الفن والخوف: دليل الفنان القلق

تشكيل
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

شهاب بديوي

المقدمة

أثناء كتابتي لكتابي الثاني، وجدت نفسي محاصرًا بكثير من المخاوف والإحباطات. كانت تلك اللحظات التي أجلس فيها أمام الورقة البيضاء، محاولًا أن أستخرج من أعماقي أفكارًا وخيالاتٍ وأحلامًا، هي الأصعب على الإطلاق. تتزاحم في الذهن حينها أسئلة تنهش ثقة الكاتب بنفسه: من أنا لأقول هذا؟ هل يهتم أحد بما أكتبه أصلًا؟ هل أستطيع أن أُنجز هذا المشروع؟ هل ما كتبته يصلح للنشر أصلًا؟ هل هو جيد بما يكفي؟

أسئلة من هذا النوع لا تُثير التردد فحسب، بل تشلّ الإبداع، وتُجفف منابع الكتابة، وتُغلق أبواب الخيال. والأسوأ أن هذه المخاوف لا تتبدّد بانتهاء العمل، بل كثيرًا ما تستمر وتُطلّ برأسها حتى بعد اكتماله.

في خضمّ هذه الدوامة النفسية، كان كتاب «الفن والخوف: ملاحظات حول مخاطر (ومكافآت) صُنع الفن» طوق نجاة حقيقي. لم يمنحني إجابات نهائية، لكنه منحني عزاءً: بأنني لست وحدي. أن كل فنان، كاتبًا كان أو رسامًا أو مصورًا، يمر بهذه الدوامة. أن هذه المشاعر ليست عيبًا فينا، بل جزء من العملية الفنية ذاتها.

ومن هنا، رأيت أن أكتب عن هذا العمل الرائع، لا فقط لنقل تجربتي الشخصية، بل لأقدمه لمن يمر بهذه المخاوف المشابهة؛ لعلّه يجد فيه ما وجدتُه أنا: ضوءًا صغيرًا يُعيد إلينا الإيمان بأن الفن يستحق أن يُصنع، رغم كل شيء. وربما، في لحظة ما، تكون هذه الكلمات مسودةً أعود إليها كلما زارتني تلك المخاوف مجددًا.

دليل الفنان القلق

يأتي كتاب «الفن والخوف» ليضع الأمور في نصابها. لا بوصفه دليلاً إرشاديًا لصنع لوحة أو تأليف قصة، بل بوصفه تأملًا وجوديًا في العملية الإبداعية، في وجعها الصامت، وخوفها المزمن، وصبرها الطويل. إنه كتاب لا يخاطب الفن بصفته منتجًا، بل يوجّه خطابه إلى من يصنع الفن، إلى الإنسان، حين يواجه نفسه.

صدر الكتاب عام 1993 للكاتبين ديفيد بايلز وتيد أورلاند، وما يزال يُتداول على نطاق واسع حتى اليوم، باعتباره من أهم المؤلفات التي تناولت الفلسفة النفسية والفكرية للعمل الفني. وتم ترجمته من دار الكرمة في ٢٤ يناير سنة ٢٠٢٣، ترجمة خالد فاروق.

الخوف= العائق الحقيقي

يفتتح المؤلفان أطروحتهما من نقطة شديدة الواقعية: أن الخوف، لا قلة الموهبة، هو العائق الأول أمام الفنان. ليس الخوف في صورته الكبرى فحسب، بل تلك المخاوف الصغيرة التي تتسلل دون أن ننتبه: الخوف من الرفض، من الفشل، من أن يكون العمل سخيفًا، من أن نُجرّد أمام الآخرين. هي مخاوف قد لا تكون صاخبة، لكنها مستمرة، ودائمة الحضور.

ويؤكد الكاتبان أن هذه المشاعر لا تقتصر على فنانٍ بعينه، بل هي شعور مشترك بين الغالبية العظمى من المبدعين. فما يمنعك من إنجاز مشروعك الفني، هو غالبًا ما منع آلاف الفنانين قبلك. تلك الحقيقة في ذاتها—أننا لسنا وحدنا—تمثل قوة نفسية هائلة. إذ يكمن في إدراك الجماعية عزاء عظيم، فالوحدة تُضخم الخوف، أما مشاركة الخوف فتقلل من وطأته.

تفكيك الأسطورة= الفنان الخارق

من أولى مهام هذا الكتاب هي تفكيك أسطورة الفنان الملهم الذي يخلق من العدم بإلهام إلهي، لا يعرف التردد أو الشك. يرفض المؤلفان هذه الصورة الرومانسية، ويصرّان على أن الفن عمل، يتطلب صبرًا، وانضباطًا، ومواجهة دائمة مع الشكوك. ليس ثمة «شرارة سحرية» تهبط من السماء، بل هناك عمل متواصل، وإرادة تتحمل ثقل الشك الذاتي.

 «حتى الموهبة نادرًا ما تُميّز على المدى الطويل عن المثابرة والعمل الشاق»

هكذا يضع الكتاب حجر الأساس لفكرته الجوهرية: أن الطريق إلى الفن ليس مزدانًا بالعبقرية، بل مفروش بالتكرار والتجربة والخطأ.

***

يرى المؤلفان أن الانشغال بالتقنية دون الفكرة، يُنتج فنًا «جميلًا… وأنيقًا… لكنه فارغ». يميزان بين ما يراه الناقد: فنًا يُقيّم وفق قواعد، وما يراه الفنان: فعلًا يُمارس بتوتر داخلي حقيقي.

يقولان:

«لا نتذكر من اتبع القواعد بأشد دقة، بل من صنع الفن الذي وُلدت منه القواعد».

هذا التحليل يدفع باتجاه إعادة ترتيب الأولويات الفنية، حيث ينبغي للفنان أن يهتم بما يقوله عمله لا بكيفية قوله فقط، فالتقنية خادمة للفكرة وليست سيدتها.

الكتاب لا يمنح حلاً سحريًا، بل يكشف حقيقة خفية — أن المعاناة جزء من العملية — هو ما جعل هذا النص يحظى بتقدير نقدي واسع، كما في مراجعات SoBrief وSam van Zweden وغيرهما.

الخطأ ضرورة، وليس عيبا!

أحد المفاهيم المفصلية في الكتاب أن الأعمال الفنية «السيئة» ليست علامات على الفشل، بل أدوات تعليم ضرورية. فالفن الجيد لا يولد إلا من خلال الفن الرديء، والعملية الإبداعية لا تفرز الجودة دفعة واحدة، بل تنحتها نحتًا.

 “الوظيفة الأساسية لغالبية أعمالك الفنية هي أن تُعلّمك كيف تصنع تلك القلة القليلة التي تبلغ الذروة.”

بهذا الفهم، يصبح الخطأ مرحلة لا مفر منها، والتردد ليس عارًا بل عرضًا جانبيًا للفعل الفني نفسه.

الصدق مع الذات: الشرط الأول للفرادة

ربما تكمن أعظم قوة في هذا الكتاب في دعوته الصريحة لأن يكون الفنان صادقًا مع نفسه. لا يسعى لتقليد من أُلهم بهم، ولا يطارد الاعتراف الخارجي. فالكتاب، ببساطة، يمنحك الإذن بأن تكون أنت.

>الشيء الوحيد الذي يمكنك أن تكونه هو نفسك. فكن نفسك بالكامل، ما دام القانون يسمح بذلك.»

هذه الدعوة، التي تبدو بسيطة، هي في الحقيقة أصعب ما في الفن. إذ أن تبنّي صوتك الخاص يستلزم مقاومة الضوضاء، وإيمانًا بأن ما تراه أنت مهمّ، حتى لو لم يره الآخرون كذلك.

«الفن والخوف» ليس كتابًا عن الفن فقط بقدر كونه كتاب عن الإنسان الذي يصنع الفن. عن شكوكه، وخيباته، ورغبته في أن يقول شيئًا في عالمٍ لا ينتظر قوله. هو دعوة للفنان أن يعمل، لا أن ينتظر، وأن يُنتج، لا أن يبرر، وأن يثق، ولو للحظة، أن ما يصنعه يحمل معنى، حتى إن لم يُدركه أحد سواه.

 

مقالات من نفس القسم