العملاق

mustafa bayoumi
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

علي حسن

فقيرة تلك اللغة التي لا تٌنبت صبارًا أو ريحانًا على قلوب تآلفت، تحابت، انصهرت واندمجت حتى صارت قلبًا واحدًا ثم تفتتت على صخرة يسمونها سنة الحياة، مزقها جبروت الذي يطلقون عليه “الحقيقة الوحيدة” في هذه الدنيا! أحببت الأستاذ “مصطفى بيومي” كما لم أحب أحدًا بعد والدي، واستمعت إليه بشغف، تتلمذت على يديه دون أن يقصد هو ذلك أبدًا. أستمع إليه عبر الهاتف فأدون ما يقول بالحرف، اجتمع معه في صحبة دون ثالث، يشاطرنا المحبة والأنس والسمر، فتتحول ذاكرتي الهشة إلى حافظة واعية لكل كلمة نبس بها أستاذي، فأعود إلى بيتي ناثرًا كل ما رٌزقت به من اللآلئ والنفائس على صفحات أجندتي الأثيرة فلا تضيع هذه الكنوز أبدًا.
الأستاذ “مصطفى بيومي” هو الإنسان البسيط؛ “إنسان” بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان عظيمة وسمو جعل الله الملائكة تسجد له! إنسان لا حد لوضوحه، لا نهاية لعطائه، أديب عشق الكتابة، موسوعي أدمن القراءة، ناقد يزن حروفه بميزان الذهب، جاد حد الصرامة، متواضع دون ابتذال، اعتاد السكينة، يعشق الجمال، معطاء، ربما يجور على نفسه وحقه كثيرًا!
يقرأ ويكتب في خلوته المقدسة، ناسكًا متعبدًا، لا يروم إلا الصفاء والهدوء، لا يرجو من دنياه إلا أن يظل ممسكًا بقلمه، ليكتب حتى يلقى ربه! الكتابة شغفه، عشقه الأول والأخير، لا يسعى إلى مجد أو شهرة، يحترف الصمت، ينصت باهتمام، ينصح بإخلاص، لا يريد جزاءً ولا شكورا.
لا أستطيع أن أضع “كان” في جملة على شرفها يتربع الأستاذ هادئًا مطمئنًا. فليس إنصافًا أن نتجاوز في حق مَن أعطي كل سنوات عمره للفكر والإبداع والثقافة والوطن دون انتظار لمردود أو مكاسب أبدًا فنعده من “الأموات” وننكر خلوده!
“ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون” وأنا “علي حسن” أشهد الله على أن هذا الإنسان العظيم جاهد في سبيل الكلمة، بذل جٌل ماله من أجل الكتاب والثقافة، عمل بكل طاقته من أجل أمة يؤمن إيمانًا راسخًا بأنها “الأمة المصرية” تستحق كل ما هو أفضل وأعظم مما هي فيه.
لم يكتف العملاق “مصطفى بيومي” بطاقاته الجبارة في المثابرة والمداومة المذهلة على القراءة والكتابة في صومعته، فإذا به يتجاوز طاقته هذه إلى الحد الذي لم يحتمل بنيانه الضعيف وجسده الضئيل وعزوفه عن الطعام لساعات طويله، واكتفائه بالتدخين والكافايين من شاي وقهوة فانهار هذا الجسد ولم يصمد طويلًا أمام أحلام جباره ورغبات مهولة يريدهما صاحبه الجبار، ويطوق إلى تحقيقهما!
إنه الأستاذ مصطفى بيومي؛ الذي كتب الله لي أن أصبح أحد تلاميذه المخلصين، وهو ينكر أن له تلاميذ!
ليس لأنه لم يكن أستاذًا لكل الذين اقتربوا منه، ينهلون من علمه وأدبه وثقافته الموسوعية، وإنما لتواضعه،
حد إنكاره أنه أستاذ، له حواريون!
ينكر أستاذيته فيقول:
(…. ليس لي تلاميذ أبدًا. لم أفكر يومًا في هذا، بل ليست مطروحة في مخيلتي نهائيًا، بل العكس صحيح، لو أن هناك علاقة تجمع بيني وبين شخص، يصغرني بثلاثين عامًا في المجال الثقافي، فإني أتعلم منه، التعليم المتبادل هو الأصح والأهم. إذا تفوقت على هؤلاء الشباب بالقراءة والثقافة بحكم السن، فإن هؤلاء الصغار على وعي عظيم بإيقاع الحياة، لأنهم الأصغر سنًا، والأقدر على التكيف، وهي ميزة مهمة، ربما لا نستفيد منها. إن فكرة الأستاذية في المجال الأدبي أو النقدي، غير جيدة؛ ربما تكون مقبولة في المجال الأكاديمي، حين تناقش رسالة الماجستير أو الدكتوراه مع أستاذك، فتتأثر به وبفكره، مثل شكري عياد، لويس عوض، عز الدين إسماعيل، عبد المحسن طه بدر، كل هذه الأسماء العظيمة، تستطيع بحكم وظيفتها الأكاديمية، أن تمارس الأستاذية على طلابها داخل الجامعة، لكن نجيب محفوظ مثلًا، وهو مَن هو في الأدب والرواية، هل له تلاميذ؟ الحقيقة أن نجيب محفوظ أب كبير، والحقيقة أيضًا أنه يُخَرِّج لنا أبناء كثر، لكنهم مختلفون عنه، وهذا أعظم ما فيه. الخراب العظيم حين يحب الابن والده فيقلده؛ الأستاذ يعلم تلاميذه منهجًا، أساسه هو أنك لابد أن تكون مختلفًا عني. هذه هي تجربتي مع الأستاذ نجيب محفوظ، الذي أحبه جدًا، ولكن لم أفكر لحظة واحدة في تقليده.).
هذا هو فكر الأستاذ؛ الملتزم دائمًا بالإنسان، والمهموم بقيمته وإعلاء شأنه، لم يكن يومًا ملتزمًا بنظرية سياسية، أو قضية دينية، أو مذهب أخلاقي، أو شعارات، إن التزامه الوحيد ككاتب هو التزامه بالإنسان، ويؤمن أشد الإيمان بأن الإنسان مخلوق عظيم، في قوته وضعفه، جدير بالتعاطف أيًا كان وضعه.
تكمن عظمة الإنسان في هذا المزيج الفذ، خليط  القوة والضعف، فلا يوجد بشر معقمون، ماكينة ألمانية تمشي على قدمين دون خطأ أو عيب، فإذا أردت هذه النوعية من البشر، فأنت تسطح الشخصية الإنسانية!  
هذا الأديب العاشق للكتابة، هو في الحقيقة عاشق للتطهر؛ يرى الأزمات التي يحياها تفجر مجالًا للكتابة الجيدة، هذه الكتابات “الجيدة” تُعد نوعًا من العلاجات زهيدة الثمن. اندماج الكاتب في عمل أدبي جديد، هو نوع من التطهر، يحدث بالاندماج والكتابة. ربما هذه الكتابة لن تأتي بالمال والشهرة، لكنها تحدث إشباعًا لا مثيل له، يجعل الكاتب متوافقًا مع الحياة، قادرًا على المواصلة. التطهر الحادث بالكتابة، هو حائط صد ضد الأمراض النفسية، ونعمة عظيمة منحها الله لعدد قليل جدًا من الناس، هم الكتاب الحقيقيون، أما هؤلاء الذين لا يكتبون ولا يقرأون، هم مشغولون دائمًا بما يتعرضون له من أزمات، وشعور بالضعف وعدم القدرة على الصمود، على التأثير، على الاستيعاب والتحقق والاستمتاع بالحياة.
كيف سيقضي راهب الفكر والأدب حياته السرمدية دون أن يمارس الشيء الوحيد الذي عشقه في حياته؟
كيف سيصبر “مصطفى بيومي” على فراق كتابه وقلمه؟ كيف ستمر عليه الساعات والأيام دون أن يعيد قراءة “المسيح يصلب من جديد” و “الإخوة الأعداء”؟
أنا على يقين أن اللحظة الأولى للأستاذ “مصطفى بيومي” في عالمه الجديد الرحب السماوي، سوف يفتش عن أحبابه وأصدقائه، سوف ينادي على كازانتزاكيس، نجيب محفوظ، تشيخوف، يحيى حقي، النفري، يوسف إدريس، البحتري، صلاح جاهين. سوف يعيش معهم في صومعتهم، جنتهم، عالمهم السحري، سوف يقدمون إليه نخب الترحيب وسلامة الوصول، والانعتاق من عالم دنيوي أنوي مشوه!
أكاد أجزم بأن هؤلاء الأنبياء الأفذاذ يقودهم “أبو العلاء المعري” سوف يرقصون رقصة “زوربا” ترحيبًا بصديق لهم طال انتظارهم له. إنه حفل استقبال أسطوري لهذا الإنسان الوديع الفذ “مصطفى بيومي”، في أجواء شتوية يعشقها الأستاذ، وكم تمنى أن يكون العام كله “ديسمبر”.
أرى الآن بعيني الدامعتين “الأستاذ” بين أيديهم مرحبين به، يسألونه: “ماذا تحب أيها الصديق الذي طال انتظارنا له وتمنينا قدومه؟”.
وها أنا أسمع “الأستاذ” يجيبهم في خجله المعتاد قائلًا: لنبدأ بسورة “الجن” بصوت صديقي الأثير الشيخ “محمد رفعت” ثم نستمع إلى طقطوقة “يمامة بيضا” التي وضع فيها صديقي المصري اليهودي “داوود حسني” كل عصير الشجن الممكن تخيله، أسمعها بصوته إن أمكن، أو بصوت الست “منيرة المهدية” أو لصاحب الصوت الأجش الصادق الشيخ “زكريا أحمد”.. فأنا أحب “يمامة بيضا” لأنها تعبر عن الفقد الجميل، وأنا تركت في الدنيا أناس أحببتهم وأحبوني، أعتقد أنهم مثلكم يا رفاق، يشتاقون إليً كما كنتم تشتاقون إليً وزيادة!

مقالات من نفس القسم