عبد الرحمن أقريش
المحطة الطرقية، حي القامرة، الرباط.
1992، يوم من أيام ديسمبر الباردة.
أسبوع آخر من جو بارد وممطر، مطر طوفاني قوي وجارف، يغسل وجه المدينة، يخفت قليلا، ثم تهب الريح، تنفخ فيه فيضرب الأرض والحيطان بقوة أكبر.
جلس (المامون) على المقعد الإسمنتي هناك منذ ساعات، ينتظر انطلاق الحافلة، فالحافلات هنا لا تنطلق إلا عندما يمتلئ جوفها بالمسافرين، اقتنى جريدة وراح يقلب أوراقها، يتصفحها.
الجريدة مفتوحة، ولكنه لم يكن يقرأ.
ثم توقف المطر، رفع بصره، ألقى نظرة إلى الأفق، رأى بقايا سحابة تدفعها الريح بعيدا لتفسح المجال لأشعة الشمس، أشعة تظهر وتختفي وكأنها تقاوم، أحس بها دافئة تخترق خيوط سترته الصوفية، تتسرب حرارتها إلى تفاصيل جسده، وتنفد إلى ظلال روحه الرمادية، فمع البدايات الأولى لموسم الأمطار تجتاحه دوما كآبة موسمية، تشاؤم وجودي وسوداوية غامضة.
أغلق الجريدة، طواها، وضعها جانبا، وراح يدخن ويتأمل حركة الرواد، يجلس المسافرون على الكراسي الإسمنتية مستسلمين وهادئين، بعضهم –الأكبر سنا– يجلسون على الأرض في وضعيات جسدية مسترخية ومريحة، الشباب يجلسون متلاصقين، وينخرطون في أحاديث حميمية لا تنتهي، وبالمقابل يبدو الموظفون في حالة نفسية متوترة.
غير بعيد يقف رجل ببدلة أنيقة، وحقيبة جلدية تطل منها أوراق وملفات، يقطع الرصيف جيئة وذهابا، ينظر إلى الساعة في معصمه، يخرج التذكرة من جيب سترته، يلقي عليها نظرة، ثم يعيدها إلى مكانها، يلتفت إلى المقعد الإسمنتي، يجلس، يشعل سيجارته، يمتص منها نفسا عميقا، يدفع الدخان، يرسله بعيدا ويستعيد بعضا من هدوءه…
المحطات الطرقية في المغرب هي مجرد معابر مؤقتة، فضاءات تتقاطع فيها مصائر البشر للحظات قبل أن يغادروا إلى وجهات مجهولة، لذلك تبدو عادة مهملة، قذرة، مقرفة وكئيبة، تؤثثها تفاصيل بئيسة وقاسية، مقاهي ومطاعم متهالكة، قطط وكلاب متخلى عنها، مجانين، مشردون بدون مأوى، أطفال شوارع، مجرمون، لصوص ومحتالون…
…
يصيح الكورتية، يصرخون، يجرون حقائب المسافرين في حركات عنيفة ومتهورة، يشيرون بأديهم جهة الحافلات.
– أفين غادة ألالة؟
– الكار خارج دابا…
– شوفي الكار، جديد ونقي بحال الصالون…
– أكادير، آسفي، الصويرة، العيون، الداخلة، طانطان، بني ملال، زحيليكة، وجدة، واد لاو….
انخرط (المامون) في لحظة بياض قوية، عاد بذاكرته إلى الوراء وراح يسترجع صورا بعيدة من طفولته الأولى.
استعاد صورته وهو يغادر القرية لأول مرة في اتجاه المدينة، ثم صورته وهو يغادر مدينته في اتجاه الجامعة، واستعاد بداخله نفس الإحساس الذي يتملكه في كل مرة يستقل فيها الحافلة منطلقا لوجهة جديدة، شعور ملتبس، يمتزج فيه الخوف من المجهول ومتعة الانطلاق والشعور بالحرية والانفلات.
عندما عاد إلى نفسه، انتبه لشابة أنيقة تقف أمامه، تنظر إليه وتسأله بصوت يمتزج فيه الحرج بنبرة التوسل، نبرة سيكتشف فيما بعد أنها مقصودة ومفتعلة.
– من فضلك، هل تدلني على التوقيت المسجل على التذكرة وعلى اسم الحافلة؟
كانت يدها الممدودة تمسك بالتذكرة، أخذها، ألقى عليها نظرة، وقرأ لها التوقيت، اسم الحافلة ورقم الرصيف بصوت مسموع، ثم عاد إلى جريدته وهو يمثل اللامبالاة.
راحت الفتاة تقطع الرصيف الإسمنتي جيئة وذهابا في خطوات هادئة ومتناغمة، وراح هو ينظر إليها، يتأمل جسدها القوي المشدود، شعرها الأشقر الملولب في تسريحة فوضوية على الموضة.
يعود مرة أخرى لهواجسه، يمضغها، ينصت لصوته الداخلي، يفكر أنه يعرف هذا النوع من الحركات، يفهمها، حركات تخفي وتكشف في نفس الوقت ما يموج في النفس من انفعالات وهواجس.
تقبل الفتاة، تحشر كفيها في سروال الجينز اللصيق فترسمان شكل مثلث رهيب، تمشي، ومع كل خطوة يهتز صدرها الممتلئ على وقع كعبها العالي الذي منحها جرعة رشاقة زائدة، رشاقة تعوز عادة الأجساد الممتلئة.
ثم تدبر، يرتفع قميصها قليلا من الخلف فيكشف عن خيرات أخرى، وعند نهاية الرصيف تحرر كفيها وتدع القميص ينسدل إلى الأسفل.
بدا الأمر وكأنه لعبة، بدا وكأنها تخاطبه.
– أنظر هنا، فما تراه جميل، وما خفي أجمل، أنظر جيدا لما هو متاح أمامك، وتخيل الباقي…
أخذ مقعده في الحافلة، في الصف الأول مباشرة خلف مقعد السائق، مد يده إلى جيبه، أخرج خاتمه الفضي، خاتم يستعمله كتميمة سفر، يسميه (الخاتم السحري)، أحيانا يسميه (سيد الخواتم)، يضعه في كل مرة يشد رحال السفر.
في البداية كان الأمر عفويا وعاديا، فالخاتم مجرد إكسسوار يضعه ليقدم عن نفسه صورة الشاب الأنيق الناضج، صورة تتناغم تماما مع تصوره لذاته وعلاقته بالآخرين، وترضي بعضا من غروره ونرجسيته المزمنة، ولكنه سيكتشف مع مرور الأيام وبفعل التجربة، أن هذا الخاتم يمكنه أن يؤدي وظائف أخرى، فهو حصانة ضد الزواج، درع واقي يصد تلك التي ترغب في الزواج وتبحث عن زوج بأي ثمن، وهو أيضا وفي نفس الوقت، دعوة مفتوحة لتلك التي تبحث عن المتعة والسعادة المتحررة من القيود والتبعات.
يفتح الجريدة، لم يكن يقرأ، كان ينظر فقط، يمر على العناوين ليمضي الوقت في انتظار أن تبدأ الرحلة، في الخارج وعلى بعد سنتمترات، حطت فراشة زاهية على زجاج النافدة، تفرد جناحيها في وضعية جامدة وكأنها تنظر إليه، ينظر إليها بإعجاب، يتأملها ويحاول أن يتحرك بهدوء.
لسبب ما، تمنى في قرارة نفسه ألا ترحل.
لا يذكر (المامون) متى حدث ذلك، ولكن الأمر بدا له بعيدا، بعيدا جدا، مجرد صور مشوشة وباهتة، صور تضرب جدورها عميقا في طفولته الأولى، صور يعلوها الصدأ وغبار الذاكرة، في الصباحات الباكرة، في الطريق إلى الجامع عندما تشرق الشمس وترسل خيوطها الدافئة من وراء جبال الأطلس، تنبعث الحياة في التفاصيل، تتحرك الفراشات برشاقة في اتجاه البحر، تتوقف قليلا، تحط على البتلات المبتلة، تختار محطاتها بدقة وعناية، أشواك، أزهار، ورود ونباتات برية غريبة وشديدة الاختلاف، تحط عليها بخفة، تحشر أجسامها الرفيعة في فتحات المياسم، ويندفع الرحيق صعودا من الكؤوس إلى خلاياها، ترتوي، تم تمضي بخفة.
في سن مبكرة، جعلته الفراشات يكتشف بشكل غامض فكرته الأولى عن الجمال والحياة والموت، هشاشة الجمال والحياة وقسوة الموت، في الحقول والغابات يحاول عبثا الإمساك بالفراشات، تحط للحظات، يقترب هو، تبتعد هي، تطير في اتجاه الشمس، ينخرط هو وهي فيما يشبه اللعبة، لعبة الإغراء والتواطؤ واستحالة التملك، أحيانا كثيرة عندما ينجح في الإمساك بواحدة، يكتشف أنها ماتت منسحقة بين أنامله.
عندما عاد إلى نفسه، تملكه شعور غريب، للحظة أحس أنه مراقب، وأن نظرة ما تخترقه من الخلف، نوع من الحدس الغامض، التفت، رأى الفتاة الشابة، صاحبة التذكرة، تنظر إليه وتبتسم، رد عليها بابتسامة أخرى مشجعة، استجمع جرأته، وقال لها.
– تعالي بجانبي، ها هنا مقعد شاغر…
ترددت الفتاة قليلا، أو هي تريد أن تبدو مترددة، ولكنها حسمت أمرها بسرعة، حملت حقيبتها اليدوية وجلست بجانبه.
…
تغادر الحافلة البوابة الضخمة للمحطة، تسير بسرعة، يطلق السائق شريطا لأغنية بدوية، يتمايل جسده البدين، يغني، يدندن كلمات الأغنية، يمثل الوجد والانخراط، وفي كل مرة يرفع بصره إلى المرآة، يتلصص، ينظر إليهما نظرة اتهام، يشيح عنه (المامون) ببصره، يتفاداه، ينظر بعيدا عبر النافذة، أما الفتاة فتنظر إلى السائق بجرأة، نظرة قوية تقول إن الأمر لا يعنيه، وأن عليه أن ينتبه للطريق عوض التلصص على الناس، تهزمه فيعود إلى أغنيته.
راحت الفتاة تتحدث عن نفسها.
– انا رباطية من عائلة محافظة، بابا إمام وعالم كبير (تقصد أنه رجل دين)، في كل مرة تسنح الفرصة أسافر فأستعيد حريتي، أهرب، أتيه، أتنفس هواء نقيا بعيدا عن مدينتي وعائلتي…
رسمت لحظة صمت، نظرت في عينيه وسألته.
– ألا تريد أن تعرف اسمي؟
رسم تعبيرا غامضا على وجهه، ولكنه لم يجب.
– أنا (ثريا) وأنت؟ أتخيل أنك لست من النوع الذي يغير اسمه في كل مناسبة!!
مال إليها قليلا، وهمس لها.
أطلقت ضحكة مرحة وقالت.
– مش معقول، من منحك هذا الاسم القديم؟
ابتسم، وقال.
– اطمئني فأنا لا أغير اسمي أبدا، ولكن أود أن أسألك، أكانت التذكرة مجرد ذريعة؟
ظلت صامتة وكأنها تفكر، ارتسمت ابتسامتها للحظة، ثم انمحت.
– نعم… أفترض أنك شخص مختلف وتستطيع أن تفهمني، أنا إنسانة حرة ولكنني لست فتاة سهلة، خطيئتي الوحيدة هي حريتي.
تتكلم هي، تتكلم بدون انقطاع، ينظر هو للأشجار وهي تمضي وتبتعد.
…
ثم انتهت الرحلة أخيرا.
كانت الفراشة ما تزال هناك، راح (المامون) ينقر على الزجاج، نقرات خفيفة ومتتالية، ولكنها لم ترحل.
نزلا من الحافلة، أعادا النقر، ولكن الفراشة لم ترحل، ماتت ملتصقة بالزجاج، ماتت دون أن تفقد بهاءها!!
يفكر بصمت.
– الفراشات لا تشيخ أبدا، تولد جميلة وتموت جميلة.
نظرت الفتاة جهة الفراشة، ثم نظرت إليه، رسمت بملامحها تعبيرا حزينا، وقالت.
– أنا مثلك تماما، أنا أيضا حزينة…
رسمت لحظة صمت وأكملت.
– أفترض أن لديك مكانا نأوي إليه.
توقف هو للحظة، بدا وكأنه يفكر أو يحدد وجهته.
ينزل مطر خفيف، يمشيان بهدوء، استوقفته بحركة خفية من يدها، نظرت إليه، نظرت في عينيه وكأنها تستأذنه، أمسكته من ذراعه، مالت برأسها قليلا على كتفه، ثم مضيا.
بدا المشهد وكأنهما يعرفان بعضهما منذ زمن، مع كل خطوة يخفت ضجيج المحطة ويبتعدان، ثم أخيرا ابتلعتهم المدينة وذابا في الزحام.