محمد جبعيتي*
ولا تَهِنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون
شاهدة قبر الشهيد كرم نافذ شريف المقادمة
شعرتُ بالهزيمة والمرارة فور أن لاح لي البيت بجدرانه المصفرَّة، وشبابيكه التي تثير الاشمئزاز. المكان أشبه بكابوس. بينما كنت أقترب من البيت، تعالت أصوات صراخ والدي وشتائمه في أذنَيّ، وأخذتْ تتجلَّى أمامي مشاهد الضرب والإهانات التي عانيتُ منها.
مسحتُ دمعًا سال من عينَيّ، وفكَّرت: ماذا لو كان لديَّ أبٌ طيِّبٌ أتذكَّره بالخير؟ تلك الأسئلة التي تبدأ بـ”ماذا لو” هي من ابتكار الشيطان بالتأكيد، لأنَّها لا تجلب إلَّا الندم والحسرة. ماذا لو وُلِدتُ في بلدٍ آخر؟ ماذا لو لم أعرف رياضة الباركور؟ ماذا لو لم أعشق سارة؟
بينما كنت أتمعَّن في بيتنا، فكَّرتُ في العودة المهينة إلى حظيرة والدي، وارتسمتْ في خيالي ابتسامته المنتصرة.
أحاول النسيان، لكنِّي أذهب عميقًا في التذكُّر. النسيان كلامٌ فارغ. أعرف جرحي تمامًا، ولا أستطيع مداواته. بإمكاني أن أشير إليه من بعيد، غير أنِّي لا أجرؤ على كشف الغائر فيه. الجرح عشُّ دبابير. أدركتُ أخيرًا أنِّي عاجزٌ عن تغيير قواعد اللعبة؛ لا يمكنني دفع أحجار الشطرنج بعصا البلياردو، ولا أن أركض في الماراثون بعُكَّازي.
وجدتُ أنَّ أفراد عائلتي قد غاصوا في عزلةٍ عميقةٍ وقاسية، لا تقتصر على علاقتهم بأهل المخيَّم، بل تنسحب إلى علاقتهم ببعضهم البعض. بدا كلُّ واحدٍ منهم غارقًا في همومه وأوهامه، يعيش في صمتٍ متواصل، حتى هيمن على البيت هدوءٌ سميك، بعد أن كانت أصوات شجاراتنا وشتائمنا وضحكنا تملأ الحيّ.
كانت أمِّي جالسةً على عتبة الباب، تنتظرني أو تنتظر أخي. عانقتني بحرارة، وتفقدتْ صدري وذراعَيَّ كأنَّها تبحث عن أثر طلقةٍ أو شظيَّة. ربَّما اختلط عليها الأمر، وظنَّت أنَّني أخي. سارتْ بمحاذاتي حتى جلستُ على كنبة الصالون. تأمَّلتُ البيت متفقِّدًا التغييرات التي طرأت عليه في غيابي.
كنسَتْ أخواتي البيت، وشطفن الأرضيَّة بالمعطِّرات، وفرشن السجاجيد ملوَّنة الزخارف، ومسحن الغبار عن الأثاث. لم تمنعني المنظِّفات من استنشاق رائحة الماضي التي تفوح من كلِّ زاوية؛ مزيجٌ من رطوبة الجدران المخنوقة، وعفونة الوسائد، ودخان البخُّور. بقي كلُّ شيءٍ على حاله، ولم يجلب والدي أثاثًا جديدًا رغم الأموال الطائلة التي كسبها.
كان البيت فارغًا إلَّا من أمِّي وأخواتي الثلاث. تزوَّجتْ أختي هديل خلال فترة غيابي، ورحلتْ من سجن والدها إلى سجن زوجها.
استقبلتني أمِّي بحرارة. عانقتني بإفراط، وأخذتني من ذراعي، وأجلستني على الكنبة القريبة من شبَّاك الصالون. تأمَّلتني بنظراتٍ حزينة، وعيناها المتعبتان تبوحان بعبارات التأنيب. سألتُها عن حالها. من الواضح أنَّها مُرهَقةٌ ولا طاقة لها على الحديث. أجابتني بنبرةٍ ملؤها القناعة والرضا.
وجدتُّها متشبِّثةً بعزلتها. يئستِ الجارات من زيارتها لهم، بعد أن أتين إليها أكثر من مرَّة. تستقبلهنَّ ببرود، ثم تدخل إلى غرفتها لتتولَّى أخواتي تقديم الضيافة حتى ينصرفن. يأتين لزيارتنا من باب الواجب، ويُذكِّرن أمِّي بسنوات قوَّتها وصمودها. وحدها جارتنا العجوز، التي أحبَّت أمِّي وعاملتها كأختها الصغيرة، ظلَّت تؤنسها وترفع من معنوياتها.
تأتي كلَّ صباحٍ لتشرب معها القهوة، وتساعد أخواتي في تنقية العدس، أو قطف ورق الملوخيَّة، أو تفصيص الثوم. لا تتحدَّث معها أمِّي إلَّا عن ولدها، وفي كلِّ مرَّةٍ تصغي إليها العجوز كأنَّها المرَّة الأولى.
ظلَّت تدور في غرفتها كلَّ ليلة، تهمس باسم ابنها وتسأل عنه. مرَّت السنوات وهي تنتظر عودته لتطبخ له الطبخة التي يحبُّها. أقسمتْ ألَّا ترتدي الأقمشة المطرَّزة حتى تُزيِّن عينَيْها بقدومه.
اشتعلتْ في داخلها حربٌ صامتة، ولم تغادرها الظنون. صارت نحيفةً بوجهٍ دقيقٍ نحته المرض والوجع. كلَّت عيناها من فرط البكاء، وأصابت يدها رعشةٌ لا تتوقَّف. اعتادت الجلوس بعد العصر تحت شجرة الحوش تشرب الشاي، وتحدِّق في السماء بحزن. بقيتْ متشبِّثةً بفكرة حياة ابنها أكثر من موته، تتحدَّث إليه كأنَّه جالسٌ بجانبها. توقَّف زمنها لحظة اختفائه؛ لا تفكِّر بشيء، ولا تحنُّ إلى شيء. رائحته وصورته تثقلان ذاكرتها وحدهما.
كانت الطيور الوديعة تفزع لدى دخولي وتهرب إلى أقفاصها. تنكمش، مترقِّبةً بخوف، فيما تطمئنُّ عند رؤية أمِّي حاملةً صحن شعير. تمشِّط الأرض باحثةً عن فُتات حبوب، بينما تجلس أمِّي على سحَّارةٍ خشبيَّةٍ تتحرَّى السماء. لعلَّ الحمامة سلمى تعود! مسكينة، كيف تُدبِّر أمورها؟ أتراها وجدت مكانًا أكثر أمانًا؟
تُطِيل النظر إلى الأفق البعيد. تبدو في عالمٍ آخر، وعندما تتعب تهبط بعينَيْها إلى الأرض، وتمسح بأصابعها دمعًا سال على خدَّيْها، فيهدل الحمام هديلًا شجيًّا يؤنسها ويبدِّد وحدتها. هي لا تبكي الحمامة، بل ولدها الذي لا تملُّ انتظاره، على أمل لقاءٍ قريب، فقد طال غيابه.
كانت واثقةً من عودتهما، مهما طالت غيبتهما، لأنَّهما وفيَّان إلى عشِّهما الأوَّل، لكنَّ الشوق ظلَّ يأكل قلبها. »سيعود الوفيُّ لتملأ ضحكاته البيت… لا يستطيع الغالي العيشَ بعيدًا عنِّي«، عكفت تهمس بهذا للطيور، التي تصطفُّ أمامها مصغيةً بخشوع.
بودِّها أن تحمل الحمام إلى داخل الدار لتعتني به، لأنَّها تعرف كم يحبُّ أحمد هذه الطيور. سوف يعود لأنَّه لا يقدر على العيش بعيدًا عن طيوره. أخذتْ تترنَّم بأهازيج ساحرة. أنا أيضًا أشتاق إلى أخي، رغم ماضينا الذي لا أرغب في تذكُّره، باستثناء فُتات ذكريات. أفهم الآن ماذا يعني أن أكون بلا سند، حين تتكاثر الذئاب حولي.
خفتُ أن أقول لها الحقيقة التي يؤمن بها أهل المخيَّم، ويحاولون تجاهلها بسبب بشاعتها، فيتعايشون مع فكرة المصير المجهول على أملٍ واهن، إذ لا جثَّة تعود من وراء الحدود بعد اختطافها.
يعرفون أيضًا أنَّ الاحتلال يسرق أعضاء الشهداء وأنسجتهم وجلودهم، لزراعتها في أجساد مرضى يهود، ولإجراء الأبحاث عليها في كلِّيَّات الطبّ، قبل أن يتخلَّصوا من جثامينهم فيما يسمَّى بمقابر الأرقام.
بعد أن تكاثرت الحروب المدمِّرة، بدأتْ أمِّي بمساعدة الناس في خياطة جثث أحبَّائهم الممزَّقة. كانوا يُحضرونها في حقائب أو أكياس خيش، ولا يعرف أحدٌ إنجاز المهمَّة غيرها، لأنَّها تحتاج إلى مهارةٍ وجرأةٍ يفتقدها كثيرون. الجثث التي انفصلت رؤوسها، أو قُطِعَت أطرافها، أو بُقِرَت أحشاؤها، تُنهي خياطتها بسرعة، بخلاف تلك الممزَّقة والمحروقة.
بات تجميع الأشلاء معركتها الرمزيَّة ضدَّ قتلة ابنها. مرَّت من بين يديها المعروقتَيْن اليابستَيْن عشرات الجثث. كانت سعادة الأهل كبيرةً بتجميع جثث أبنائهم المُقطَّعة، وكانوا يُثنون على عملها قائلين إنَّه معجزة.
أما أنا، فقد تصالحتُ مع فكرة موت أخي. تخيَّلتُ جثَّته الباردة مسودَّة الجلد، أطرافها متيبِّسة، مخاطة البطن بغرزٍ لا نهاية لها، وقد حُشِيَت فتحاتها بالقطن الأبيض. قلبه وكليتاه وبقيَّة أعضاء جسمه وزِّعَت على قاتليه. هذا كلُّ شيء، لينتهي أمر ما بقي من أخي في مقبرة الأرقام.
سأعمل حتى تعتدل الأمور. لن أترك أمِّي تحتاج أحدًا. تكفيها الهموم التي تحاصرها كلَّ ليلة فتبلِّل خدَّيْها، وتحوِّل صدرها إلى بقايا قشٍّ محروق. أخبرتني أنَّ والدي تزوَّج عليها، وأصبح يُقيم في حيِّ تلِّ الهوى. أضافت بألم، بينما الدموع تسيل على خدَّيْها:
“تزوَّج فتاةً بعمر بناته. في هذا العمر! بدل أن يتفرَّغ للعبادة إلى أن يلقى ربَّه! يا خسارة السنوات التي أمضيتُها في خدمته. المسكينة، أجبرها والدها على الزواج منه، بلا أيِّ مراسم احتفال، بحجَّة الحداد على الشهداء. الأَولى أن يفكِّر في تزويج بناته. جاء أكثر من عريسٍ لرؤية أختكَ ريم، لكنَّهم لم يجدوا رجلًا في البيت”.
لم أتخيَّلها يومًا في فستان الزفاف. تصوَّرتُها زعيمة عصابةٍ من الفتيات المشاغبات، تمضي حياتها تفقأ بثور وجهها البيضاء، لأنَّها كانت كثيرة البثور، وتجد متعةً فائقةً في فقئها، لدرجة أنَّ وجهها صار مُحفَّرًا.
بخلاف أختي شروق، التي تفوح منها روائح العطور ومستحضرات التجميل، كانت ريم قذرةً ولا تهتمُّ بنفسها. تفوح منها رائحةٌ خانقة، هي مزيجٌ من الرطوبة ورائحة البصل العفن. تُطلِق من دون خجلٍ ريحًا عنيفةً كريهة الرائحة في أيِّ مكانٍ توجد فيه.
أخبرتْها إحدى نساء الحارة، التي لها مكانةٌ طبِّيَّةٌ مرموقة، استحقَّتْها بعد تغلُّبها على عشرات الأمراض عبر وصفاتٍ عُشبيَّة، أنَّها تعاني من مرضٍ مزمنٍ في أمعائها. إنَّ حبس الغازات سيؤدِّي إلى انتفاخها، ثم انفجارها مثل بالون. وفي اختراعٍ عبقريّ، حضَّرت لها أعشابًا تجعل ضرطاتها من دون رائحة. هكذا استمرَّت ريم في إطلاق قذائفها المدوِّية، مستخدمةً إيَّاها لتفريق الفتيات اللواتي يضايقنها.
كانت تجد متعةً كبيرةً في إطلاق الريح. لا شيء عندها يفوق لذَّة تلك اللحظة، خصوصًا إذا كانت بطنها ممتلئةً بالغازات. اندفاع الهواء بعد فترة احتباس، يمنحها شعورًا عارمًا بالنشوة.
أطلقتْ ضرطتها الموسيقيَّة الأولى في حصَّة الأخلاق. كان الهدوء مسيطرًا لحظتها على غرفة الصفّ، يقطعه فقط صوت المعلِّمة هدى، التي تُضمَّن كلمة شسمو”شسمو” في كلِّ جملة. احمرَّ وجهها، بينما انفجرتْ زميلاتها في ضحكٍ هستيريّ. ما كان مميَّزًا في تلك الضرطة أنَّها لم تكن كغيرها من الضرطات التي سمعنها أو تخيَّلنها، فلكلِّ إنسانٍ ضرطةٌ فريدة، مثل بصمة الإصبع تمامًا. فيما بعد، طوَّرت ريم مهارتها، حتى صارت قادرة على تلحين ضرطاتها.
كان رفضها للزواج موقفًا راديكاليًّا، لا أدري كيف نشأ، لكنَّها لم تتراجع عنه رغم محاولات الإقناع الماراثونيَّة، والمغريات ولحظات الضعف التي قد تدفع امرأةً وحيدةً إلى هذا القرار. ذات مرَّة، عندما أحسَّتْ بأنَّ الخطر يقترب جديًّا، وقفتْ وسط الصالون أمام أهل العريس والسكِّين في يدها. كنت واقفًا عند الباب، أراقب المشهد بعينَيْن جامدتَيْن وأنا أحبس أنفاسي.
وضعتِ السكِّين على رقبتها، تصرخ وتهدِّد بذبح نفسها: »أنا مجنونة بتعرفونيش… واللَّـه بذبح حالي «. ثم قدَّمت خطابًا مقتضبًا، غريبًا، قبل أن تشرع في صرخاتها الهستيريَّة: »الزواج مجرَّد قفصٍ مقرفٍ مزيَّنٍ بالزهور! نعم، والعصافير الغبيَّة تحبس نفسها في حفلٍ مريعٍ أبديّ، أليس كذلك؟ ها! ثم هناك قشور أحلامهنَّ التي تتساقط في الزوايا المظلمة. لماذا يتسابق الجميع إلى هذه اللعبة المقرفة، وأنا أغوص في أفكاري مثل سمكةٍ تتنفَّس تحت الماء، محاطةً برائحة المجاري؟ تلك الضغوط؛ من العائلة، من كلِّ مكان. لا أدري… لن يقرِّر أحدٌ مصيري. لا، ليس بعد الآن. مستحيلٌ أن يسمحوا لنا بالتفكير. إنَّهم يسيطرون على كلِّ شيء. ولكن لديَّ سؤالٌ واحدٌ فقط: أنتزوَّج في هذه الحظيرة؟«.
هرب أهل العريس قبل وقوع مصيبة.
ـ هل يزوركم؟
ـ جاء مرَّةً في الأسبوع الماضي، وليتنا لم نرَ وجهه. اللَّـه يكسر يده.
ـ ماذا فعل؟
أطرقت أمِّي رأسها خجلًا، لا تدري ماذا تقول.
ـ فضحنا هذا المعتوه. إنَّه لا يتوقَّف عن أفعاله المشينة.
تدخَّلت ريم قائلة:
ـ ضربها! نعم، ضربها بعنف!
نهضتُ من مكاني غاضبًا ودخلتُ الحوش. أمسكتُ بفأس الحفر، ثم وقفتُ أمام أمِّي متوعِّدًا:
ـ أعدك بأنَّه لن يجرؤ على تكرارها.
هرعتْ أخواتي يتشبَّثن بملابسي، ويتوسَّلن إليَّ أن أتوقَّف، بينما سدَّت أمِّي الباب بذراعَيْها تستحلفني ألَّا أخرج من البيت.
ـ لمن ستتركنا؟ أتريد أن تُدمِّر حياتكَ ومستقبل أخواتك؟ ألا يكفينا أخوك الذي لا ندري مصيره؟ يا رب! ما هذا البلاء؟
بكت بحرقة، فعُدتُ إلى الجلوس معهنّ. عرفتُ تفاصيل الواقعة وما تلاها. غضب والدي لصراخ أمِّي وتوبيخها له بسبب زواجه المفاجئ. بعد ضربه لها، علَّقت الأشياء التي يستخدمها في الشعوذة، مثل جدائل الشعر وعظام الحيوانات، على باب الدار، ثم أحرقتْ عباءاته وأغراضه الشخصيَّة أمام أهل الحيّ.
قلتُ لأمِّي، وأنا أهمُّ بالذهاب إلى غرفتي:
ـ لن تحتاجوا شيئًا، سأساعدكم في مصروف البيت.
ـ أختكَ ريم وجدتْ عملًا في مشغل خياطة. حتى وإن أصبحنا أكثر أهل المخيَّم فقرًا، لن نفكِّر أبدًا في مدِّ أيدينا للناس.
ـ أنا رجل البيت، لا تسمحي لها بالذهاب إلى المشغل.
ـ تزداد حالة أختكَ هناء سوءًا. صارت هيكلًا عظميًّا، حتى إنَّها توقَّفت عن تحريك عينَيْها.
لمَّا اكتفتْ من الجلوس معي، نهضتْ إلى المطبخ لتتفقَّد طنجرة ورق العنب التي تركتْها على نار الموقد، ووعدتني أن تطبخ لي طبختي المفضَّلة.
ـ سأطبخ غدًا السماقيَّة التي تحبُّها.
عندما دخلتُ غرفة أخواتي لأرى هناء، وجدتُها منهكة، متخشِّبة، لا يبدو فيها أثرٌ للحياة. لولا أنَّها تتنفَّس لحسبتُها ميِّتة. رغم أنَّنا لم نتحدَّث، وليس بيننا ذكريات، ولا أحبُّ الجلوس إليها لأنَّها تُذكِّرني بحياتي المعطوبة، إلَّا أنَّها تظلُّ أختي، وأحبُّها كما أحبُّ بقيَّة أخواتي.
فتحتْ شروق الهدايا التي أحضرتُها معي إلى البيت، واطَّلعت عليها: أمشاط، زجاجات عطر، شالاتٌ ملوَّنة، ومسجِّلة موسيقى لأختي الصغرى.
تعتني بنفسها أشدَّ العناية رغم الظروف الحالكة، وتحرص على ارتداء أجمل الثياب المتوفِّرة، وتُسرِّح شعرها وتُلمِّعه بزيت الصبَّار، وتضع أحمر الشفاه.
أعترف أنَّ أختي الصغرى، شروق، أجمل بنتٍ في المخيَّم. كثيرًا ما سمعتُ النساء اللواتي يأتين لزيارة أمِّي يتغزَّلن بجمالها، ويقُلن لها بجرأة، وهُنَّ يُحاصرنها بنظراتهنَّ المتفحِّصة»: ما شاء اللَّـه، صرتي عروس! بتقولي للقمر قوم وأنا بقعد مكانك«، و»إن كنت عايز قصب مص مصُّه من الوسط، وإن كنت عايز تخطب أخطب الرفيعة من الوسط «، فتحمرُّ وجنتاها خجلًا، وتبتسم مجامَلة.
كانت أمِّي تكلِّف أخواتي الأخريات بأعمال البيت، ولا تطلب من شروق إلَّا نادرًا تنظيف المطبخ، أو غسل الأواني، أو نشر الغسيل. ظلَّ ترتيب غرفتها مسؤوليَّتها الوحيدة، لذلك حافظتْ على يدَيْها ناعمتَيْن ونظيفتَيْن، وعلى نضارة وجهها المكتنز وافر الصحَّة.
نصحتُها أن تتزوَّج بمن يدقُّ له قلبها وتقتنع به، وألَّا تُضيِّع فرصة عروسٍ جيِّدٍ يُخرِجها من البيت: »لا تبقي في هذا الجحيم«، بقيتُ أقول لها. لمَّا بلغتِ الصفَّ الثامن، بدأ الخطَّاب بطرق باب بيتنا. تقدَّم لها متعلِّمون، وأبناء تجَّار، وأصحاب مهن، لكنَّ والدي، ويا لغرابة موقفه، رفض تزويجها، قائلًا إنَّها صغيرة: «» »ابنتي ليست سلعةً أبيعها، ولم أجدها في الشارع لأرمي بها لأوَّل عابر«. فكَّرت بأنَّه ربَّما كان ينتظر صيدًا أثمن.
كنت أصادف الراغبين بالزواج منها، الذين رفضهم والدي، يطوفون حول البيت، لعلَّهم يصادفونها، ويتنعَّمون بنظرةٍ من عينَيْها الساحرتَيْن، فأدلف إلى الحوش الداخليِّ وأُحضِر عصا غليظة، ألاحقهم بها حتى مدخل المخيَّم.
أحببتُها أكثر من سائر أخواتي. كانت حنونًا ورقيقة، مثل أغنيةٍ هادئة الألحان. بعد وفاة زكريَّا، صديقي المُقرَّب وحبيبها، صارت كثيرة الصمت والشرود، تتأمَّل حياتها الخاوية. لم يغادر حياتها، ظلَّ يظهر كشبحٍ يزورها في كلِّ وقت، وفي كلِّ مكان.
أراها تتحدَّث إلى الفراغ، فأظنُّ أنَّها تشرع بأحاديث سخيفةٍ مع نفسها، لكنِّي ذات مرَّةٍ رأيتُها وسط الصالون، تقف بمحاذاة الكنبة الوسطى، وتشير بسبَّابتها صارخة: «زكريَّا، أيُّها الوغد، ألم تَعِدني بالبقاء معي؟ لماذا رحلت؟». من حسن حظِّها أنَّ أمِّي كانت تغطُّ في قيلولتها، ولم يكن أبي موجودًا في البيت.
لم يتوقَّف الشبح عن زيارتها، وصارت تزداد نحولًا بعد كلِّ زيارة. رفدها الحب بأكثر الأحاسيس مأساويَّة، كالشوق والحنين والفقد. أمَّا أنا، فانشغلتُ بمعاركي الكثيرة مع الحياة ونسيتُها، نسيتُ وردة البيت التي ذبلتْ على مهل.
أضحت غير مرئيَّة، تختفي في غرفتها لأيَّام، لا ينتبه لغيابها أحدٌ سوى أمِّي. لا أتذكَّر آخر سفرة طعامٍ جمعتْنا. أمضتِ الفترة الأخيرة، قبل رحيلي عن البيت، داخل غرفتها، تخرج منها فقط للضرورة. جعلتْ من الغرفة حبسها الاختياريّ.
عذَّبني ضميري لمَّا انتبهتُ إلى أنَّني لم أنادِها باسمها منذ فترةٍ طويلة. هالتني فكرة أنَّني قد أكون نسخةً مصغَّرةً عن والدي، وتفتَّقت عن هذه الفكرة أفكارٌ أخرى بصقتْ بشاعتها في وجهي.
عندما سألتُها عن مكان ريم، سمعتُ الإجابة التي توقَّعتُها. كانت جالسةً في الحوش تتحدَّث إلى الطيور. وقفتُ بباب الحوش ونظرتُ إليها. لم تنتبه إليّ؛ كانت تسند رأسها بيدَيْها، وعيناها مشدودتان إلى طيورها.
لم تُصدر هديلًا أو أصواتًا غريبة. كانت تتواصل مع الطيور بالكلام، بينما تهدل الطيور بأصواتها الشجيَّة. كلاهما كانتا قادرتَيْن على فكِّ شيفرة ما تقوله الأخرى. قد يبدو أنَّها تتحدَّث إلى نفسها لولا الحمامة التي تقف منتصبةً أمام وجهها، وتردُّ على كلامها بالهديل.
ـ أخبريني، صحيح، بالقصَّة من بدايتها.
فتشرع الحمامة بسرد قصَّتها.
ـ ماذا حدث بعد ذلك؟
ويعود هديلها من جديد، مع هزَّاتٍ متتابعةٍ من رأسها الصغير.
ـ هذا ما ظننتُه. لم تكونا على وفاقٍ منذ البداية.
يستمرُّ الحوار بين أختي والحمامة نحو نصف ساعة، ثم تنهض ماضيةً إلى غرفتها بهدوء. هذه المرَّة طرقتْ باب غرفتي، فأنرتُ الأضواء وجلسنا على كرسيَّيْن متقابلَيْن بمحاذاة النافذة. تأمَّلتُ الحوش الذي أصبح أكثر وحشة. لطالما جريتُ فيه مطاردًا فراشات الربيع، قافزًا فوق أكوام الحطب. لم أعرف حينها لعبة» الباركور«، ولا حفر القبور. كنت ألعب، وأحلم بجناحَيْن يطيران بي خارج المخيَّم.
ـ أما زلتِ تتحدَّثين إلى الطيور؟ هذه موهبةٌ استثنائيَّة، لا بدَّ لكِ من استغلالها.
تتحرَّك ببطء، كما أنَّ استجابتها لكلامي تحتاج إلى وقت. يبدو أنَّ صوتي يصل إليها بصعوبة، ثم يتحوَّل إلى مجرَّد أصداء.
ـ موهبتي خفَّاشٌ في ظلام الليل، لا يراها سواي. يظنُّ الجميع أنَّني مجنونة.
ـ كلُّ الموهوبين مجانين. المهمُّ أن تحافظي على موهبتكِ وتطوِّريها، نحن نعيش في زمنٍ صعب.
ـ بماذا ستفيدني؟
– أتعرفين قصَّة هدهد سليمان الذي نقل له أخبار مملكة سبأ؟ قد تساعدك هذه الطيور، على الأقلّ، في النجاة بنفسك.
ـ لا أدري… لا يمكن الثقة بالمواهب.
ـ رغم ذلك، علينا أن نحافظ عليها قدر الإمكان.
ـ لا، لا. تهمُّني أكثر مراقبة الطيور، وتأمُّل طريقة حياتها. مواهب! أُفضِّل أن أعرف كيف تجد قوتها؟ كيف تبني أعشاشها؟ كيف تتواصل فيما بينها؟ كيف تتكيَّف مع الأحوال الجويَّة؟ إنَّني لا أكترث بغير هذه الطيور. لا يهمُّني أيُّ شيءٍ آخر.
ـ لطالما سألتُ نفسي: أين تذهب الطيور عندما ترزح الأرض تحت ثلج ثقيل؟
ـ للطيور أساليبها الغامضة. قُل لي: لماذا عدت؟ أأنتَ معتوه؟! هل الحياة أفضل في الخارج؟ أنا أخاف الخارج، لكنَّني أقول ربَّما يكون محتملًا.
ـ هذه أوهام. لا ينتظرني غير المزيد من التشرُّد والوحدة.
ماذا لو لم أولد في هذا المكان؟ كيف ستكون حياتي؟ في أيِّ مهنةٍ سأعمل؟ بدت شجرة الحوش أكثر ضخامة، بأغصانها الكثيفة التي تبعث في نفس الناظر شعورًا بالمهابة. كانت عاريةً من دون أوراق، وقد هجرتْها الطيور. إنَّها مثلي، مهجورةٌ ومُهمَلة.
خطر لي أنَّ والدي يعيش الآن حياته التي تعطَّش لعيشها دائمًا، فكلُّ حديثه عن الصبر على ابتلاءات الحياة لم يكن إلَّا أكاذيب يُغلِق بها أفواهنا. كان يقول لي، كلَّما اشتهيتُ شيئًا، إنَّ في الجنَّة ما هو أشهى وأطيب. ويُضيف: “لا تعوِّد معدتكَ على الملذَّات. اصبر، فهناك أناسٌ يموتون جوعًا. اشكر ربَّكَ لأنَّكَ لم تولد في أفريقيا، حيث النسور والضباع تتغذَّى على أجساد الأطفال الهزيلة”.
تخيَّلتُه جالسًا على أريكة الصالون، أمامه طاولةٌ مليئةٌ بأصناف الأطعمة والحلويات والفواكه، بينما زوجته الصغيرة، بيضاء البشرة، طويلة الشعر، تهزُّ أمامه ردفَيْها الممتلئَيْن. شعرتُ بالقرف لأنَّه جعلني أعيش في خدعةٍ كبيرة، اسمها الزهد.
في المساء، مررتُ بغرفة أمِّي. ما إن اجتزتُ الباب حتى لفحتني رائحة أنفاسها المتعَبة، رائحة الضعف والحزن. لمَّا رأتني ارتسم على وجهها طيف ابتسامة. جلستُ على كرسيٍّ بمحاذاتها، وأمسكتُ يدها التي تُمرِّر حبَّات المسبحة بين أصابعها. انتبهتُ إلى ثياب أخي قربها، لا بدَّ أنَّها تشمَّمتها قبل دخولي، وهي تنشج كطفلة.
كانت قد انتهت من الاستماع إلى إذاعةٍ محلِّيَّة، تبثُّ برنامج “إهداءات الأسرى”، التي يرسل فيها أهالي الأسرى تحيَّاتهم إلى أبنائهم.
ـ كيف حالك؟
رشقتْ نظراتها في السقف، وبدت كأنَّها ستلهج بدعاء. التفتت نحوي بعينَيْن على وشك البكاء، طافحتَيْن بالعتاب والأسئلة القلقة.
ـ أين ولدي؟
بحلقتُ في وجهها بعينَيْن فارغتَيْن. ليس عندي جواب. كنت موقنًا بأنَّ أحمد صار واحدًا من الموتى، ولكن كيف أقطع حبل أملها الوحيد الذي يربطها بالحياة؟
ـ يمَّا!
ـ انشلع قلبي، مشتاقة أشوف وجهو.
سحبتْ يدها عن السرير، وقبضتْها على صدرها. اعتدلتْ في جلستها، ثم أجهشتْ بالبكاء. هبطتُ على ركبتَيَّ بمحاذاة سريرها، وأخذتُ يدها المرتعشة أقبِّلها:
ـ ببوس إيدك، ما تعملي هيك بحالك يمَّا!
………………………………….
*فصل من رواية “لا بريد إلى غزة” تصدر قريباً عن دار الآداب في بيروات
*محمد جبعيتي، روائي فلسطيني صدر له “الطاهي الذي التهم قلبه” (منشورات المتوسط، 2024)، و”عالم 9″ (الآداب، 2021)، و”غاسل صحون يقرأ شوبنهاور” (الآداب، 2018)، و”رجل واحد لأكثر من موت” (الفارابي، 2017).