌ فكرةُ الفناءِ، أمّا الوجودُ فثَقِيلٌ ثقيلٌ مثلُ دابةٍ مُزعِجةٍ، لا تَعِي شيئًا ولا تكُفُّ عن الحركةِ).
-وضع اللا كينونة الراهن:
عند فيلسوف الكينونة “مارتن هايدغر”، لا تكون الكينونة حرَّة وشفافة إلا بالانفصال التَّام عن انفعالاتها وأحاسيسها، وكذلك عن تصوراتها ومعتقداتها، فنجد أن الذات الشاعرة -هنا- تحاول أن تصل بنا إلى هذه الحالة من الانفصال التام، يقول في نص “بخفة”: (بِكاملِ إرادتِي، أُخدِّرُ نفسِي، بِكلِّ بَراعةٍ وإخلاصٍ، أتَناولُ ما يقعُ تحتَ يَدي، من نبَاتاتٍ سِحريّةٍ وعقَاقير)، وفي ذلك محاولة للتحرر والوصول إلى حالة الانفصال التي أشرنا إليها، والذات الشاعرة كررت ذلك في أكثر من موضع من الديوان؛ فنجده يقول في نص “خيالات”: (بِخَيالاتٍ عَرجَاءَ، أُغَذّي مَلَلِي).
يظهر وضع اللا كينونة هذا -وهو أحد تجليات القلقيْن الميتافيزيقي والروحي- في نصوص الديوان بكثرة، أول حالات هذا الظهور هو رفض الذات، فنجد الذات الشاعرة تعلن رفض كينونها، ذلك في رفض المكونات الأساسية لهذه الكينونة، يقول في نص “ضجر”: (تَعِبتُ من التّنفُسِ، تَعِبتُ من رؤيةِ وجهِي كلَّ يَومٍ، يتقمّصُ صُورةً جديدةً، لرُوحٍ مفقودةٍ فِي أعماقِي).
ونجد أن الشاعر له القدرة على استخلاص كل مكونات الإنسان -كلٌ على حدة- في نص واستخدامها بصورة تضع المتلقي في مقابلة المكونات الحياتية: (الروح/ الجسد/ التنفس) بالمكونات العدمية، ففي نص “ضجر”: (تَعِبتُ من التّنفُسِ، تَعِبتُ من رؤيةِ وجهِي كلَّ يَومٍ، يتقمّصُ صُورةً جديدةً، رُوحٍ مفقودةٍ في أعماقِي).
ثم ينتقل -بسهولة ويسر- من حالة الفردانية إلى الحديث عن الجمع، فهو يقول أننا جميعًا في هذا المشهد الذي سنطلق عليه –اعتباريًّا- المشهد السوداوي، لكنه في الحقيقة هو المشهد الحياتي المتمم للحياة، فمقابل الفرح يوجد الضجر، ومقابل الوقت الذي يمر سريعًا -في حياتنا- يوجد الوقت المتباطئ الرتيب، ففي النص نفسه يقول: (في وقتِ المُغامَرةِ، كانتْ الحياةُ أشبهَ بِبالونةٍ ضخمةٍ ملونة، تتوعَّدُ كُلَّ لحظةٍ بانفجارٍ مفاجئٍ، بنُتفٍ ملونةٍ تغطِّي سطحَ الأرضِ، نسْتمتعُ بها، ثمّ نبدأُ من جديدٍ، فِي بناءِ حياةٍ أُخرى، مِلؤْها الضَّجرُ).
-استنطاق الوجود البديل:
إن أولى الأشياء التي يمكن للشعر طيّها في النص هو إجبار الوجود على الدفع بجماليات جديدة مستحدثة، وهي بالطبع متوافرة على المستوى الوجودي، عزيزة في النصوص، إلا في الخلّاقة منها؛ ذلك الذي يتطلب تعبيد العناصر النصية، والمفاهيمية، والمعرفية؛ من أجل استنطاق الوجود عبر النص، فنجد أن الشاعر في نص “رحيل”، يقول: (الَّذِين غَادَرونَا إلي الأَبَدِ، تَركُوا لنَا ذِكرَيَاتٍ رَطِبَةً، نَروِيها كُلَّ فَترَةٍ بِالدُّمُوعِ، لِتَظَلَّ حَيّةً، تَركُوا لَنَا أَروَاحًا نَيِّئةً، نَتَذكَّرُهُم بِهَا، الرَّاحِلُونَ الأَعِزَّاءُ … نَسُوا أَنْ يُعلِّمُونَا، كَيفَ نَزرَعُ نَحنُ أَيضًا ذِكرَيَاتِنا الرَّطِبَةَ، لِيَتَغَذَى عَلَيهَا، الذِينَ سَنُغَادِرُهُمْ … إلى الأَبدِ).
هنا يمكن القول أن الديوان لم يتماس -أو يتناص- مع رؤية “فرناندو بيسوا”، بقدر محاولة الولوج إلى عالم شعري عبر أسناد جمالية، عقلية، وروحية، ومعرفية، شديدة الخصوصية والبكارة، فهذا هو قلق المبدع الحقيقي، خاصة في أزمنة التحولات الكبرى، ولا ننسى أن “بيسوا” أشار إلى ذلك، فقال: (عندما جاء الجيل الذي أنتمي إليه إلى الوجود لم يجد أي سند عقلي أو روحي).(3)
…………………………..
1-كتاب اللا طمأنينة، فرناندوا بيسوا، ترجمة: المهدي أخريف، ط 2، المركز القومي للترجمة، 2008، ص 1.
2-مارتن هيدغر، ما الميتافيزيقا؟ ترجمة: أمال أبي سليمان، مركز الإنماء القومي، لبنان، مجلة العرب والفكر العالمي، العدد الرابع، 1988، ص 54.
3-كتاب اللا طمأنينة، فرناندوا بيسوا، ترجمة: المهدي أخريف، ط 2، المركز القومي للترجمة، 2008، ص 19.