الفيسبوك.. فضاء أزرق لمواطني دولة باتساع الخيال

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

    اندهش جمال حمدان حين أخبره صديق، في زيارة استثنائية لبيت العالم المعتزل، بوجود اختراع اسمه «الفاكس»، الضيف نطق الاسم الصارم للجهاز: «الفاكسميلي» بشيء من التفخيم والاعتزاز، كأنه المخترع. زف إليه البشرى بقدرة الجهاز على نقل صور ونصوص إلى جهاز مماثل، «فاكسميلي» أيضا، على الطرف الآخر من الكرة الأرضية.

    «الفاكس» الذي وفر على الباحثين وقتا وجهدا لم يعمر طويلا، ربما يسخر جيل الفيسبوك من مزايا الفاكس، إذا أتيح لهؤلاء الفسابكة المحظوظين الوقت وخلو البال للاستماع إلى تلك المزايا، فلم يعد إيقاع الحياة ينتظر عقودا للتفكير في الانخراط في الدنيا الجديدة. كان بإمكان للعالم الإسلامي ألا يخسر قرونا سقطت من عمره، بفتوى مشايخ السلطان العثماني بتحريم مطبعة جوتنبرج. لو اتسعت صدورهم للاختراع لاختصروا قرونا من الاستبداد وتخلّف التعليم، وكل مظاهر «انحطاط المسلمين»، والمصطلح لأبي الحسن الندوي. لم يعد الزمن ينتظر فتوى للاستفادة بثمار العلم، ولا يتسع صدر الفسابكة، ضائقي الصدور، لجدل شهدته مصر حول جواز أو كراهة الوضوء من ماء الصنبور، وكان مفتي الحنفية جريئا فأجازها، ودخلت «الحنفية» المساجد.

    الذين طال بهم العهد في المعتقلات حرقوا مرحلة الفاكس، خرجوا إلى النور وقد أعرض بعضهم عن منجزات العصر الفيسبوكي وتجنبوه، وانخرط بعضهم وصاروا فسابكة أصلاء، متصالحين مع الحياة، ومع الأزرق الذي لم يعد لون السماء، بقدر ما يعني زرقة شاشة صفحة الفيسبوك. لم يبالوا بتعريب مصطلح «الفيسبوك» الذي سماه البعض «كتاب الوجوه»، كما سمي الفاكس قديما «الناسوخ» والكمبيوتر «الحاسوب». هذا يخص مارك زوكيربيرج، يسميه كما يحب أب أن يسمي ابنه، انتصر الفيسبوك.. وسيلة للتواصل ومصطلحا يتصدر قائمة الأعلى ترديدا. الآن وأنا أكتب هذه السطور وجدت لكلمة «فيسبوك» بالعربية رصيدا لدى جوجل يساوي 87.1 مليون مرة، مقابل 28.4 مليون لكلمة «دين»، و11.3 مليون لكلمة «الجهاد»، و31.8 مليون لاسم «مارك زوكيربيرج»، و846 مليونا لكلمة «سينما» التي احتفظت بنصها الأصلي، مستعصيا على الترجمة، عابرا للغات والأزمنة.

    لم يعد الفيسبوك عالما افتراضيا، ربما صار أكثر واقعية من عالم كان واقعيا. أحد عشر عاما من عمر العالم الأزرق دفعته إلى «موقع» الصدارة، ليس كموقع إلكتروني، وإنما كمكانة مستحقة في الخطاب العام، والاهتمام الجماهيري الذي لم يحظ بما يستحق من دراسات اجتماعية ونفسية، تكفي نقرة «لايك» من شخص تحبه في قارة بعيدة، استحسانا لجملة كتبتها، ليرقص قلبك وينتشي، لا تعني «اللايكات»، كإجراء أو مصطلح، أي شيء لغير الفسابكة، والبخل بها يصيب البعض بالأسى، كما تصيبهم بعض التعليقات بحرق الدم، فتتنوع المعارك، وتدور الاشتباكات فتشمل حذف غير المرغوبين، المغضوب عليهم، واستعادة الضالين، أو اللجوء إلى «البلوك» إقصاء معنويا للمتطفلين.

    في «الكتابة» نختفي وراء أقنعة أكثر صدقا من الواقع، أقنعة الإبداع، ولكن الفيسبوك لا يكذب، هو ملامحك، بصمة روحك، كتابك الذي ينطق عليك بالحق، ويؤرخ مواقفك بصرامة يستحيل معها التزوير. أنت في في هذا الفضاء الأزرق حاصل جمع آرائك وتعليقاتك وأصدقائك وأعدائك وتفاعلاتك، أنت صفحتك.

    ولكن الفيسبوك انتقل بقفزات سريعة من البراءة إلى الخبرة. في صفحاتنا الفيسبوكية كنا نمارس تلقائية من تحلو له الدندنة في الحمام، أو الغناء غير المنضبط بين الأصدقاء. غناء غير صارم، لا تسبقه بروفات، وتتداخل فيه المقامات، ويتفاعل معه حاضرون، مجاملون وصادقون، معروفون ومجهولون. نعلق على ما يكتبه آخرون، بحرية تحريك العازفين أصابعهم على الأوتار قبل بدء العزف، وبعضها من التلقائية يكون أكثر إتقانا وروعة من اللحن المراد تسجيله؛ فمن الصرامة ما يقتل الروح. كنا نكتب كلاما طازجا، لا نفكر في العامية أو الفصحى، أو نعلق بجملة جارحة ثم نسارع إلى حذفها، عن اقتناع شخصي أو بعد تنبيه أصدقاء.

    في صفحاتنا الفيسبوكية كنا صبية يلعبون الكرة في أزقة وحارات أو ممرات بين البنايات، وهو لعب يسبق ضبط المهارات، ولا يعنى بإحراز أهداف أو جذب انتباه. هي كتابة حميمة، عارية، ولكنها أكثر صدقا، هي باختصار ما قبل «الكتابة»، هي كتابة وحياة، ولهذا السبب تتكرر أفكار أو كلمات من يوم لآخر، لأننا لا نعود لكي نمحو ونثبت، ومن حسن الحظ أن قارئ كلماتنا متجدد وذاكرته هي الأخرى خؤون.

    كنا كذلك، ولكن عشر سنوات فيسبوكية تساوي ألفا مما يعدون؛ تكفل هذا العمر القصير العميق بنقل هذا الفضاء إلى خانة الخبرة. نعيد صياغة الأفكار، وضبط الانفعالات فتصير أقل عفوية، ونحسن اختيار الصور والأصدقاء الذين لا تحول دون لقائهم الجغرافيا.

    لا شيء في فضاء الفيسبوك يمكن إخفاؤه، العالم حاضر في راحة يد واحدة. إحباط ساخرين مصريين لنشيد داعش «صليل الصوارم»، غناء فتاة للحرية فوق سور أسمنتي بالقاهرة، سحل مهووسين مذهبيين لأربعة من الشيعة جنوبي الجيزة على خلفية صيحة نصر زائف «الله أكبر»، تحطيم مهووسين بالدين لآثار عراقية وسورية بحجة أنها من بقايا الجاهلية، دعوة مهووسين وطنيين ودينيين ـ كل حسب نيته ـ إلى قتل المعارضين، مظاهرة صامتة في ستوكهولم تعري فيها بضع فتيات أجسادهن من دون أن يتهمن بإثارة الفتنة أو تسليع الجسد، كشف تدليس كثير من المشايخ في الفتوى بالشيء ونقيضه؛ بحجة إباحة الكذب شرعا، تحت مسمى «التعريض».

    هل هي نبوءة أنطونيو تابوكي الذي تساءل في عنوان إحدى قصصه القصيرة: «أتستطيع فراشة تفرد جناحيها في نيويورك أن تسبب إعصارا في بكين؟».

    الفيسبوك مرآة لا تتجمل بأثر رجعي، يسهل على من يتربص بك، من أعداء مزمنين أو أصدقاء أنهيت صداقتهم في شجار فيسبوكي عابر، أن يخرج من صفحتك «العميقة» ما أسقطته ذاكرتك وتبرأت منه، ولو رأيا ساخرا، أو صورة فوتوغرافية، سوف «يبعث» في الوقت المناسب ما ينطق عليك بالحق، وأنت تظن أنه قد طوي طيّ السجل.

……………………..

*افتتاحية مجلة “الهلال” يوليو 2015

 

مقالات من نفس القسم