د.محمد السيد إسماعيل
سوف أستعير – بداية – فى مقاربة هذا الديوان – أو جانب منه – تقنية سردية تعرف بتقنية “الراوى التقريبي” وهو ذلك الراوى الذى يتوجه مباشرة إلى المتلقى مستخدما ضمير المخاطب، وعلى الرغم من شكلية هذه الملاحظة، فإن البدء بها أو بالتشكيل عامة، مدخل ضروري لاستشراف الرؤية التى يسعى إليها الشاعر أو تسعى إليها قصيدته، فنحن – هنا – أمام شاعر يستحضر المتلقي الضمني دائماً ويتوجه إليه بالخطاب بما يوحى بوجود “رسالة” ما، يود تأكيدها، ففى قصيدة “العالم من دوننا يتيم” تقوم الجملة الاعتراضية بتحديد جهة الخطاب وتأكيدها، يقول متحدثاً عن ذلك العالم الذى يشعر باليتم من دوننا أو حين لايرانا:
“في أي متاهة أخرى/ يمكن أن يراك؟/- أنت نفسك ياعزيزى – / حين تسدد هدفاً فى روحك/ ثم تصيح فرحاناً/ كآخر من أنجبته الخسائر”. (1)
فالقصيدة عند محمود خير الله – على مدار دواوينه كلها – ليست مجرد فعل جمالي، حيث تتأكد وظيفيتها دائماً مستلهمة ما تباشره على مستوى الواقع وتشعيره برهافة واضحة، من خلال ما يعرف بالانحراف أو العدول الذي يخرج عن أفق التوقع، حين نقرأ – مثلا- “كالذنوب والخطايا/ كسنٍ معدنية تلمع فوق شفاه قاتل/ كشمعة / كطلقة فى الميدان / مصوبة منذ أعوام / لكنها لم تصل – بعد – إلى سويداء القلب..”، فهذه السطور كلها تشبع أفق التوقع مما يجعل الأسلوب حقيقياً تقع دواله فى دائرة دلالية متماثلة، كما نلاحظ فى ( الذنوب – الخطايا – السن المعدنية – الشفاه – الطلقة – الميدان)، لكن لحظة العدول تقع عندما نعلم أن طلقة الميدان هذه مصوبة “منذ أعوام” وأنها على مدار هذه السنوات لم تصل – بعد – إلى سويداء القلب، هنا تحديداً يبدأ ما يُسمى بالتصور الشعرى للعالم، الذي لا يلتزم – بداهة – بالعلاقات الطبيعية بين الأشياء، ويبدو أن تيمة الامتداد الزمني من التيمات التي يعتمد عليها الشاعر كثيراً حيث نجدها – مرة أخرى – فى قصيدة “اللص” التى تشبه – فى بنيتها – القصة الومضة بإيجازها ونهايتها المفتوحة يقول: “حاولت مراراً أن أكون لصاً/ وفشلت/ مرة واحدة نجحت/ خطفتُ برتقالةً من السوق/ وأخذت أجري” نحن – إلى الآن – أمام سرد اعتيادي لايخرج عما هو مألوف من الرغبات والأفعال المضطردة بعلاقات سببية، لكن القسم الثانى يبدأ بما يُسمى بالعدول من خلال تمديد البنية الزمنية حين نقرأ “كان خصمى فلاحاً عجوزاً/ لو كنت أخذت قلبه من بين ضلوعه/ ما كان جرى ورائي كل هذه السنوات/ وهو لا يزال يجرى إلى اليوم” (ص39)، وتمديد الزمن على مدار كل هذه السنوات يحمل – رغم مجازيته – بعداً حقيقياً فلا يزال هذا الفلاح الفقير يطارد الشاعر – حقاً – بمعاناته وقضيته التى يؤمن بها الشاعر ويدافع عنها .
إن حضور هذا الفلاح والفقراء عامة فى نص محمود خير الله يجعل من شيوع دوال الموت والقتل والبكاء والصراخ والهتاف أمراً طبيعياً، فهناك – دائماً – حالة من الانتهاك يقول “كقبلة وداع/ مزقتها صافرة القطار/ كحافلةٍ سقطت فى النهر عنوةً/ فتبللت جيوب الموت فجأة” كأنَّنا أمام عالم يوشك على الزوال، هذا العالم الذي يبدأ منه الشاعر – دائماً – ويتحرك خياله انطلاقاً منه، وهو عالم يتحكم فى رؤيته للدوال التى شاعت فى المعجم الرومانسى حين نقرأ :”ليس قمراً صدقونى / إنه آخر ما تبقى من دموع أجدادنا/ الذين ماتوا فى سالف الأزمان / ببطون خاوية” (ص24)، وللتعبير عن هذه العلاقة الجدلية الوثيقة بين الخيال والواقع يقدم الشاعر هذه الصورة اللافتة التى تقوم على المفارقة – أكثر من الجناس الناقص – بين يرفرف “عارياً” ويرفرف “عالياً” يقول تحت عنوان “يرفرف عارياً” :” ما من قلب يرفرفُ عالياً/ متكئاً – هكذا – على ظهر طائرة ورقية / تميل وترتفع / تحت سماء الله رائقة / بين السحب / إلاّ وكان طرف خيطه ينتهي / – متعرقاً- / فى قبضة صبى جائع” (ص55)، هناك – دائماً – ذلك الخيط الذى يربط بين التحليق عالياً والواقع البائس الممثل فى يد هذا الصبي الجائع واللافت – حقاً – هو هذه اليقينية التى يقدم بها الشاعر قناعاته ويظهر ذلك فى أسلوب القصر القائم على النفي والاستثناء فى السطور السابقة، كما يظهر فى العديد من الدوال والأساليب الأخرى من قبيل :”احصل على النافذة أولاً/ وأنا أضمن لك/ أن القمر سيأتى صاغراً معها / والنجوم والشجر سوف يأتي/ وإذا جاءك هؤلاء جميعاً / مرة / صدقنى / سيأتى النهر معهم/ دائماً” (ص11)، فلا أثر للاحتمال أو الظن أو الترجيح فالشاعر يضمن – بيقينية – أن كل شىء سوف يأتى – دائماً – بمجرد الحصول على النافذة هذه النافذة التى تمثل أداة رؤيته للعالم واستشرافه لآفاقه وليس عجيباً أن يقول الشاعر فى موضع آخر:”أنا لا أملك من حطام الدنيا سوى عينين ونافذة / أرى بهما العالم الذى يدور فى رأسي” مرة أخرى نجدنا أمام الحسي المباشر المدرك بالعينين والخيالي التصوري الذى يدور فى رأس الشاعر ويخلعه على العالم، وما بينهما من نوافذ تؤكد هذه الصلة الدائمة بين هذين المستويين.
الحقيقة أن مفردة “النافذة” محورية فى هذا الديوان، ولهذا فهي تعد – فى مستوى آخر – ذات بعد اجتماعي فهناك النوافذ الواطئة القريبة من الأرض، وهناك النوافذ العالية التي تدل على وضعية اجتماعية متميزة، وهكذا تصبح النوافذ مجازاً دالاً على أصحابها، كما تصبح نهاياتها شبيهة بنهايات البشر بل – أحياناً – ما تتجاوز أصحابها، وتكون أكثر حميمية فى علاقة الشاعر بها حين يقول: “خسرتُ عشيقات كثيرات / لأن نوافذهن كانت أقل جمالاً من سيقانهن / تفهمنى النوافذ أكثر / حين أحل ضيفاً عليها / تعاملنى بأخوة وصبر/ تعلمني كيف أفتحها لتكشف البحر لي / وكيف أغلقها لأبكي”، ومابين الفتح والإغلاق أو الكشف والتخفي أو الانفتاح والانطواء، تتشكل حياة الشاعر خلف هذه النوافذ، وفى السياق نفسه تأتي مفردة “الشرفات” مرتبطة بإرث وجداني قديم منذ شرفة “جوليت” وشرفة “ليلى مراد” تمثيلاً وتلعب الذاكرة دورها فى استدعاء هذا الإرث المرتبط بالألم شأنها – أقصد هذه الذاكرة – شأن مثيرات الواقع وفاعلية المخيلة التى تزرع السماء بالقلوب المرسومة، بينما الشاعر عاجز عن إطلاق روحه :”ليس سهلاً/ أن ترى السماء مزروعة / بقلوب رسمتها يداك/ وأنت عاجز عن إطلاق روحك”، هكذا تدخل مفردة اليد مبدعة القصائد متجاوبة ومتكاملة مع دال “العينين” بوصفهما أداة معاينة الواقع، هذه اليد التى تتحول – فى مخيلة الشاعر – إلى “طائرة تحمل فوق متنها أروع القصائد”.
الديوان – بصورة عامة – يوظف آليات السرد، كما فى “علق ابتسامته فى الشرفة …ومات”، وهو سرد يستفيد من المأثورات الشعبية التى يتم تناقلها حول كرامات بعض الموتى، حيث ظلت روح “مفتش الآثار التعيس/ تلوح لليمام فى السماء رغم أنهم كفنوه / قبل خمسة عشر عاماً” كما يوظف تقنيات الصورة المشهدية على نحو ما يبدو فى قصيدة “رضيع” التى تصنع مفارقة بين النساء الثكلى والرجال الواجمين من جانب، وذلك الطفل الرضيع الذى يعصر – غاضباً – ثدي أمه إن صفة الغضب – هنا – هى الصفة الفارقة بين الحالتين، وكأن الشاعر يستشرف الغضب القادم الذى يتجاوز وجوم وسكينة الحالة الراهنة.
وأخيراً يمكن الإشارة إلى توظيف بنية القصيدة العنقودية التى تتكون من مقاطع تقوم على الانفصال والاتصال معاً حيث يمكن قراءة كل مقطع كبنية مستقلة دون أن يمنع ذلك من اتصالها – دلالياً – مع المقاطع الأخرى، وقد ظهر ذلك فى قصيدة “وجه أبي” التي تتكون من سبعة مقاطع أشبه بالتوقيعات الشعورية، حول علاقة الشاعر بأبيه، الذي جسد له أغلب دلالات هذا الديوان المتميز.
……………………
- ـ “الأيام حين تعبر خائفة” محمود خير الله، ص21، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2018) .