العيش تمرداً

نزار آغري
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

نزار آغري

جعل إيتالو كالفينو الشخصية الرئيسية في إحدى رواياته تتمرد على سلطة الأب، برفض العيش في البيت مع باقي أفراد العائلة.

هذا ما فعله الصبي كوزيمو، بطل رواية ”البارون الجاثم“. تسلق شجرة البلوط  في باحة الدار. الشجرة الضخمة التي تحتل مساحة كبيرة وتمد أغصانها حتى تلتقي بالأشجار التي تجاورها لتشكل معها ما يشبه بساطاً من الغصون والأوراق.

اتخذ كوزيمو من الشجرة مسكناً يؤويه فاستقر فيه. صارت الشجرة بيته. حجره الصحي، بعبارة أيام الكورونا التي نعيشها الآن، بعيداً عن والده القاسي، وأمه الفاقدة الشخصية وأخيه الذليل وأخته المغلوبة على أمرها. ولكن أيضاً بعيداً عن كل الناس.

هناك في الأعلى، فوق الشجرة، أقام مملكته الخاصة، مرة وإلى آخر يوم من عمره.

ولكن لماذا فعل كوزيمو ذلك؟

فعل ذلك لأنه لم يتحمل عنجهية الأب ولم يستطع العيش في ظل أوامره وقوانينه العسكرية (كان الوالد جنرالاً صارماً ومن صفوة الطبقة الإرستقراطية ذات التقاليد البروسية، الكاثوليكية المتشددة).

المرة الأخيرة التي جلس فيها الصبي، مع أخيه وأخته، وتحت أنظار الأب والأم، كانت في يوم من أيام يونيو عام 1767.

جاءت الأخت بطبق الغداء. الأخت هي التي تهيأ الطعام لأن الأب فرض عليها الإقامة الجبرية في البيت بعد أن رأته تتكلم مع إبن الجيران.

هي أيضاً تعيش، إذن، في حجر صحي، رغماً عنها.

ما هو الطبق؟ إنه ذاك الذي يخلق النفور عند كوزيمو: حساء الحلزون.

يا للقرف. هذه هي، بالنسبة لكوزيمو، القطرة التي فاضت بها الكأس.

سيتمرد الآن لأنه لم يعد يستطيع الصبر.

(هناك حلزون وهنا خفاش. ألا يقولون أن أكل الخفاش هو الذي تسبب في انتشار الكورونا؟).

حين أعلن الأب البدء بطقوس تناول الغداء، تلك الطقوس الصارمة، المثيرة للسخط، رفض كوزيمو الاستجابة. أزاح طبق الحلزون جانباً.

انطلق إلى الباحة الخلفية. تسلق الشجرة.

أراد أن يحصن نفسه بالشجرة، بالعزلة، بما يشبه ”الحجر الصحي“، من أجل أن يتذوق الحرية. حرية العيش بعيداً عن سطوة الأب. فوق الشجرة، لن تكون ثمة سلطة لأحد عليه.

رفض كوزيمو النزول. رفض الدعوات، بما في ذلك دعوة أخيه وأخته.

مرت الأيام ومن ثم السنون وهو هناك، لا يتزحزح. يتنقل على الأشجار المتلاصقة، من ركن إلى ركن آخر. ماضياً في العيش بمزاجه، رافضاً أن تطأ قدماه الأرض أبداً.

إذا كان كوزيمو تمرد على سلطة الأب واعتزل العالم بالعيش فوق شجرة فإن لودو، الأنغولية، أرادت أن تتمرد على المجتمع كله وتعيش في شقة في بناية كبيرة وسط مدينة لوندا، عاصمة أنغولا.

نقرأ هذا في رواية ”نظرية عامة للنسيان“، للكاتب البرتغالي الشهير خوسيه إدواردو أغوالوسا. وهي الرواية التي صدرت عام 2012 ونالت جائزة دبلن ووصلت إلى القائمة الفصيرة لجائزة مان بوكر.

تصور الر واية العيش في أنغولا غداة الإستقلال عن البرتغال واستلام الشيوعيين مقاليد الحكم. على الفور تبدأ المطاردات والتصفيات وحملات الإعتقال والتعذيب بحق المعارضين ومن اتهموا بالوقوف مع المستعمر. جاء الكوبيون والروس وامتلأت الشوارع بالثوار من كل صنف . تكاثرت الدوريات والميليشيات وتعاظمت الإعدامات وتناثرت الجثث  وصارت الشعارات والخطابات والصرخات والهتافات هي الخبز اليومي للناس.

شعرت لودو بالقرف. قررت أن تتمرد على الواقع وترفضه. ولكن كيف؟ بالبقاء في البيت. بالعزلة. برفض الخروج لرؤية الناس والاختلاط بهم. فرضت على نفسها، هي الأخرى، ”حجراً صحياً“ طوعياً. مارست العصيان والتمرد على غرار كوزيمو.

المذياع هو سبيلها الوحيد للإطلاع على ما يجري في العالم الخارجي. تسمع الأخبار والأغاني والشعارات فتزداد سخطاً وغضباً: كل يوم تتردد في سمعها الكلمات البليدة: القوة للشعب. السلطة للجماهير. الطاعة للحزب. المسيرات التي تمر يوميا من تحت شرفتها تردد: المستقبل لنا. الحرية أو الموت.

ثم تتوالى جرائم القتل والتصفيات والإغتيالات. السجون تكتظ. المعارضون يختفون. يضيعون.

تخاف لودو من أن يقتحم أحدهم البيت. أن يقتلوها بأية حجة فالحجج كثيرة.

تبدأ في كتابة يومياتها. تبدأها بجملة: أنا خائفة.

هي خائفة مما يجري  في الخارج. خائفة من الأصوات. من الهتافات. من المسيرات. من الريح. من البعوض. خائفة من كل شيء. ثم أنها تصبح، شيئًا فشيئاً، غريبة عن البلد أو أن البلد في الواقع يصبح غريبًا عنها، ينفصل عنها وهي تنفصل عنه. تهيمن لغة وحيدة هي لغة الكتب الثورية التي لا تعني لها أي شيء.

في الليل تحلم. تتقاسم الأحلام مع الحيوانات الصغيرة والحشرات.

تحلم بأنها واحدة من هذه الحيوانات. كما لو كانت تتقاسم معها جسداً واحد وذاكرة مشتركة.

في أحد الأحلام رأت أنها كانت عنكبوتا وذبابة في آن واحد. كانت جانية وضحية. ثم تحولت إلى زهرة تتمايل مع الهواء وتمد عنقها للشمس.

لودو، مثل كوزيمو، تقضي الوقت في قراءة الكتب التي كانت رفوف مكتبة كبيرة في البيت.

في نهاية الأمر يتفتت النطام الإشتراكي. أولئك الذين كانوا يقودون المسيرات ويرفعون الصوت لنصرة الفقراء ويتحدثون عن الثورة ها هم يقودون سيارات باهظة الثمن ويرتادون النوادي الباذخة والمطاعم الفخمة.

ولد صغير يأتي لسرقة البيت، ولكنه يخلص لودو. يفك عزلتها. يحررها.

بقيت لودو أكثر من ثلاثين سنة في عزلتها إلى أن جاءها الولد فخرجت معه، وبقي كوزيمو أكثر من سبعين سنة على الشجرة إلى أن عبر منطاد من فوقه، فتسلقه، ومضى إلى الأعلى واختفى.

 

 

مقالات من نفس القسم