القطار الذي غادر..

BOLAS ADAM
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

بولص آدم

القطار يغادر المدينة بهدوء يشبه الاعتذار.
الأنوار على الأرصفة تتضاءل شيئًا فشيئًا، كأنها تلوّح له لا حبًا، بل تخلّصًا. جلس قرب النافذة، لم يفتح كتابًا، لم ينظر إلى هاتفه. اكتفى بتأمل الزجاج الذي لم يعكس وجهه، بل وجه المدينة، وهي تتراجع، قطعة، قطعة، بلا أسف.
دخل المهرّج فجأة. بذلته باهتة، مكياجه نصف مطموس، والأنف الأحمر في جيبه. جلس في المقعد المقابل دون استئذان، ثم قال، كأنما يواصل حديثًا بدأ منذ زمن:
– غادرتُ بلا تصفيق… وأنت؟
أجابه الكاتب بعد لحظة:
– غادرتُ دون أن يلاحظ أحد أني كنت.
ضحك المهرّج، بصوت بدا غريبًا في عتمة العربة:
– نحن إذن أبناء المدينة التي تخاف الضوء.
التفت الكاتب إليه. عينا المهرّج كانتا صافيتين بشكل مرعب، كأن كل الضحك كان خدعة لتخبئه الخيبة.
– كلما كتبتُ شيئًا حقيقيًا، قالوا: هذا خارج السرب. كأنهم لا يريدون صوتًا، بل صدى.
ردّ المهرّج وهو يخرج وردة ذابلة من قبعته:
– وأنا كلما ضحكتُ من القلب، قالوا: مهرّج مريب. ظنّوا أن الضحك يجب أن يكون بلا معنى.
مرّ القطار بمصنع مطفأ. المصابيح معلّقة كأجساد دون أرواح. ساد صمت، قطعه الكاتب:
– تعرف؟ لم يؤذني التجاهل بقدر ما آذاني من تجاهلني وهو يعرفني جيدًا.
– آه، أقسى أنواع الخذلان هو الذي يأتي من الذين ظننتهم يعرفونك بالعمق. أصدقاؤك، جمهورك، زملاؤك… حراس المشهد كما يسمّون أنفسهم. حراس ماذا؟ العتمة؟
نظر الكاتب عبر النافذة مجددًا. رأى انعكاسًا لصفحة كتبها قبل عامين. كتبها بدمه، وقرأها الغرباء، لكن مدينته مرّت بها كمن يتفادى جثة في الشارع.
قال:
– كتبوا لي مرة أنني أهدد “الذوق العام”. تخيّل، قصيدة تهدّد الذوق! كأن الشعر جريمة صوتية.
أخرج المهرّج مرآة صغيرة، نظر فيها إلى وجهه نصف المطلي، ثم ابتسم لنفسه بسخرية:
– وأنا، حين مزقت البكاء على خشبة المسرح، طُردت. قالوا: هذا ليس فنًا، هذا تشويش. وأنا كنت فقط أضحك لأنني لا أستطيع أن أصرخ.
القطار يدخل نفقًا الآن. الظلام يبتلع كل شيء. لا فرق بين داخل العربة وخارجها. همس الكاتب:
– المدينة التي لا تحتفي بمن يكتبها… تموت.
ردّ المهرّج:
– بل تقتل نفسها كل مرة تقتل فيها شاعرًا، أو رسامًا، أو مهرّجًا… ثم تنصب لهم تماثيل بعد الموت، وتبكي بلا دموع.

خرج القطار من النفق. ضوء شاحب من فجرٍ بعيد بدأ يتسرّب عبر النافذة. المدينة خلفهم الآن. صامتة، باردة، كأنها قالت كلمتها الأخيرة منذ قرون.
تنهّد الكاتب:
– ما يؤلم ليس غياب الجوائز. ما يؤلم هو غياب الإصغاء.
قال المهرّج وهو يعيد أنفه الأحمر إلى وجهه كمن يستعد للعرض الأخير:
– وما يؤلم أكثر، أن يكون أقسى جمهورك… هو من كان يجب أن يصفّق لك أولًا.
سأل الكاتب:
– إلى أين تذهب؟
قال المهرّج:
– لا أعلم. إلى حيث لا تُطفأ المصابيح حين نضيء. وأنت؟
ردّ الكاتب:
– إلى حيث يمكن للقصيدة أن تكون شرفتي، لا زنزانتي.
عاد الصمت بينهما. القطار ماضٍ في طريقه، كأن لا شيء ينتظره سوى المجهول. المدينة أصبحت سرابًا في الخلف. الليل يتقلص، والضوء لم يعد يخجل. وفي لحظة نادرة، تبادل الاثنان نظرة لم يكن فيها أي مرارة، بل شيء من الصفاء، كأنهما يعرفان أن النجاة الوحيدة تكمن في أن تظل تكتب، أو تضحك، حتى لو أطفأ العالم كله أنواره. لأن الضوء الحقيقي، لا يأتي من الخارج. بل من داخل الذين رفضوا أن يتشابهوا.

مقالات من نفس القسم

ahmed ragab shaltout
تراب الحكايات
موقع الكتابة

وتمرق