خالد البقالي القاسمي
عملت القناة الأولى بالتلفزة المغربية يوم الجمعة 15 يناير 2021 على بث فيلم سينمائي جديد من إنتاج شركة “موندست للإنتاج”، سيناريو المبدع الروائي المتميز والسيناريست البشير الدامون، وإخراج المبدع نسيم عباسي، ويركز الفيلم على موضوع دقيق له أهمية بالغة في الحياة الاجتماعية لسكان المغرب بالأقاليم الشمالية هو التهريب المعيشي، حيث يعمد الناس ذكورا وإناثا إلى تهريب السلع والبضائع من مدينة سبتة المغربية التي يحتلها الإسبان ويقومون ببيعها في مدن الشمال وباقي المدن المغربية.
البطاقة التقنية والفنية للفيلم السينمائي:
ـ عنوان الفيلم: باب الشيطان.
ـ إنتاج: شركة موندست للإنتاج.
ـ الممثلون:
ـ ياسين أحجام: يلعب دور العربي.
ـ عالية: تلعب دور مريم.
ـ عبد القادر مطاع: يلعب دور سلام.
ـ عبد المجيد العمراني: يلعب دور حسن.
ـ مجيد الكرون: يلعب دور رشيد.
ـ عبد الله شيشة: يلعب دور الديواني ( الجمركي ).
ـ فامة فرح: تلعب دور فاطمة.
ـ الزهرة الدواح: تلعب دور عيشة.
ـ هاجر ميمون: تلعب دور نعيمة.
ـ مساعد المخرج: لطفي آيت جاوي.
ـ مدير الإنتاج: عز الدين الطاوسي.
ـ المكلف بالإنتاج: مصطفى ودغيري.
ـ سكريبت: فاطمة الكاوي.
ـ مونتاج: خيرة معزوزة.
ـ مهندس الصوت: محمد أميليد.
ـ مدير التصوير: عبد الله المقدم.
ـ سيناريو: البشير الدامون.
ـ إخراج: نسيم عباسي.
تدور أحداث الفيلم حسب الآتي:
يتشكل الفيلم من مجموعة من اللقطات الموزعة حسب المقام الذي يوجد عليه الممثلون، ولذلك فالفيلم ينطلق عند بدايته بصوت المؤذن الذي يرتفع من أعلى مئذنة أحد المساجد وهو يصدح بالأذان معلنا دخول وقت صلاة الصبح، ويعتبر هذا المدخل موحيا للغاية، ليس فقط من جانب تأكيد النزعة الدينية والإيمانية التي يمكن تصور أنها تسود أحداث الفيلم السينمائي، ولكن كذلك من جانب التأكيد على الزمن، زمن انبلاج الصبح وهو فاصل بين الظلمة والضياء، بين الليل والنهار، ولهذه الثنائية دلالة عميقة في الحياة الاجتماعية والعامة للناس في تصريف شؤون حياتهم، وتدبير أمور عيشهم.
أذان صلاة الصبح في انطلاقة الفيلم يرتبط بحركة الكاميرا التي تسافر عبر الزوايا والهوامش، حيث بعد تركيزها على أعلى المئذنة، نزلت مسرعة إلى الأسفل وغاصت في الأزقة والحواري معلنة أن التطلع إلى الأعلى وثيق الصلة بالرجوع إلى الأسفل، لأن بركات السماء والخطاب الديني المجسد في أذان الصبح لا يتحققان إلا بالعزيمة والإرادة فوق الأرض، بمعنى تحويل التواكل إلى توكل مبني على الجهد، والمشقة، وبذل الجهد.
لقد كانت حركة الكاميرا سريعة للغاية، وعملت على اختزال كثير من المعطيات، وكانت تتميز بنوع من العجلة، حيث انطلاقا من حركتها السريعة عبر أعلى المئذنة، ونزولا إلى منعرجات الحواري والدروب، عمدت إلى ولوج أحد البيوت عبر نافذة مفتوحة، وتوقفت لوقت قصير جدا مع حركة دقيقة موحية لدقات إحدى الساعات، والأمر بهذا الشكل ينبني على قلق نفسي حاد مرتبط بحركة الساعة دلالة على الإقدام على الشروع في إنجاز شأن يتطلب السرعة والحسم، وهو ما أكدته أول لقطة أنجزها المخرج للممثلين الذين يلعبون في هذا الفيلم، في اللقطة تبدو امرأة جالسة تطلب من أخرى الإسراع بتناول طعام الفطور قصد الانطلاق إلى “الديوانة ” طمعا في استثمار الوقت لتجنب الزحام الشديد بها مع الصباح الباكر، الحوار بين امرأتين مثقلتين بمرضي الضغط والسكري وهما تتناولان الطعام يدور في مجمله حول صعوبات الحياة، ومشقتها، وتكاسل الأزواج أو تملصهم من القيام بمهامهم المرتبطة بتوفير شروط العيش الكريم، والشكوى والتبرم من وضعية الحياة البئيسة التي تعيشها أغلب النساء، وخصوصا اللواتي يمتهن التهريب المعيشي بالحدود، عند ” الديوانة ” المغربية، أو داخل مدينة سبتة المحتلة من طرف الإسبان.
اللقطة الثانية يسوق فيها المخرج نعيمة وهي تهرول مسرعة بين الأزقة وهي تستغيث بالناس وبالخالة فاطمة طالبة المساعدة وهي تواجه مجرمين يحملان السلاح الأبيض ويهددانها بعد أن قاما بالاستيلاء على حقيبة يدها وعلى مالها، المرأة الشابة تشتغل بالأعراس موردا لرزقها، وتتعرض كل يوم للتهديد من طرف اللصوص والمجرمين الذين يتربصون بالناس الذين يقطنون في أزقة المدينة العتيقة، وغالبا ما تشكل هذه الفضاءات غطاء ملائما لغزوات الخارجين على القانون الذين يسعون بكل وحشية لسلب أموال الناس المعوزين، وأحيانا يصيبونهم بجروح مؤذية، وفي هذه اللقطة يتصدر المشهد أولاد حموش الذين يعرف الجميع بأنهم خرجوا من السجن حديثا، وبأنهم يهيمنون على أحياء المدينة العتيقة وينشرون بها الرعب بواسطة أعمال التهديد والسلب والنهب. وقد بذلت فاطمة وسلام والعربي مجهودا كبيرا من أجل دفع نعيمة لكي تهدأ وتستعيد أمنها وطمأنينتها خصوصا وأن ابنتها الصغيرة التي كانت ببيت فاطمة بدت منزعجة وخائفة على أمها بشدة. ورغم المخاطر اضطرت فاطمة وعيشة للخروج من أجل الالتحاق بالديوانة من أجل كسب لقمة العيش المرة.
في اللقطة الموالية يظهر العربي وهو يمارس عمله داخل ورشة للحدادة منهمكا في صقل بعض القطع الحديدية بينما يصدح الفنان ناظم الغزالي بشدو جميل، وبهذا يظهر أن العربي يتوفر على ذوق فني رفيع، وخصوصا عندما يمزج في استماعه في نفس الوقت بين صوت المنشار الكهربائي وبين الأنغام الموسيقية الشفيفة. يدخل عنده إلى الورشة صديقه حسن ابن عيشة وأخو مريم وهو حزين مهموم تراوده أحلام أو بالأحرى أوهام الهجرة إلى الغرب، فهو لم يعد يقنع بما تدره الحرف من عائد مالي يعتبره ضئيلا ولا يفي بمتطلبات العيش الكريم، بالإضافة إلى تبرمه من الإقامة في كنف والده، إذ يبدو أن البيت لم يعد يسعهما هما الإثنين. العربي واجه رغبة حسن بتقديم نصيحة بليغة مرتبطة بذكر مخاطر الهجرة بأنواعها وبالأخص الهجرة عبر البحر وحضور مخاطر الغرق والموت، ثم ذكر صديقه بالمتاعب التي يعيشها المهاجرون في ديار الهجرة استنادا إلى الظروف الصعبة المصاحبة للأعمال الحقيرة التي يمارسونها لدى الأجانب.
اللقطة التالية فاطمة تجلب صينية الشاي، تقدم كأسا لصديقتها عيشة بدون سكر لأنها مريضة بداء السكري، والعربي اصطحب معه حسن إلى البيت لكي يستمتع معه بشاي فاطمة، ثم عمد هو وأمه ومريم إلى استكمال حلقة محاولة إقناع حسن بالعدول عن فكرة الهجرة والإقبال على مزاولة نشاط أو عمل مفيد ومربح في بلده. كانت هذه لقطة سريعة للغاية، انتقل بعدها المخرج للسفر بالكاميرا عبر التجول بها في شوارع المدينة العصرية من خلال تتبع حركة الناس والعمارات والمباني، ثم تحط الكاميرا الرحال عند مقهى يجلس في واجهته الأمامية على طاولة بكرسيين العربي وأمامه مريم وهما يتحدثان عن حبه للقراءة والسينما، وتدعوه مريم إلى نسيان ألم عينيه والتفكير جديا في حياتهما الزوجية المقبلة معا، يعدها العربي بأن الأمور سوف تسير على يرام.
في لقطة أخرى يعود العربي وحسن إلى البيت بعد أن شاهدا فيلما سينمائيا في إحدى الدور، في البيت يتربص سلام بابنه حسن ويوبخه على ذهابه إلى السينما وعلى رائحة السجائر التي تنبعث من ثيابه، تصدت له زوجته عيشة ودخلا في صراع مرير تبادلا خلاله كلمات قاسية تفوها بها في حق بعضهما البعض، وتدخلت فاطمة أم العربي لكي تفض النزاع وتدافع عن حق حسن في الترفيه والذهاب إلى السينما بين الحين والآخر، بينما أصيبت عيشة أم حسن بنوبة مرضية بسبب الضغط والسكري.
في لقطة جديدة تظهر نعيمة الشابة الجميلة فوق السطح وهي تقوم بوضع الغسيل فوق الحبال وهي تغني أغنية شرقية، وظهر المتصابي الشيخ سلام زوج عيشة وأبو مريم وحسن من سطح بيتهم وهو يطل على نعيمة ويسمعها كلمات الغرام والهيام، ويبثها مشاعره الملتهبة نحوها، بينما قامت هي بصده بطريقة حازمة وحاسمة.
وإن شئنا الربط بين اللقطة السابقة واللاحقة فإننا نجد نعيمة تتوسط مريم وفاطمة وعيشة وهن يتحلقن في البيت حول مجلس طاولة الطعام وهي تغني أغنية شعبية. بعد متعة الغناء تصاب مريم وفاطمة في اللقطة الموالية بصدمة شديدة، حيث بعد رحلة شاقة، مرهقة، ومتعبة، ومحفوفة بالمخاطر الكثيرة قامتا بجلب بضاعة من مدينة سبتة السليبة عن طريق التهريب، ولما سلمتاها للتاجر البشير أبلغهما أن هذه البضاعة أصبحت موجودة بالبلاد بكثرة وتباع بثمن أقل من الثمن الذي تطلبانه لبضاعتهما، وطلب منهما أن تجلبا له في المرة القادمة سلعا أخرى أكثر رواجا وأقل ثمنا.
عبر لقطة أخرى طلب رشيد ابن الجيران من فاطمة أن تجلب له سلعة خاصة عبارة عن رزمة مغلقة من مدينة سبتة من دكان معين، وطلب منها أن تضع الرزمة وسط بضاعتها المهربة، ووعدها بأجرة سخية عندما تقوم بجلب الرزمة بأمان، أبدت فاطمة تخوفها من العملية وأخبرت مريم رفيقتها في رحلة التهريب المعيشي بالأمر، وبدا أن المرأتين معا توجستا من الموضوع.
في لقطة جديدة تظهر مريم ومعها فاطمة وهما تقومان ببيع السلع التي هربتاها من مدينة سبتة في إحدى شوارع المدينة بعد أن بدأ أصحاب الدكاكين يرفضون شراء السلع منهما بحجة قدمها وارتفاع ثمنها، ثم هناك مشكل آخر وإكراه جديد يضاف إلى الإكراهات الكثيرة التي يعيشها مهربو السلع المعيشية يطرح في الشارع العام حيث يفرض الفتوات إتاوة خاصة على كل من يحتل مكانا يتخذه لبيع سلعته، وعلى الجميع دفع مبلغ مالي لكي يسمح له ببيع سلعه. بعد عملية البيع المحفوفة بالإكراهات في الشارع تظهر فاطمة داخل البيت في لقطة أخرى وهي تطلب من ابنها العربي أن يتزوج بمريم باعتبارها فتاة مناسبة له، فوعد العربي أمه خيرا. ثم اكتملت الصورة بين العربي ومريم بإهدائه لها أشكالا حديدية بديعة يتقن العربي صنعها في ورشته عبارة عن حمائم وديعة، كانت الصورة معبرة عن رضى كل طرف بالآخر، رغم رفض سلام لزواج ابنته من العربي بسبب طمعه واستهتاره.
عمل المخرج على إدخالنا في جو التهريب المعيشي عبر تقديم لقطات متنوعة لباب سبتة، أو الديوانة، حيث الجميع في حالة هستيرية من الحركة، ونقل البضائع المتنوعة المهربة، والإسراع في الوصول إلى تحصيل نصيب يومي قل أو كثر وسط الضجيج التي يحدث بالمكان، تظهر مريم وفاطمة ضمن الحشود المزدحمة وكل واحدة منهما تجر عربة يدوية محملة بسلع وبضائع متنوعة مهربة من مدينة سبتة السليبة من أجل إعادة بيعها في المدينة قصد الحصول على فائض مالي يفيد في تسديد وتغطية متطلبات المعيشة والحياة. ركبت فاطمة ومريم بسلعهما في إحدى السيارات التي تشتغل في هذا النوع من التهريب، ولكن ولسوء الحظ وجد الجميع أن رجال الجمارك يتربصون بهم في الطريق، حيث قاموا بمصادرة السلع، فكان ذلك وبالا على مريم وفاطمة وباقي ممتهني التهريب المعيشي من البؤساء والمعذبين في الأرض. وفي مقابلة لهذه الصورة يقدم الفيلم صورة أخرى للحيتان الكبيرة، حيث يقوم مهربون كبار برؤوس أموال ضخمة بممارسة عملية تهريب السلع، ولا يصادر سلعهم أحد أبدا، ويظلون دائما في صدارة المشهد التجاري، مستحوذين، ومسيطرين، ولذك اتفق الجميع على تسميتها باب الشيطان، عوض تسميتها باب سبتة.
في لقطة أخرى أدخلنا المخرج في جو جديد، فقد بدأت مريم تذهب إلى باب سبتة لوحدها، وتخلت عن مرافقة فاطمة، وتبين بأن المسألة لا تتعلق بكون فاطمة تتأخر وتعيق حركة مريم، ولكن الأمر ينطوي على سر دفين، تحرص مريم على كتمانه حتى لا يصل إلى المحيطين بها، لقد تبين أن مريم انخرطت في نشاط مشبوه، يديره جارهم رشيد وعصابته، حيث أصبحت تقوم بتهريب المخدرات في صورة أقراص مهلوسة، تدسها في ثيابها الداخلية وتموه بها حتى تجتاز الجمارك، ومن ثمة تسلمها إلى رشيد، وتنال مقابلا ماديا مجزيا. ولكن حصل مشكل لم يكن في حسبان مريم، إذ بسبب عجلتها وغفلتها سقطت منها بعض الأقراص المخدرة في غرفتها، وبسبب صدفة فنية سوف يدخل أخوها حسن إلى غرفتها للبحث عن النقود وسيجد هذه الأقراص ويأخذها ويخرج مسرعا من الغرفة. ولم يقف الأمر عند هذا الحد فقط، فبسبب صدفة فنية أخرى سوف يضبط العربي مريم في أحد مقاهي المدينة وهي تسلم المخدرات لرشيد، وتتسلم منه أجرتها المالية، فصعق العربي وأصيب بإحباط وحيرة، وشرع في تقويم وإعادة النظر في علاقته بمريم وفي مشروع زواجه منها.
حركة معبرة للكاميرا، حيث قدمت لقطة للشمس وهي في حالة أفول مسرعة، لقد بدأت الأمور في الانحدار بسرعة كبيرة، ومتوالية، العربي هجر مريم، ومريم تعيش يأسا شديدا، حسن أوغل في تعاطي المخدرات، وسلام الأب ما زال يواصل تضييق الخناق على أفراد عائلته ويصطدم بعنف مع ابنه حسن، والذي أوصل العقدة إلى القمة هو إقدام حسن على سرقة الأقراص المخدرة من دولاب أخته مريم، وقام ببيعها لبعض المنحرفين، فأصبحت مريم مهددة في حياتها من طرف عصابة المخدرات التي اتهمتها بسرقة الأقراص. وبعد صراع دام تمكنت الشرطة من إلقاء القبض على مريم وأخيها حسن ورشيد، وقدمت الجميع أمام المحكمة التي حكمت على جميع المشاركين بعقوبة السجن.
قراءة لمجرى أحداث الفيلم:
يندرج عمل السيناريست البشير الدامون ضمن سوسيولوجا اليومي، وذلك بناء على أن السيناريو يعالج حياة الناس الذين يمتهنون التهريب المعيشي قصد إشباع حاجات الأسر الضرورية، وقد عمل البشير الدامون على الجمع في السيناريو بين خطابي حلم الهجرة، ومتاعب الديوانة والتهريب المعيشي، بمعنى أن القيمة الإنسانية في هذا المجال تصبح رهانا صعبا، وتندرج ضمن مجال سؤال المصير، ويبقى هذا العمل واحدا من الخيارات القليلة جدا التي يستطيع بواسطتها كثير من الناس ذكورا وإناثا كسب بعض الرزق للاستمرار في الحياة، ولذلك فإن مثل هؤلاء الناس هم الذين يعيشون الصراع اليومي ليس فقط من أجل كسب القوت، بل كذلك من أجل متابعة دورة الحياة العادية. تجربة البشير الدامون الروائية ساعدته كثيرا على ضبط السيناريو وتجويده، وقد كتبه المبدع بطريقة سلسة، مضبوطة، تكاد تكون هي بنفسها فيلما مستقلا، قائما بذاته.
موضوع الفيلم يكتسي راهنية أكيدة لارتباطه بهموم الإنسان وخصوصا كفاح الأنثى من أجل إثبات أنوثتها، ووجودها، وإنسانيتها ضمن عالم الذكور، حيث تعيش كثير من الإناث من مختلف الأعمار نفس المأساة، بمعنى أنها مأساة مزمنة، ولا تجد الأنثى مفرا من اللجوء إلى باب سبتة أو باب الشيطان من أجل ممارسة التهريب المعيشي للسلع والبضائع الأجنبية لكي تعيش هي وأفراد الأسرة الذين يحتاجون لجهدها، وطاقتها، وصحتها لكي يوفروا لقمة العيش الممزوجة بالدموع، والألم، والمشقة، والخوف، والقلق، والحسرة…
مخرج الفيلم نسيم عباسي بذل مجهودا محترما لكي ينتج فيلما يوثق لهذه الحركة التجارية غير القانونية بباب سبتة، وكان الفيلم الذي قام بإخراجه معبرا نوعا ما عن كثير من المعطيات التي لها ارتباط بهذا الموضوع الشائك، بمعنى أن الفيلم كانت له بصمات واضحة في التحسيس بأهمية وخطورة هذا الموضوع، وتأثيره على الناس، وعلى المسؤولين كذلك، فكان الفيلم شاهدا على هذه الإشارات، ويستحق المخرج نسيم عباسي كل التقدير على عمله الذي أنجزه بوسائل بسيطة، وضعيفة، مع العلم أن عملا مثل هذا كان في الحقيقة يحتاج إلى مجهود أكبر، وميزانية أضخم، وبيئة أكثر اتساعا، وضبطا، وتمثيلا لواقع التهريب المعيشي الذي يصعب نوعا ما اختزاله في فيلم واحد بوسائل وشروط جد محدودة.
ورغم أن عمل المخرج نسيم عباسي يستحق منا التصفيق والإعجاب فإن هذا الثناء لا يمنعنا من إبداء بعض الملاحظات التي ظلت عالقة بثنايا الفيلم، وهي في الأصل لن تنقص من قيمته على المستوى الفني، وعلى المستوى الإبداعي، مع العلم أن الموضوع في إطاره في مجال السيناريو يعتبر عملا جد متميز للمبدع البشير الدامون، وفيه جرأة، ورغبة صادقة في لفت الانتباه إلى هذه الفئة المعذبة من الناس.
لقد كانت حركة الكاميرا سريعة للغاية ولم تترك أحيانا الفرصة لاستيعاب اللقطات أو المشاهد، وكان الأحرى بالمخرج أن يتريث قليلا في ضبط اللقطات والمشاهد، ويترك الوقت السينمائي الكافي لاستدماج الصورة في الذهن، وتحليلها بهدوء، وتؤدة. وكان المخرج يفضل كثيرا اللقطات الثابتة عوض اللقطات المتحركة، وبهذا الاختيار كان يعمل على تقليص نشاط الممثلين، ونزع إمكانية إظهار قدراتهم، وتطويرها، وبالتالي يؤكد بذلك على جمود الممثلين، واستسلامهم لمصيرهم المأزوم، وعدم سعيهم لتغيير وتيرة حياتهم، والرقي بها نحو الأفضل، والأحسن.
ثم ندعو المخرج نسيم عباسي إلى إعادة النظر في عمله فيما يتعلق بالوحدة الجامعة بين محاور الفيلم السينمائي من حيث الانسجام، والتتابع، والارتباط المفروض تحققه بين السابق واللاحق، حيث يبدو لنا أن الفيلم كان يعاني تقطيعا واضحا بين اللقطات والمشاهد، ويظل أحيانا الرابط بينها مفقودا، والانسجام غير واضح، أو بعيد عن الذوبان ضمن الكل.
ولذلك شاهدنا الفيلم، وأعدنا مشاهدته عدة مرات، واتضح لنا أن المخرج قدم الفيلم عبر لقطات في شكل جرعات موزعة حسب الأحداث التي كانت أحيانا تائهة، ولا تلتقي بسلاسة ووضوح مع الفكرة العامة للفيلم.
وفي بعض الأحيان كان السيناريو بجرأته، وبعده الأدبي المتميز، وطاقته الإبداعية يتجاوز أحداث الفيلم بصيغته الفنية والجمالية، كما لو أن المخرج لم يستوعب جيدا قيمة السيناريو وأهميته، حيث كان من الأولى ضبط الصيغة العامة للفيلم عبر الموضوع الأساس، ثم توزيع اللقطات والمشاهد عن طريق جعلها تحقق امتدادها انطلاقا من تلك الصيغة، ثم تعود إليها مرة أخرى، أو تصب فيها من جديد حتى يتحقق انصهار الأجزاء في الكل، أو يتحقق تماهي الصور الفرعية مع الصورة الكلية.
ملاحظة أخرى تتعلق بالزمن السينمائي الذي بدا لنا مشتتا في الفيلم، ولا ينسجم أحيانا مع المكان، وينقصه العمق الكافي لكي يكون أكثر تعبيرا وتمثيلا، حيث يتشابه الزمن في مجرى لقطات ومشاهد الفيلم، ويتشابه في سياق الأحداث دون فرق بين صبح باكر، ووضح نهار، وعتمة مساء، الزمن يظل هو نفسه داخل الدار العتيقة جامدا في المكان حيث تعيش أسرة فاطمة وأسرة عيشة، فيطبق على الجميع بوتيرة واحدة ضاغطة، وخانقة.
وتظهر المشاهد واللقطات غير مشبعة، وغير كافية لنقل مشاعر وأحاسيس الممثلين، ويظهر أنها لم تكن تمنح للممثلين الفرصة الكافية لعرض، وتأكيد مواهبهم، وقدراتهم الفنية والتعبيرية.
أما بالنسبة للموسيقى التصويرية فإنها لم تكن مناسبة تماما، وكانت تقريبا متشابهة في جميع اللقطات، بينما كان من المفيد جدا لو كانت متنوعة حسب طبيعة اللقطات والمشاهد، ولم يكن مستساغا أن تظل الموسيقى الخاصة بأغاني المرحوم الفنان عبد الصادق شقارة مصاحبة لجميع مشاهد الفيلم، حيث إن إيقاعها ليس متناغما مع كثير من اللقطات، وهي بذلك كانت تبدو مقحمة إقحاما، وتسهم في سحب الجمالية من مشاهد الفيلم.
ونفس الشيء ينسحب على الحوار الذي لم يكن يستقيم أحيانا على لسان الممثلين، وتتحقق فيه المفارقة، مثلا فاطمة تقول لابنها العربي: ” سوف نذهب لخطبة مريم من أهلها “، وهذا خطأ، إذ كيف يعقل أن تقول له: ” سوف نذهب… ” في الوقت الذي كان عليها أن تقول له سوف: ” نطلبها من أهلها… “، لأن أهلها يقطنون معهم في نفس البيت، ويتعايشون فيه معا كل يوم. ثم عندما فاتحت فاطمة جارتها وصديقتها عيشة في شأن زواج العربي ومريم ترددت كثيرا قبل أن تخبرها، وبدا وكأنهما تتحدثان لأول مرة في الأمر، ومن مجرى الأحداث يظهر أنه من المستحيل أن تكون أول مرة تخوضان في هذا الموضوع، ولذلك فإن تردد فاطمة في طلب يد مريم لابنها العربي من عيشة لا مبرر له إطلاقا، ولم تعمل اللقطة إلا على إفساد اللحظة والمجرى الخاص للفيلم. ونجد في أحداث الفيلم ما يشبه هذا المشكل يتكرر مرات متعددة.
ومع كل هذا كانت للمخرج إشراقات متعددة في تقديم الفيلم، ويكفي أن نذكر لقطة معبرة، لها دلالة رمزية، موحية، بالغة حيث وجه الكاميرا إلى السماء فبدت ملبدة بالغيوم تنذر بأحداث غير مرضية، حيث مباشرة بعد هذه اللقطة ظهرت أمامنا الديوانة، أو باب سبتة، مسرح التهريب المعيشي، وكان المخرج بهذا الربط البصري مميزا، ومدركا فعلا لبعض العناصر التي سوف تسهم في صناعة الفرجة، والفنية، والجمالية.
وأخيرا نقول هنيئا للسيناريست المتميز البشير الدامون، وللمخرج المبدع نسيم عباسي على هذا العمل السينمائي الجديد الذي يضاف إلى منجزاتهما الفنية الجميلة، بحيث كان الفيلم فرصة كبيرة، ومناسبة هامة لتوثيق عمل يثير موضوعا هاما يشغل بال كثير من الناس، وقد تتبع الكثيرون هذا الفيلم السينمائي بإعجاب واهتمام، واستطاع العمل أن يحقق نجاحا طيبا جديرا بالمجهود المحترم الذي بذل في إعداده وإنجازه.