ربما كانت المجموعة الاولى له والتى كانت بعنوان “بنت ليل” هى التى كانت الأقرب لى رغم براءة الكتابة فى ذاك الوقت، لن أسهب فى الكتابة عن الفخرانى ككاتب، لأنه بالتأكيد لن ينتظر ما سأقوله انا تحديدا، فقد حقق نجاحا ملحوظا لا ينكره احد، واصبح من اهم كتاب مرحلته، وحصد الجوائز الذى يستحقها بالتأكي ، فإيمانى الشديد وقناعتى تجعلنى اثق فى ما من احد يحصل على شىء لا يستحقه، سواء كان جائزة، او ابتلاء، لذلك ارى بكل محبة أن محمد يستحق جوائزه ومنحه وصعوده المتأنى الدوؤب، وهو الانسان الذى حرص على ان يتفرغ لفعل الكتابة واتخد منها عملا وموهبة، وهو المهندس الجيولجى، وهى وظيفة نادرة على ما اظن، ولكنه فضل ان ينخرط فى عالم المثقفين والكتاب بطريقة نخبوية جديدة، الابتعاد ثم الاقتراب برفق لمن يستفيد منهم بشكل عملى، فلا يضيع وقته هنا او هناك بلا هدف، محدد تماما ويعرف جيدا ما يريده، وهذا شىء يستحق الثناء عليه، فكم من كتاب أهدروا وقتا طويلا فى حياتهم بلا هدف محدد، ويمر العمر منهم ليصبحوا كتابا كبارا في السن فقط، لكن الفخرانى بذكاء فطرى نبيل ، استطاع ان يكون الانسان الودود الطيب الهادىء المحبوب ممن يعرفونه، فى نفس الوقت الذى لا يهدر فيه وقتا ضائعا، وصنع لنفسه عالما خاصا، احاط به اناسا يساندونه على مسيرته الابداعية الصغيرة المنجزة .
عرفت محمد الفخرانى عندما بدأ يحضر ندوة نقابة الصحفيين عند الاستاذ محمد جبريل ، وكان يأتى من البلد حاملا حقيبة جلدية ممتلئة عن آخرها، وكان هادئا وخجولا، وكلاسيكيا كما هو حتى الآن، وكان غالبا لا يشارك فى الرأى الا نادرا، ولم يعرض نصوصا كثيرة فى الندوة، كان وقتها يعمل جيولجيا على ما أذكر، وكان يتعامل مع الكتابة بمنطق المشاهد، وصدرت وقتها مجموعته “بنت ليل “، كنا جميعنا نشاهد ونتعلم ونقرأ ونجرب، لم يصاحبنا الفخرانى ، مرت سنوات لم يصدر بعدها شىء لمحمد اللهم الا مشاركات بسيطة هنا وهنا ، وقتها كان زوجى الراحل محمد حسين بكر رحمه الله يحضر معى ندوة جبريل مثلما كنا نحضر ندوة الاسوانى وندوات اخرى، وكان من ضمن من تحدث عنهم واحبهم محمد الفخرانى، وكان محمد يحبه ايضا.
وهنا سأسرد حكاية عن روعة الكاتب الانسان ، حتى وان لم يكن يكتب كتابة تؤثر فى، ولكنه انسان اثر فى بالفعل، مع الزمن وعلاقة الصداقة الرشيقة بينه وبينى انا ومحمد حسين بكر، دخل محمد مستشفى معهد ناصر، وقتها اصدقاء كثيرين لم يصدقوا مدى بشاعة الآلم الذى كان يتعرض له صاحبهم الشقى العصبى الف ، ولم يصدقوا أنه فعلا يعانى من ألم فى القلب، لأنه كان يضحك كثيرا ويتحرك بخفة، وصدامى، ومنهم من اعتقد ان محمد يؤدى دوراً ما حتى يكتسب عطف الاخرين لسبب او لآخر، ولكن قليلين هم من صدقوا عذاب ذلك الشاب الذى لم يمهله القدر لاثبات وجوده الابداعى، وكان من ضمن هؤلاء القليلين محمد الفخرانى، الذى فاجأنى بأخلاقه الريفية الرفيعة بزياراته التى لم تنقطع عن محمد منذ دخوله المستشفى ولمدة 9 شهور تقريبا حتى توفاه الله.
الفخرانى الهادىء الخجول الذى لا يصادق الكثيرين ، وقف بجانبى وقفة رجل، وساند محمد عاطفيا وانسانيا فى رحلة مرضه، دون ان يكون بيننا سابق صداقة طويلة وعميقة ، ولكن عمقتها تلك التجربة الآليمة التى مررت بها انا ومحمد رحمه الله ، الفخرانى الذى كان يأتى من البلد كل مدة طويلة نظرا لظروف عمله ومكان سكن اهله ، كان يأتى خصيصا لمحمد تقريبا مرتين اسبوعيا بزيارة تليق به وبكرمه، حقيبة ممتلئة بخير البلد الجميل، صنعته امه واخته بحب لشخص لا يعرفونه، بل وكان قدر الامكان يجلس بجوار محمد لفترة طويلة يحادثه فى كل الامور، ويحتمل عصبيته اذا ما تطلب الامر عصبية، ويحتمل غضبه كأنه أحد أخوته، لا يمكن أن أنسى لهذا الرجل موقف كهذا ابدا.
محمد الفخرانى الكاتب الشاب، بكل جدعنته وطيبته وهدوئه، يدور الزمن ويدور، وكلما تذكرت تلك المرحلة الآليمة يظهر الفخرانى فى مخيلتى كأحد افراد عائلتى الذين ساندونى، فى الوقت الذى لم يكن هناك فرد واحد من أفراد عائلة محمد يأتون له أو يزورنه الا باستدعاء اجبارى منه لأنه يشعر بقرب موته ويريد رؤيتهم، كان الفخرانى يسأل عن محمد يوميا، وفى احد المرات الذى زرت فيها مقهى التكعيبة بعد وفاة محمد أكتشفت انه ذهب وسأل احمد صاحبها إن كان على محمد اى دين له وكان هذا سرا، وهو لا يعرف حتى كتابة هذه الكلمات انى عرفت تلك المعلومة، من خلال ما اكتبه اليوم عن محمد الفخرانى، ذكرنى بهؤلاء الذين ساندونى فى تلك اللحظات القاتمة فى حياتى، منهم من اختفى لان الظرف كان انسانى وهم استخدموا انسانيتهم لسببها وقتها ثم اختفوا تماما، على اعتبار ان دورهم انتهى ، ومنهم من استمر معى حتى هذه اللحظة ولم يتوقف عن مساندتى وتشجيعى.
حمد الفخرانى كان وكأنه سدد دينا عليه بزيارته لمحمد ثم ذهب ليستريح ، كذلك بعض الأصدقاء الاخرين ، فعلوا مثلما فعل ، توفى محمد حسين بكر وكان من ضمن اخر الروايات التى قرأها وكانت بجوار سريره رواية “فاصل للدهشة ” ولم يمهله القدر ليخبر الفخرانى أنه تطور وكتب كتابة فارقة ، ولكنه كان يعترض على بعض الالفاظ الجنسية الفجة فى الرواية ، لأن هذا ضعف فى اللغة لا اكثر ولا اقل ؟ لأنه احب الرواية فعلا ، وكان يريدها كاملة ، وقال لى ، هذه رواية جديدة وتستحق جائزة ، وسبحان الله ، رشحت لجوائز عديدة ، وكادت تحصدها، اأهنىء “المش صديقى” محمد الفخرانى صديقى من طرف واحد ، هو طرفى انا ، مثله مثل اخرين ايضا ، على كل ما وصل اليه من نجاح يستحقه ، فرسالة أوجهها لكل انسان اولا ولكل كاتب ثانيا ، الصداقة الحقيقية وقت الضيق ووقت الفرج وفى كل وقت ، واياك ان تظهر فى حياة احد وقت الضيق ثم ترحل ، لأن فى ذلك الوقت لن يأخذ منك صديقك مساندتك له وقت الضيق على انها جدعنة شهم ومؤازرة ، بل سيستقبلها بعد قليل ، على انه كان شعورا بالشفقة زال بزوال السبب، وهذا شعور لو تعلمون كريه، لكن علمتنى الحياة أن أعامل الناس بمحبة الله الذى اهداها لى فى قلبى، لذلك احب الفخرانى كأنسان لانه يستحق ذلك ، وربما يأتى اليوم الذى أحب كتابته، ربما عندما يكتب تجربة حقيقية بلغة خالية من صنعة الحرفية الذى يخرجها وكأنها تخرج من مدرسة قديمة من القرن الماضى.
ربما سأتعرض لهجوم ضارى لأن محبي محمد الفخرانى لا حصر لهم، والنقاد المبهورين بكتابته كثيرون، وربما يعتقد البعض أنها غيرة كتاب، ولكن يعلم المقربون جيدا انى صريحة الى حد كبير، ولا يهمنى اطلاقا اى تأويل يقولون، مع التأكيد انى طبعا لا اخلو من عيوب فى كتابتى ، ولكن اذا تعاملت مع الفكرة من وجهة نظر ناقد او كاتب يجامل كاتب ليردوا لبعض مجاملات الافراح ، فالاحرى بى أن اقول شعرا فى كتابة كل الناس بلا تمييز ، انا احب محمد الفخرانى انسانا وكاتبا دؤوبا ونشيطا وذكيا ، ولكن حتى الان لم تدهشنى كتابته ، انتظر هذا اليوم واعرف انه آت ، فموهبة كتلك لابد أن ترضى جميع القراء ، وانا كأحد قرائه من حقى ان احظى يوما منه بنص يدهشنى .