القصيدةُ تغرِّدُ خارجَ سربها

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 42
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
نمر سعدي 
لا تعريف للشِعر، لا إطار لنهرٍ ولا قفص لعاصفة، القصيدةُ هي لسعة الجمال والشِعر هو اللهفة الأولى.. هو الشعلةُ الزرقاء الباقية.. وإرثُ الصحراء الجميل، شغفُ الضوء والبدايات، هو الشهد الفرعوني الذي طوى الدهور ولم يتبدَّل طعمه، وطائر فينيق لا تسجنهُ قضبان أمطار بودليريَّة ولا ذهبيَّة ولا أشكال فضيَّة ولا تؤطِّره نظريَّات جامدة، فعلام كلما هدأ الجدل العقيمُ قليلا حول الأشكال والقوالب الشعريَّة ما يلبث أن يُثار من جديد؟ أتخيَّلُ نفسي في حلبة تتصارع فيها ديكة القصيدة العموديَّة مع ديكة قصيدة التفعيلة، والفريقان من كلِّ جانب لا ينفكَّان يؤلِّبان ويستفزان. ألم يكتب بعض شعرائنا الشباب المبدعين القصيدة العموديَّة بروح عصريَّة جميلة نضرة وبرؤى وثَّابة جنباً إلى جنبِ قصيدة التفعيلة؟ الشِعر طائرٌ ذهبيٌّ غريب وحرٌّ يرفرف خارج حدود جدال الأوزان والبحور والأشكال والخلافات الشعريَّة، طائرٌ يحلِّق ويغرِّدُ خارج سربه، ويستعصي على الحلم يستعصي على التوصيف والتأطير والتراكيب والأساليب والأنماط والرتابة وضجر النهارات؟ القصيدة الحقيقيَّة النابضة لا تقيِّدها الأشكال، فهل يتغير الماء إن صببته بكأس مختلفة؟ ثم أنني كنت أقول في فترة ما أن زمن القصيدة العموديَّة قد انتهى وأنها بمفهوم معيَّن أو تفسير آخر حنين نوستالجي شفَّاف لذائقة الماضي، وتراجعت فيما بعد لأنني فهمت أن روح الشعر الخالدة بمفهوم أشمل وأكمل وأجمل متجددة في الأشياء. ولأنَّ ثمةَ من أحدث انقلاباً وثورة عارمة من شعرائنا الكبار الحقيقيِّين في نمط كتابة القصيدة العموديَّة وطوَّر الشعر العمودي بصورة مذهلة وكتبه بحسٍّ وثَّاب وإبداعٍ فارق وحلَّق به بعيدا بغضِّ النظر عن القوالب الحجريَّة.. ألم يعترف شاعرنا المبدع محمود درويش ذات يوم بموهبة أمير الشعراء أحمد شوقي مشيراً إلى أنه أصفى وأهمُّ وأعمق أصوات القصيدة العربيَّة النيوكلاسيكيَّة والشعر العربي على مرِّ العصور، وبرأيي ينطبق قول الشاعر محمود درويش على الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري والشاعرين السوريَّين بدوي الجبل ونزار قباني والشاعر اليمني عبد الله البردوني. وعبر رؤية شخصيَّة ومن خلال إطلَّاعي على تجارب شعريَّة حقيقيَّة فذَّة وجميلة كتبت التفعيلة والشِعر الحر والقصيدة العموديَّة بحساسيَّة عالية، وبفكر جديد، وبرهافة شعريَّة أصيلة وحس مختلف لاحظت أن الشِعر العمودي المختلف والمبتكر والمذهل يتمِّم ويكمِّل جمال وروعة شِعر التفعيلة ولا يلغيه أو يطمسه. ألم يفتتح الشاعر العراقي بدر شاكر السيَّاب وهو من كبار المجدِّدين في الشعر العربي الحديث وأحد أهم شعراء العمود والتفعيلة العرب والمتأثر بأبي تمَّام والمتنبي وأحمد شوقي وعلي محمود طه وإلياس أبي شبكة والجواهري بعض قصائدة التفعيليَّة بأبيات عمودية رائعة كبوَّابة عاليَّة أو استهلال بديع، أبيات عذبة معذَّبة تأخذنا مناخاتها إلى باحة رحبة من الانسياحات الانفعاليَّة والتفعيليَّة وإلى سماء ملوَّنة وفسيحة من الدلالات والانزياحات المكثَّفة؟ وهذا ما نجده لدى الشاعر العراقي المبدع بدر شاكر السيَّاب في قصيدته العامرة “ليلى”:
“قرِّب بعينيكَ منِّي دونَ إغضاءِ
و خلِّني أتملَّى طيفَ أهوائي
أبصرتها كادتِ الدنيا تفجِّر في
عينيكَ دنيا شموسٍ ذاتِ آلاءِ
أبصرت ليلى فلبنان الشموخِ على
عينيكَ يضحكُ أزهاراً لأضواءِ”
وبعد مقدِّمة شعريَّة عموديَّة رقيقة ومعبِّرة على البحر البسيط يقفز بكلِّ خفَّة ورشاقةٍ وعذوبةٍ لبحر الكامل الذي يشبه هديره هدير الشوق في هذهِ السطور:
“ليلى هوايَ منايَ شِعري
روحي الأعزَُ عليَّ من روحي و آمالي و عمري
حملت ضفيرتها هوايَ كأنها أمواجُ نهرِ
حملته نحو مدى السماء
نحو المجرَّة و النجومِ و نحو جيكور الجميلة
فأنا فتى أتصيَّدُ الأحلام يا لكِ من فراشاتٍ خضيلة
أتصيَّد الأشعارَ فيها و القوافي والغناء”
ولا حاجةَ لي بذكر أسماء جديدة من الجيل الشعري الراهن واصلت تجديدها المبتكر الحقيقي ومنهم شعراء جيل التسعينيَّات ومطالع الألفيَّة الثالثة في العراق وسوريا ومصر والأردن واليمن ولبنان وتونس وسائر الأقطار العربيَّة.. ولك أن تتساءل هل تخلَّى عمالقة قصيدة التفعيلة في مرحلة ما من حياتهم عن العمودي؟ لا.. لم يتخلُّوا أبداً ومنهم نزار قباتي ومحمود درويش وسميح القاسم وبدر شاكر السيَّاب وعبد العزيز المقالح وشوقي بغدادي وسعدي يوسف وغيرهم.. بل أنهم استثمروها أجمل استثمار واستمرُّورا بكتابتها حتى الرمق الأخير، ثم إن صدقت مقولة “انتهاء زمن القصيدة العموديَّة” فسيأتي مستقبلاً من ينادي بشرعيَّة قصيدة النثر أو قصيدة الومضة أو شعر الهايكو مثلا، وإلغاء كل الأشكال الشعرية الأخرى.. أيها الشاعر العربي في هذا الزمن العربيِّ الجريح: أكتب تفعيلة أو نثرا أو قصائد هايكو ولكن لا تتَّهم القصيدة العموديَّة.. وكما قال الشاعر الفذ محمود درويش “لا نصيحةَ في الحبِّ لكنها التجربة.. لا نصيحةَ في الشِعر لكنها الموهبة”.. أنا مع القصيدة الحقيقيَّة الحارقة اللاذعة المكتسحة الفارهة الفارقة الجامحة المتجدِّدة المغايرة، التي تغرِّدُ خارج سربها.. وضد تأطير الشعر.

مقالات من نفس القسم