“القاتل” لديفيد فينشر… أسلوبية بارعة يخذلها النص

فيلم القاتل
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

مصطفى ذكري

يقول المخرج الأميركي ديفيد فينشر، بفخر في مقابلة، عن أحدث أفلامه “القاتل”، من إنتاجه، وتوزيع “نتفليكس”: “لن أكون أبدا مخرجا ناضجا، سأحمل معي دائما الطفل البالغ من العمر 12 عاما أينما ذهبت”. يبلغ ديفيد فينشر 61 عاما من العمر. وكلمات هذه تنبعث منها رائحة الغرور، وكأنه يقول على سبيل المثال “لن أكون يوما في نضج ستانلي كيوبريك، أستطيع ذلك، لكنني لا أريد”. ومع هذا يظلّ فينشر من أكثر المخرجين إثارة في هوليوود، وأفلامه مثل “سفن”، و”نادي القتال”، و”زودياك”، و”الفتاة ذات وشم التنين”، علامات سينمائية في العنف الدموي.

لا يبتعد فيلم فينشر الأخير عن هوسه بالجريمة. البطل قاتل مأجور، بارد مثل الثلج، يؤدّي دوره الممثل مايكل فاسبندر، وهو لا يحمل اسما بعينه، ويتحرك بأسماء مزيفة، متعدّدة، يتنقل بها بين مطارات العالَم. باريس، جمهورية الدومينيكان، ولايات أميركية. يردّد مايكل بصوت هادئ طوال الفيلم، مونولوغا رتيبا، يحثّ به نفسه على عدم الارتجال، والالتزام بالخطة، وعدم الثقة بأحد، والامتناع عن التعاطف، لأن التعاطف ضعف. المونولوغ الداخلي ليس من مفردات السينما المفضلة، لاسيما إذا كانت سينما حركة، فالمونولوغ الساكن، والمكرر، يعني أن السيناريو فارغ تقريبا من الحوار، وهذا يضع عبء تمرير الدراما على أداء مايكل فاسبندر، الذي ينجح إلى حد كبير، والذي تعكسه أسلوبية فينشر القوية في التحضيرات والاستعدادات الصامتة التي تسبق مهمة البطل الوحيدة، وهي القتل مقابل المال.

ترويض الملل
تحفل السينما الأميركية بأبطال عصابيين منعزلين، يحضرون، ويستعدون، بصمت مخيف، لجرائم قتل، بعيدا عن هدف الجريمة، المال، أو تحقيق فكرة، المهم لهوليوود دائما، تقنية التحضير والاستعداد، وجرعات العنف السخية، مثلا بطل مارتن سكورسيزي في فيلم “تاكسي درايفر”، ترافيس بيكل، الذي أدّى دوره الممثل روبرت دي نيرو، يستعد، ويُحضّر في غرفته، المجرى الحديدي للمسدس على مرفق ذراعه، لينزلق السلاح عليه مع حركة يده من داخل كمّ السترة.

أمّا بطل فينشر القاتل المأجور مايكل فاسبندر، فهو يملك إمكانيات هائلة لتنفيذ مهمته، استعدادات جسدية عبر اليوغا، شحذ الوقت بمساحات مراقبة شرفات الفندق ونوافذه، الشبيهة بمراقبة جيمس ستيوارت الهيتشكوكية في فيلم “النافذة الخلفية”، ترويض الملل بالتأمل في فسلفة القتل، الساعة الذكية لقياس نبضه، المكان المثالي المقابل للفندق، لقنص الهدف، توفره خدمات الشركة العقارية الأميركية WeWork، وي وورك. فعلى الرغم من ذئبية فاسبندر وانعزاله البري، إلا أنه مستهلك مطيع لعلامات تجارية كبرى، وي وورك، أمازون، ستاربكس، ماكدونالدز. ربما فكّر فينشر أن الانصياع السلس للعلامات التجارية العالمية، يجعل بطله مثل شبح مغترب، لا يلاحظه أحد، والاغتراب صنو الرأسمالية، وربما أيضا ظهور العلامات التجارية، سهّل كثيرا على فينشر تكلفة إنتاج الفيلم. عصفوران بحجر واحد.

يستخدم فينشر أصوات تجميع بندقية القنص، بأقصى أسلوبية ممكنة، لتعزيز دقة القاتل، والدقة البصرية والصوتية في ما يتصل بالعنف، إحدى هذيانات السينما الأميركية. وفجأة يحدث خطأ في إصابة الهدف. يُلام كاتب السيناريو أندرو كيفين ووكر، على أننا كمشاهدين، لم نر دقة القاتل المحترف في إصابة هدفه، وإنجاز مهمته، مرة أولى في الفيلم، وهنا لا تستطيع الأسلوبية إنقاذ فينشر، بل يبدو أن كتابة الفيلم تعمل ضد أسلوبية فينشر، فعلى الأقل بعد مقدمة المشهد الافتتاحي الطويلة، وقصيدة المدح في الدقة، والصرامة، والتحضيرات، والاستعدادات، كان من الضروري رؤية القاتل المأجور، ينجز مهمته، ثم يأتي الخطأ مرة ثانية، أو ثالثة.

رهبة اسم تيلدا سوينتون، على الأرجح، هزتْ السيناريست أندرو كيفين ووكر، فكتب لها الحوار الأطول في الفيلم، أمام صمت مايكل فاسبندر الجليدي

انحدار
ينحدر فيلم “القاتل” إلى مستوى أقلّ بعد المشهد الافتتاحي، ويحدث تحول حاد في الدراما، لأن فوضى الخطأ في إصابة الهدف، يجب التخلص منها عبر التنظيف الكامل لآثار الخطأ. لكن بينما تكون إزالة الفوضى من وجهة نظر القاتل المأجور، هي التخلص من معداته، ومكان إقامته، والابتعاد سريعا عن مسرح الجريمة في باريس، والسفر إلى جمهورية الدومينيكان، تكون إزالة الفوضى من وجهة نظر العملاء، إزالة مايكل فاسبندر، وكل ما يتعلق به، من الوجود.

يعرف مايكل فاسبندر من الاعتداء الوحشي على صديقته في بيته الفاخر بجمهورية الدومينيكان، أن دائرة التنظيف، وإزالة آثار الخطأ، يجب أن تبدأ من قاعدة هرم العملاء إلى قمة الهرم، وهذا يعني الكثير من القتل كما يتوقع المُشَاهِد الذي أصبح لا يأخذ مونولوغ فاسبندر الداخلي (لا ترتجل، لا تتعاطف، التزم بالخطة، التعاطف ضعف) على محمل الجدّ.

هناك مشهد انتقام في منتصف هرم العملاء، يستحق التوقف عنده، لأن العميلة المعرضة للقتل، هي الممثلة تيلدا سوينتون، وهي ممثلة كبيرة، وهو المشهد الوحيد لها. إن رهبة اسم تيلدا سوينتون، على الأرجح، هزتْ السيناريست أندرو كيفين ووكر، فكتب لها الحوار الأطول في الفيلم، أمام صمت مايكل فاسبندر الجليدي. معركة أداء بين صمت القاتل، وحديث تيلدا عن خطأ صياد في اصطياد دب ثلاث مرات متتالية، فاعتقد الدب أن الصياد لم يأت في الأساس للصيد. سخرية تيلدا من خطأ مايكل فاسبندر في إصابة الهدف، لم تمنعه من إكمال ما جاء من أجله.
……
*عن “المجلة”

مقالات من نفس القسم