محمد الفخراني
الفَرَح البَشَري أجمل من طلوع الشمس ونزولها، وأجمل مِن كل ما تَطْلُع عليه وتنزل إليه، أو.. من الأفضل ألَّا أستعمل أفعل التفضيل، موجودات العالم وأفكاره ليست في مقارنة ولا تنافُسًا، هي تُكَمِّل وتُجَمِّل بعضها بعضًا.
أَذْكُر تلك اللحظات التي رأيت فيها الفَرَح البشري، والإنسان، هذا الكائن الهَشّ، سذاجته الظريفة، ورِقَّةَ حاله، هذا المعذور المسكين، الإنسان، من حقِّه أن يبحث عن فَرَحِه، يتلَهَّف إليه، يتشوَّق، ويتلقَّاه، الإنسان والفَرَح كلٌ منهما يحتاج الآخر.
الفَرَح البَشَري، وأقصد هنا بشكل خاص “الفَرَح الجماعي”، فَرَح يَضُمُّ مجموعة من البشر، هذه اللحظة البسيطة الكبيرة هي الأكثر إشراقًا وحماسًا، ببساطتها وعفويَّتِها وجمالها، بخِفَّتها ومزيجها البَشَري الرائع.
الإنسان؟ يستحق الحصول على تلك اللحظة، هذا الكائن الذي تختبره الحياة كل يوم، ولا أحد يُصاحِبها أكثر مِمّا يفعل هو، الإنسان هذا الكائن الذي تحبه الحياة، ويحبها.
هل رأيتَ مجموعة من البشر في فرحٍ جماعي؟ ودخلْتَ إلى عُمق هذه اللحظة، لم تكن وقتها مُشارِكًا بين المجموعة، لكنك من الخارج تَدْخل اللحظةَ بعينيك وقلبك، هل رأيتَ كل هذا اللا مرئي بينهم، وكأن أحدًا لم يَقْتُل غيره يومًا، أو حتى يُؤذِه، هي لحظة شفافة يمكنك أن تَعْبُر خلالها، وتَمُرّ من جسمها الهَشّ، وتَمُرُّ أيضًا عَبْرَ أجساد البشر كأنهم ضوء أو أثير.
هل رأيت وقتها هذه الكائنات البشرية الهَشَّة، المُضيئة؟ ما كل هذا الضوء، والخِفَّة، هذا الحضور الشفيف، كأنَّ لا شيء حدَثَ قبل هذا الفَرَح، ولا شيء سيحدث بعده، ولا يُهِمِّ ما حَدَثَ أو سيحدث، الوقت كله هنا، وكل شيء هنا، داخل لحظةَ الفَرَح البَشَري.
كَمْ عجيب، هذا الكائن الهَشّ هو نفسه مَنْ يُشْعِل كل هذه الحروب والحرائق، ويصنع كل هذا الدمار، هذا الكائن الذي من الممكن، حَرْفيًّا، أن يموت من الفَرَح.
يموت من الفَرَح؟ أتساءل عن شخص يموت من الفَرَح، لا بد أنه يصل إلى أقصى درجات الفَرَح، وأبدًا.. لن يتوقف قلبه بالطريقة نفسها التي يتوقف بها قلب إنسان بسبب الحزن أو غيره، هذا القلب الفَرِح لم يتوقف بالأساس، إنما دَخَلَ إلى مستويات أخرى من الفَرَح.
الإنسان، الكائن الوحيد القادر على الموت فَرَحًا، ولديه استعداد أن يموت كي يحصل على لحظةِ فَرَحٍ حقيقي.
هناك لحظات أفكر فيها، وأتساءل عَمّا يحدث للشخص عندما يصل إليها، ما الذي يشعر به شخص مات من الفَرَح؟ ما حجم الفَرَح الذي عاشه؟
الإنسان، الذي تحبه الحياة، يموت بسبب آلاف الأشياء، بعضها كبير وبعضها صغير، يموت بسبب حصاة، ويموت بسبب قنبلة، إذن لماذا لا يموت من الفَرَح، هل هذا كثير عليه؟ عند لحظةٍ ما سيُمسك إنسانٌ بروحِ الفَرَح، يَقْبِض على لحظة الفَرَح القصوى، ينظر بعينيه تمامًا في عينَيْ الفَرح.
الإنسان الذي اخترع لنفسه آلاف المَيْتات، يخترع أيضًا “الموت من الفَرَح”، لم لا؟ ليُقدِّمها هدية لنفسه، هذا الكائن المُدْهِش العجيب الذي يستحق عن جدارة: الفَرَح، والموت من الفَرَح، والحياة بالفَرَح.
مات من الفرح؟ أظن أن الكائنات تتساءل كيف يفعلها هذا اﻟ “إنسان”؟ ما هي الوصفة؟ كيف يمكنه أن يصل إلى هذه الدرجة؟
الفَرَح الجماعي المُشْتَرَك، تراه عند ظهور الماء من بئر يحفرها بَشَرٌ معًا، وهُم يَبْنون بيتًا جماعيًّا لعابري سبيل، تراه في حفلة مُفاجِئة داخل قطار فقير، في استقبال مَطَرٍ بعد جَدْب، مجموعة من التلاميذ في طريقهم إلى المدرسة، الصَّخَب الجميل للتلاميذ بين حصَّتَيْن دراسيتَيْن, تراه في غداء جماعي لأصدقاء، أو مجموعة من عابري سبيل أو مسافرين لا يعرفون بعضهم بعضًا، يتشاركون طعامهم ومائهم وحكاياتهم، آلاف.. ملايين من لحظات الفَرَح البَشَري تَحْدُث يوميًّا بلا انقطاع.
إنها اللحظة، التي نتجاوز فيها كل شيء، ولا يكون فيها إلا الفَرَح البَشَري الصافي، هذا الذي يُمكن لأعيننا أن تراه، وتنظر في عينيه، ويمكننا أن نَلْمسه بأيدينا، ويَلْمِسنا.
الفَرَح نفسه يشعر بالفخر لأن هناك مَنْ يعيشونه بهذا الحماس، هو نفسه سيشعر بالفَرَح، يكون في أفضل حالاته مع الإنسان، يعرف الفَرَحُ أنه سيظلُّ تائهًا ناقصًا حتى يعثر على الإنسان.
أُحب أن أرى هذه اللحظة أمام عينَيّ، ليس بالضرورة أن أُشارك فيها فِعْلِيًّا، سأحب أن أكون موجودًا في بعضٍ منها، أُحب أن أشارك البشر، لكنَّ تأمُّل هذه اللحظة من الخارج هو شيء في غاية الروعة، يلمس الروح، وأعيشه في كل مرة وكأنها المرة الأولى، كأني أكتشفه من جديد، وبالفِعْل أرى في كل مرة شيئًا جديدًا، وأذهب في إحساسي به إلى نقطة أبْعَد، وأنطلق إلى مساحة جديدة من النور والجمال والشفافية.
كثيرٌ من المَشاهِد تتكرَّر أمامنا لسنوات، ثم يَحْدُث عند لحظةٍ ما، أن نراها وكأننا نكتشفها، أو أنَّ ستارًا خفيفًا ينزاح عنها فنرى جوهرها.
أَذْكُر أني عند لحظةٍ ما، في مشهدٍ من مَشاهِد الفَرَح البَشَري، سمعْتُ شهقةَ روحي، ورأيت التماع عينَيَّ، وتوقفْتُ بمكاني وأنا أرى هذه اللحظة، الفَرَح البشري الجماعي، انكشَفَ لي عُمقها وجمالها، وكَمْ هي حقيقية وبسيطة وتلقائية ومُعَبِّرَة وصادقة، كَمْ هي داخل جوهر الإنسان، هذا الذي يستحقُّ كل الفَرَح.
الفَرَح لائقٌ بالبشر، وهم لائقون به، ويستحقونه، ولا شيء يُبْهِج العالمَ أكثر من لحظات الفَرَح البَشَري، أفكر أن هناك دومًا لحظة مثل هذه تَحْدُث في العالم دون توقُّف، ولو أن العالم خلا تمامًا عند لحظةٍ ما من أيّ فَرَحٍ جماعي فإنه سيتوقف في الحال عن النبض، يتوقف قلبه.
لو أن تليسكوبًا يكشف العالم، وتتحرك عدَسَتُه في كل زاوية، يمكننا عندها أن نرى لحظةَ فَرَحٍ جماعي في كل لحظة من اليوم، هي فقط لحظات مُوَزَّعة في العالم كله، لكنها في الوقت نفسه تملأ اليوم.. يوم العالَم.
صُراخ الفَرَح الجماعي، بكاء الفَرَح الجماعي، ضحكات الفَرَح الجماعي، الأحضان الإنسانيَّة الجماعيَّة، كلها مَشاهِد تخطف الأنفاس، وتُعيِدها، مشاهد تُفْرِح الروح والعين والقلب، وتُنَوِّرهم، وكأن العالم كله لأجل هذه اللحظة، داخل هذه اللحظة.
تَخَيَّل: فَرَح مُفاجِئ لآلاف الأشخاص معًا، كم تساوي هذه اللحظة؟ لا شيء يعادلها، وقتها لن نتذكَّر أيَّ ألم، أو ضغينة، أو كُرْه، لا شيء غير حقيقةَ هذه اللحظة وصفائها، إنها واحدة من لحظات تألُّق البشر وألَقِهم.
الإنسان يستحقُّ الفَرَح، لأجل ما هو عليه، ولأنه ما هو عليه.
كَمْ مرة نعيش مثل هذه اللحظات: فَرَح بَشَري جماعي غير مُخَطَّط له، أَذْكُر كل المرَّات التي عِشْتُها بالرؤية، رأيت فيها الفَرَح البَشَري، وصِرْتُ أعرف أين ومتى أتوقَّعه، لكنه أيضًا يُفاجِئني بظهوره من وقت لآخر، شكرًا له.. شكرًا لأنه موجود، ولأنه يُفاجِئني بظهوره.
من بين كل الأشياء التي يَقْدِر عليها الإنسان، تَبْقَى القُدْرَة على الفَرَح، لها مكانها وبَهْجَتِها، هذا الإنسان المُدْهِش لا يَنسى هذه الحاسَّة، الغريزة، التَشَوُّق، لا يَنْسى مهما يَمُرُّ به من ألَم، ولديه القدرة على الفَرَح بأبسط الأشياء وأقَلّها، هو دائمًا يجد طريقَه لفَرَحٍ ما، ولو فَقَدَ هذه القُدرة، ربما يفقد القدرة على كل شيء.
وسط كل شيء سيَعثُر الإنسان على فَرَحِه الخاص.
الفَرَح البَشَري في خِفَّته وشفافيته وجماله، ليس في خِفَّة فراشة ولا شفافية الضوء ولا جمال الموسيقا، إنها خِفَّة وشفافية وجمال بَشريّ فَرْحان.. إنه الفَرَح البشري، سأُحب دومًا أن أتفرَّج على هذه الخِفَّة والشفافية، وكل هذا الجمال.
ويا للعَجَب، هذا الإنسان الطامح في كل شيء، هو أيضًا يرضى بالقليل، سيَفْرَح بأشياء بسيطة جدًّا، ومثيرة حتى للتعجُّب، لا شيء مُدْهِشٌ أكثر من الإنسان وأسباب فَرَحِه، من حسن حَظِّه أن حتى أبسط الأشياء يمكنها أن تُفْرِحه.
الجمال في الفَرَح البَشَري الجماعي، يَحْدُث كل هذا الجمال أيضًا مع فَرَحٍ بَشَري خاص.. فَرَح إنسان واحد.
صُنَّاع الفَرَح البَشَري.
مثلما هناك صُنَّاع للحرب، والتعاسة، والألم البَشَري، هناك بَشَرٌ يصنعون الفَرَح، يصنعونه بكلمة أو نظرة أو موقف أو فكرة، وبأن يبذلوا من أرواحهم وكل ما فيهم بحُبّ، هم أناسٌ مُهمّتهم الأولى من بين مَهامٍ أخرى لهم في العالم: “صناعة الفَرَح البَشَري”، هل يبدو هذا صعبًا؟ هل يبدو سهلًا؟ هل هو صعبٌ سهل؟ أم أنه سَهْلٌ سهل؟
الأكيد أننا نستحقُّه، ويستحقنا: الفَرَح البَشَري.