العروس

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد الرحمن أقريش

كان ذلك الصيف حارا لا يطاق، ولحسن الحظ، كانت تلك الليلة استثنائية، ليلة هادئة وجميلة، تهب نسمات خفيفة عبر النوافذ المشرعة، تتحرك الستائر، يخيم هدوء ضاغط ورهيب، الموسيقى المنبعثة من الغرف الأخرى، الزغاريد، وبعض الضحكات المنفلتة، وحدها تشير إلى أنها مناسبة سعيدة.

يجلس (المامون) في مكان قصي من الغرفة الأنيقة، يفكر في التدخين، ولكنه أجل رغبته، فالمكان والزمان غير مناسبين، يشعر بالغربة والحرج، يشعر أنه وحيد ومحاصر بين كل هؤلاء، فهولا يعرف أحدا هنا، ولا أحد هنا يعرفه، ومع ذلك يشعر ببعض العزاء، فهو هنا إكراما لها، إكراما لعلاقتهما، إكراما لكل الأشياء الجميلة التي جمعتهما ذات يوم، لم يكن ممكنا أن يرفض طلبها، لا يريد، ولا يستطيع، فهو من هذا النوع الذي لا يتنكر لعلاقاته الماضية أبدا، القصص العاطفية الجميلة في نظره لها دوما فضائلها، عندما تنتهي تترك وراءها ذكرى طيبة، وحتى عندما تفشل، تترك وراءها آلاما وجراحا أقل.

يستعمل الكثيرون تعابير مسكوكة ومبتكرة كعنوان للعلاقات العاطفية التي تلوح في الأفق، بعضها غريب وغامض، بعضها طريف ومضحك، بعضها رومانسي ومهذب، وبعضها بذيء ومقرف، مثلا، صديقه (سي محمد) يستعمل كلمة (المحاولة)، فهي في نظره تلخص كل شيء، في إشارة إلى أن العلاقات العاطفية هي دوما محاولة، أو مغامرة مفتوحة على المجهول، بعضها ينجح، وبعضها الآخر يبوء بالفشل.

من جهته، يفضل (المامون) تعبيرا مركبا يصلح عنوانا لكتاب، (مشروع رؤية جديدة)، والحقيقة أن العنوانين معا يلخصان المسألة بشكل جيد، مع فارق أساسي، وهو أن (المامون) يعتبر أن العلاقات العاطفية ينبغي أن تكون دوما عميقة، مفعمة وصادقة، حتى عندما تكون عابرة…

يعترض (سي محمد)

– يبدو ذلك متناقضا !!

يجيب (المامون) بعفوية.

– متناقض، نعم، ولكنه عميق وحقيقي !!

أمسكته من يده، أطرقت تنظر إلى الأرض، ظلت صامتة للحظات، ثم نظرت في عينيه وكأنها تستعطفه.

قالت بصوت يمتزج فيه السؤال بالرجاء.

– ستحضر؟…لن تخذلني؟…سيكون هذا آخر شيء أطلبه منك !!

– نعم، سأفعل.

أجابها دون تفكير.

احتضنها برفق، احتضنته هي بقوة، أحس أنها تودعه.

يجلس العدلان، ينظر (المامون) إلى لباسهما التقليدي ووقارهما المصطنع، أحدهما ينظر للوثائق، يفحصها، العدل الآخر ينظر في السجل الضخم المفتوح أمامه، يحرر رؤوس أقلام يفترض أنها تشكل المسودة الأولى لعقد الزواج، يجلس العريسان على (السداري) متقاربين، ينظر العريس صامتا، يمثل الهدوء واللياقة، يعبث بخاتمه، ينظر الأب لابنته، يتأملها، تتملكه مشاعر غامضة، خليط يمتزج فيه الحب والفرح والخوف من المجهول، يفكر، يخاطبها بداخله.

– ينبغي أن تكوني قوية، لكي تكوني سعيدة ينبغي أن تكوني قوية…الحياة ليست دائما سهلة!!

يستعيد بداخله صورتها وهي ماتزال طفلة، ضفائرها المجدولة، تنورتها الملونة، كلماتها الأولى، جملها الأولى، خطواتها الخرقاء الأولى…

– آه من الزمن، تمضي الأيام والسنوات، يكبرون بسرعة، ونشيخ نحن بسرعة أكبر!!

بعد مقدمة طويلة عن المقاصد الشرعية للزواج، ودوره في التحصين والإنجاب وإكثار سواد الأمة، ينظر العدل جهة العروسين، يسألهما.

– ألديكما شروط معينة، تودان أن تنضاف إلى العقد؟

بقيا صامتين، أطرقت العروس، تنظر إلى خاتمها وكفيها المضمومتين، بدت غائبة وكأنها لم تسمع السؤال.

يرفع (المامون) بصره، ينظر إليها، يتأملها، بدا له الموقف غريبا، أحس وكأنما يراها لأول مرة، غابت الجرأة من عينيها الجميلتين، فجأة فقدت شجاعتها، فبدت خجولة ومترددة.

تردد العريس قليلا، ثم أجاب بصوت مرتجف.

– لا…ما من شروط.

آنذاك، تدخل والدها، رفع سبابته في حركة هادئة، نظر أولا إلى العدلين أمامه.

– أنا عندي شرط، وأود أن يكتب في العقد…

ثم التفت، نظر جهة العريس، رسم لحظة صمت، ثم خاطبه بصوت هادئ وحاسم.

– شوف يا بني، أنا ربيت هذه الفتاة، علمتها، وضحيت بالكثير من أجلها، وعملت جاهدا لتكون سيدة في المستوى ثقافة وتربية وسلوكا، وكما ترى فهي فتاة حرة لا ترتدي الحجاب، ولا أريدك أن تجبرها على ارتدائه في المستقبل، لا أريدك أن تجبرها على أمر لا ترتضيه !!

ابتسم (المامون)، نظر جهة الفتاة، ثم نظر جهة الأب، وخاطبه بداخله.

– لا عليك أيها الرجل العجوز، هي حرة بالفعل ومنطلقة من زمان، هي حرة رغم أنفك وأنف ذلك الشاب، هو الذي ينبغي أن يتعلم الطيران، هو من عليه التحرر من القيود التي تشده إلى الأرض وتكبله من كل جانب !!

تنمحي ابتسامة (المامون) ترتسم ثانية، تتسع، يستعيد بداخله ذلك الحوار الذي دار بينهما منذ سنوات.

ينصت هو، وتتحدث هي عن وضعية الفصام التي تعيشها يوميا بين البيت والشارع، تشتكي من قيود الأسرة، من رقابة الإخوة الذكور، من أمها التي تحبها بشكل مرضي أناني وضاغط، حب يخنقها، يكتم أنفاسها مثل كابوس رهيب، تشتكي بالخصوص من سلطة الأب التي يمتزج فيها الحب والخوف بالتجسس والرغبة في الضبط والتحكم.

تبتسم، ثم تطلق ضحكة غريبة ومختصرة، ضحكة هي مزيج من السخرية والألم.

– تصور في المرة الأخيرة، دخلت من الكلية مساء، وقف أخي الذي يصغرني بعشر سنوات، وقف منتصبا أمام الباب، نظر إلي، رفع سبابته مقلدا أخي الأكبر وسألني باتهام.

– فين كنت حتى لهذا الوقت؟ (أين تأخرت كل هذا الوقت؟)

ينظر إليها (المامون)، يبتسم، يخاطبها بصوت أراده هادئا ومعزيا.

– أنا أفهمهم، أتفهم الأب بالخصوص، أنت جميلة، وهو يفعل ذلك من باب الحرص والخوف عليك…

تبتسم معترضة.

– الله يهديه وخلاص، ما جدوى الحرص والخوف، أنا حرة، وأفعل ما أريد…

 

مقالات من نفس القسم