العجوزان والبازلاء
آية جمال
_يأتي صوت بائع البخور الذي يتجول في الشارع يومياً جليّا واضحاً وهو يحث الناس على الصلاة على النبي. اسمعه فأخرج من غرفتي وأختلس النظر إليه من شرفتي. أجده يرتدي بلوڤر شتوي أسود اللون وبنطالاً أزرق وحذاءاً لا تسطيع أن تحدد ما إذا كان لونه رمادي في الأساس أم أنه أكتسب هذا اللون بمرور الوقت. كان بائع البخور يضغط على حرف الياء بشكل ملحوظ بصوته الجهوري ويحني ظهره إلى الأمام كلما مرّ على شخص أكبر منه. أخرج من دوامتي لأجد رائحة البخور قد ملأت أنفي. والله لو شممت مئة رائحة لتعرفت على رائحة البخور تلك بسهولة..
_أبدأ في قراءة رواية ”العجوزان“* لأجد نفسي مأخوذة بالكلمات والتعابير الصادقة والحكايات الجميلة والبساطة التي أبحث عنها في كل شئ تقريباً. أقول لنفسي بصوت ظننته منخفضاً ”هذا هو العالم الذي أرغب في أن أعيش فيه ولو ليوم واحد“ . أنهي جملتي لأجد جارتي تنظر إليّ وتبستم لأبادلها إبتسامة خجلة. أعتدت حقيقة على ذلك. أصبحت متيقنة أن جيراني وكل من يمر من تحت شرفتي يظن أنني ”مجنونة“!
نحن في زمن أصبح فيه كل ما هو طبيعي وبسيط جنوناً وكل ما هو وقح وقذر كأنما هو عين العقل .
يذكرني ذلك بمشهد في فيلم هيستريا يحكي فيها ”أحمد زكي“ لـ”عبلة كامل“ عن ذلك الولد الذي قبّل صديقته فبكت فأخبرها زكي أن تقبله هى الآخرى على خده لترتاح وعندما فعلت ذلك ؛ طُرد من المدرسة. ”الناس بقت مجنونة يا وداد“..
_رفيق يتعرف على العالم كطفل في السابعة من عمره. يشرب شايه” ساعة العصاري“ مع فايز الذى يتعجب من أن الناس أصبحت تختبئ في بيوتها وتترك الشرفات لعفاريت الدروب. أتذكر طفولتي المنسية حينما كان الشارع هو كل شئ بالنسبة لي بكل ما تعنيه الكلمة. البيت مكان للنوم والطعام و”الخنقة“. أما الشارع فهو المأوى والملاذ ومذاق الحياة الذي يذيب الروح ويدوخها. لكن الآن الأطفال يتعرفون على العالم من خلال شاشات حمقاء. لو كان بمقدوري أن أفعل شيئاً جميلاً لهم لكنت كسرت كل تلك الشاشات وألقيت بها في القمامة وتمنيت أن ينتهي العالم وكل طفل يمسك بريشة أو بكتاب.. يرهقني حقاً كل شئ متعلق بهذه الشاشة الصغيرة . أرغب فقط في أن أعيش في واقع يشوبه الخيال والصفاء والورود..
_ تقترب الساعة من الخامسة والشمس توشك على المغيب تاركة جسدي للهواء الطلق ومعدتي تنادي عليّ فأتجاهلها وأغرق عيني في الكتاب. فتنادي ثانية وثالثة فألبي بعد أن ضاق خلقي وفيروز تنشد ”ضاق خلقي يا صبي ،، من هالجو العصبي“!. والله يا ستّ فيروز أنا أحبك .
*وأنا يا جميلتي هل تحبيني؟
دعيني وشأني وبعدها سأحبك.
*أطعميني وأنا أكف عن مضايقتك. صدقيني!
البازلاء على النار يا عزيزتي فهى تحب أن تُطهى على نار هادئة. كفي لقد جعت حقاً! وأمي تطهي أجمل بازلاء في العالم حقاً.
*كل ابن يعتقد مثلك أن أمه هى الأفضل وطعامها هو الأشهى.
لكن أمي كذلك بالفعل. ولو نطقت بكلمة أخرى فلن أطعمك ليومين.
_أقترب من إنهاء الرواية فأقرأ على مهل أكثر. فلن أودعها بهذه السرعة! أنظر إلى الشارع للمرة العاشرة تقريباً لأكتشف أن شارعي اليوم أجمل من أي يوم حقاً. أرفع بصري إلى السماء لأجد العصافير تشاركني نفس السماء ولكن أنا في الأرض وهى في الأفق. أسأل واحدة منهم هل بإمكاننا أن نسبتدل الأدوار لساعة واحدة فقط؟! تنظر إلى ثم تقول: ”كُفي عن هذيانك يا جميلة. الطعام يحترق في الداخل وأنتِ هنا تطلبين مني تبادل الأدوار فلتنجحي في دورك أولاً“
_ دوري ليس المطبخ. وأنتِ تعلمين هذا جيداً!
لا تغضبي مني. أنا لست هنا لكي أناقشك في دور المرأة في المجتمع لكن أنتِ من بنات حواء، وبنات حواء يعجزن عن الطيران..
_فايز بعد منتصف الليل يجلس في شرفته يشرب الشاي ويأتي صوت الراديو إليّ واضحاً . فيروز تغني ”جايبلي سلام. عصفور الجناين“ . ودعّ فايز صديقه رفيق لينفتح له بوابة الوحدة على مصرعيها .. هو لم يودع صديقة فقط بل ودع نفسه أيضاً. أليس أصدقائنا هم نحن ولكن في صورة أجمل وأنقى؟!
يمر يوم ويأتي أخر وفايز في غرفته متكوماً على نفسه في حضن الكرسي. يراقبه جاره من بعيد الذي لم يكن يوماً صديقه لكنه أعياه الفضول وكانت مراقبة العجوزان بالنسبة له عادة لم يجد لها تفسيراً. الصداقة لغز والألغاز التى تُفك شفراتها تفقد نصف معانيها. وشفرات الصداقة بين فايز ورفيق لم يعلم بها أحد حتى بعد وفاة رفيق الطفل الذي يحبو على قلبه ليمر بالأشياء مرور الكرام ..
فايز يسأل جارته ”ياسمين“ التى تُلبي له الطلبات هى وابنها” زيكو“ عن رفيق كلما رأها ”ألم يأتي رفيق للشارع؟“ . ودخلت عليه ذات مرة لتجده في حالة يُرثي لها وكأنه يعادي القدر الذي أوقعه في هذا الفخ. طالما يا صديقي نحن سنفقد كل هؤلاء البشر يوماً، لماذا إذاً نلتقي بهم وتمزج أرواحنا بأرواحهم؟
”ودايماً في الأخر في وقت فراق“ هكذا تقول فيروز..
نظرت ”ياسمين“ إلى الأرض لتجد الهاتف مُبعثراً عليها فحاولت أن تجمعه ثانية لتجد فايز يصيح بها قائلاً: ”أتركيه؛ هذا موبايل ابن كلب لا يجد رفيق“..
ثم يعود فايز إلى متاهته التي لا يعلم بها أحد غير الله..
أنا لم ألتقي بأي من العجوزين من قبل في الواقع. لكني ألتقيت بهم في الكثير من المنحنيات في خيالي. لم أهتم يوماً بالنظر إلى أعينهم مباشرة لمعرفة أي اسم يجب أن يلفظه فمي لكي أناديهم. ما نفع الاسماء يا صديقي في هذه الحالة؟ وهما وجهان لعملة واحدة. إذا نظرت إلى أحد الوجهين رأيت انعاكسه صافياً كالماء في الوجه الأخر..
”أدنيتي منكَ حتى، ظننت أنك أني.
وغبت في الوجد حتى، أفنيتني بك عني“..
الشمس غابت تماماً والسماء مُلبدة بالسحب وقلبي مُلبد بالمشاعر وعيني غرقت في بحر ليس له نهاية وروحي ذهبت إلى السماء السابعة وها هي أمي تقف بجواري . أنا لم أنتبه إلى وجودها إلا في هذه اللحظة. تنظر إلي أمي تلك النظرة التي تقول ”هتضيعي عمرك وعينك في الكتب يا بنتي“ .. تعلمت مع الوقت ألا أدخل في جدال مع أمي مطلقاً. الأمهات يصبحن أطفال كلما مر بهم الزمن. يحزنّ من أبسط الأشياء ويفرحن بكلمة”حاضر“ وابتسامة صادقة..
ها أنا أخرج من عقلي قليلاً لأنعم بدقائق بدونه. عقلي يسكنه أفكار وجنيات وعرائس ماريونت يُمسك بخيوطها شيطاني اللعين ويحركها في إي مسار أنا لا أريده حقاً. ذات يوم أوقع بي في جحر من ذلك الذي يلدغ منه المؤمن مرتين وثلاث ولا يعرف كيف يكون الخروج..
تقول أمي: ”البازلاء إنتهت فلتعدي طعاماً غيره لكن للعشاء هذه المرة يا جميلة“.
أشعر في هذه اللحظة أن قلبي لم يعد في مكانه..
أقول لها: أتتاّمرين مع هذا الطائر عليّ يا أمي؟!
طائر! أي طائر يا ابنتي؟!
تضرب أمي كفها بالكف الآخر ثم تخرج من غرفتي ذاهلة .. لأجدني بمفردي مرة أخرى أبحث عن فايز ورفيق وأتمنى لهما كل خير ومحبة وسلام..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النص بالتقاطع مع رواية "العجوزان" لـ جار النبي الحلو يمكن تحميلها >> من هنا<<
كاتبة مصرية