الغضب

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عبد الرحمن أقريش

الناس في بلدتنا يسمونه (خالي سعيد).
لسنوات طويلة، كلفته القبيلة بحراسة غابة الأركان، ولسنوات أيضا، اشتغل قيما ومحافظا لمسجد البلدة، ولكننا لا نتذكر أننا رأيناه يوما يصلي، نحن الصغار كنا نحبه ونكن له عواطف حقيقية، ومن جهته كان هو أيضا يحبنا ويعاملنا كما لو كنا كبارا، في المساء نعود من المسجد، نتوقف، نسلم عليه، نقبل يده، يرحب بنا، ويسألنا نفس السؤال.
– ماذ يعمل والدك؟

– كيف حال الأستاذة والدتك؟!
كان ينعت نساء قريتنا بالأستاذات، كانت تلك طريقته في إكرام نساء البلدة وتبجيلهن، رغم أنهن ربات بيوت، أميات، وفي منتهى البساطة والسذاجة، عندما عبرنا إلى الجامعة، كنا نستحضره، نستحضر ذكراه بكثير من المرح، اعتبرناه فيما بعد، داعية للتحرر، ورائدا للحركة النسائية!!

كان والده شيخا مهيبا، ورعا ومتدينا، ورث عنه أرضا شاسعة، تزخر بأغراس الخروب والتين والزيتون. ولسبب ما، قرر ذات يوم أن يبيع تلك الأرض ضدا على أعراف القبيلة، ففي بلدتنا لا يبيع الرجل أرضه أبدا ولو مات جوعا.

يقول الناس من باب النميمة القاسية، إنه أنفق ثروته على وجبات الطاجين، وكؤوس الشاي المسكرة.
نصحه والدي ذات يوم، ونبهه إلى مآل أبنائه، ابنه الوحيد وبناته الثلاث.

رد عليه قائلا.
– سأترك البنات على قارعة الطريق القديمة، أما الولد فهمهم…همهم همهم !!
كانت الصورة قاسية وصادمة، فقد كان الفلاحون في بلدتنا يتخلصون من الجراء والقطط حديثة الولادة على جنبات الطريق القديمة، أما همهمته فكانت إشارة إلى أنه لم يقرر بعد ماذا سيفعل بولده الوحيد!!
لم يكن (خالي سعيد) رجلا قاسيا، كان شخصا طيبا ورقيقا، أحيانا كثيرة يبدو عاطفيا، هشا وسريع العطب، ولكنه لسبب ما، أصيب بلوثة تمنعه من التصرف بحكمة.

مرت السنوات.
قست عليه الحياة، ذاق الفقر والحاجة وقلة ذات اليد، وتحول إلى شخص بئيس، وجه مغضن لفحته الشمس، جلباب لا لون له وحذاء متهالك، ولكنه بالمقابل حافظ على روحه المرحة، روح قوية وغامضة يمتزج فيها العناد وعزة النفس بالتفاؤل، نوع من التفاؤل المأساوي، فقد كان صاحب نكتة سوداء، يسخر من الحياة، من نفسه ومن الآخرين.

في لحظات الصفاء، كنا نسأله عن سبب تطليقه لزوجته الأولى، كان يحب هذا السؤال ويحب الجواب عليه.
– في كل مرة كنت أتسلقها، كنت أشعر بجسم غريب يدغدغ مؤخرتي!!
ننظر إليه، نحاول أن نفهم، ثم نغرق في الضحك، أما هو فيرسم ابتسامته المقتضبة فيبدو سعيدا.

كان ينبغي أن نكبر، لنفهم أن زوجته الأولى كانت خنثى!!
دار الزمان دورته، قست عليه الحياة أكثر، عاش على الهبات والصدقات.
عندما أقعده المرض، تمدد أياما وأسابيع في غرفته المتواضعة، يذود الذباب عن جسده النحيل – ما تبقى من جسده – بمروحة من خيوط الشحطاط الأخضر، يجلس رجال البلدة عند قدميه، يؤنسون وحدته، يتطوع أحدهم، يحلق رأسه، يشذب لحيته وشاربه، يشربون الشاي، يدخنون، يثرثرون، يسترجعون معه أيام الزمن الجميل، يتطفل البعض فينصحه بالصلاة والاستغفار، ينظر إليه (خالي سعيد)، يتأمله للحظة، ثم يتجاهله، يلوذ بالصمت، ترتسم على وجهه الخطوط الأولى لتعبير غامض يشبه الابتسامة، ينظر بعيدا فيبدو غائبا، مستغرقا، ومنخرطا تماما في عالمه الداخلي، ينكفئ على ذاته وكأنه يفكر، من الأكيد أنه يفكر، لكن لا أحد يستطيع أن يجزم بماذا يفكر.

انهزم الرجل، فقد حماسه وتمسكه بالحياة، كان الموت حاضرا، كان قريبا منه، يدب في أطرافه، ثم أخيرا يتكلم.
– ألم يحن الوقت بعد؟ أريد الانتقال إلى الجهة الأخرى!!
يحرك رأسه، يومئ بعينيه في إشارة إلى مقبرة البلدة.
أخيرا، وبعد يوم أو يومين رحل للجهة الأخرى.
يقول الناس في بلدتنا، إن (خالي سعيد) فقد إيمانه منذ زمن طويل، فهو لم يكن يصلي، لم يصل أبدا، حتى في المناسبات والأعياد الدينية!!
يبدو الأمر بعيدا الآن، بعيدا جدا.

أسترجع صورته، أو ما تبقى منها، أشعر أنه كان غاضبا فقط!!

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون