ملأت العبارة فضاء الحجرة كأنها صادرة عن مكبر الصوت ، و أرغمت سيدي احمد على الرجوع من عالمه الداخلي ، و مشاغله الشخصية ، ليركز في المعنى الذي اقتحم عليه وعيه . استدار نحو عز الدين بحركة بطيئة جدا كأنه يحمل صينية على رأسه وصرخ:
– ماذا ؟
دام الصمت لحظات ترقب فيها الجميع تبعات هذه الجملة التي ظلت عالقة في الجو كرائحة كريهة . وعزالدين الذي تدرب كثيرا على هذه المواجهة ، خذلته جرأته و انعقد لسانه ، فصار متكورا على نفسه يحملق في أصابع رجليه العاريتين ..
انحنى الأب قليلا ليرى وجه ابنه المنكس ، و جرت على وجهه ابتسامة تفسر الأمر بمجرد مزحة و قال :
– تفوقت هذا العام . و كلنا أمل أن تفوز بالباك السنة المقبلة ، و تقول لي .. قاطعه عزالدين و هو يرفع إليه عينين وجلتين :
– ماذا أصنع بالشهادة ؟ لم يعد أحد يأبه للشهادات !!
وزع سيدي احمد دهشته على أولاده بنظرة بليدة ، غير مصدق و تساءل :
– ماذا يقول هذا المجنون ! ؟
– أقول ما يعرفه الجميع . أصحاب الشهادات في أيامنا هم أحق الناس بالشفقة .. أنوي الالتحاق بمركز التأهيل المهني ، و أفوز بحرفة تسترني في المستقبل ..
تغلب سيدي احمد على غيظه ، و فك قبضة يمينه قبل أن يهوي بها على المائدة ، و أمسك بشعيرات ذقنه الرمادية ، يداعبها بين أنامله ، و قال بنبرة أبوية كأنه يعلن عن قرار :
– اسمع يا بني ! ( مسد براحة كفه اليمنى على صلعته الجرداء كأنه يتحسس مصدر توتره ) أنت تخلط الأمور. إذا كنت تتحدث عن الرزق و المستقبل ، فهي أمور بظهر الغيب . أما أن تتوقف عن الدراسة ، فمعناه أنك تتوقف عن أن تكون إنسانا محترما !!
رفع عزالدين نحو أبيه عينين جميلتين تلمع فيهما يناعة الشباب ، و قال بوداعة متهم :
– ولكن يا أبي ،ألا ترى ..
قاطعه سيدي احمد بعصبية و نفاذ صبر :
– ماذا أرى ؟ ؟ أنت الذي لا ترى ما أنت فيه . لا نطلب منك معروفا . نوفر لك ما يلزم كي تنقذ نفسك ، و تصير محترما .. إياك أن تعيد على مسامعي هذا الهراء !!
أنهى كلامه و ظل نصف دقيقة منكبا بكل كيانه فوق رأس ولده ، شاهرا سبابته في الهواء كأنها عصا يلوح بها .. بعدها هب واقفا وهو يسوي قندورته بعصبية ، وقصد حجرته مخلفا سكونا تواطأ الجميع في صنعه ، فلم يشأ أحد كسره .
تابع عزالدين دراسته ، وحصل على الباك كما كان متوقعا منه . فرح الجميع بإنجازه و لم يفرح هو. هذه الشهادة في نظره مجرد تأشيرة تسمح له بولوج عالمه المنشود ” كلية الاقتصاد “. كان مولعا بهذه الشعبة ، يريد أن يفرغ فيها كل نبوغه . اختار في التوجيه الثانوي قسم الحسابات ، و كان عليه أن يتحمل طول المسافة من حيه إلى ثانوية “ابن الخطيب” ، وهي الوحيدة التي كانت تضم هذا القسم : “قسم الحسابات” ، من بين الثانويات في طنجة .. لم تكن هذه صعوبة تذكر . تخطاها بمعنويات عالية ، وحصل في النهاية على علامات ممتازة ، و أصبح وجها لوجه أمام “كلية الاقتصاد”- حلم الأمس و كابوس اليوم- . أقرب جامعة تضم هذه الشعبة ، توجد بمدينة الرباط . و الأمر يحتاج إلى ميزانية لا قبل لأبيه بنفقاتها . صحيح أن أباه يتدبر أمر أسرته ، و يحول دون عوزها . إلا أن دخله محدود ، و ما يحصل عليه في عمله كممرض بالمستشفى الإقليمي ، بالكاد يسد الحاجيات ..
عندما يفكر عزالدين بهذه الطريقة ، يعذر أباه ، وينصاع إلى حسابات العقل و المنطق ، و يبدأ في التفكير و البحث عن بدائل أخرى تغنيه عن كلية الاقتصاد . إلا أن صورة والده و هو يصرخ في وجهه تلك الليلة ، حين أعلن إليه فيها عن رغبته في التوقف عن الدراسة ،جعلته مسؤولا في نظره بشكل كبير عن هذا المأزق . أما بالنسبة لسيدي احمد ، فالأمر غاية في البساطة :
– أمامك شعب كثيرة من العلوم و الآداب ، اختر منها ما يناسبك ..! من قال إن دراسة الاقتصاد فريضة ؟
لم يكن من عادة الأب و ابنه الاستفاضة في الحديث ، وتبادل الآراء . تأسست علاقتهما بناء على معجم محصور جدا ، لا يكاد يجاوز كلمات من قبيل : خذ، اذهب ، أحضر ، افعل ، لا تفعل ..و ما يناسبها من ألفاظ الإستجابة و الخضوع .. ليجد عزالدين نفسه في منأى عن أبيه ، لا يفاتحه بما يعتمل في صدره من حسرة على ضياع حلمه العزيز ، و انهيار صرح المستقبل الوشيك تحققه تحت قبة كلية الاقتصاد هناك في العاصمة .. ثم إن حرقة المرارة تتصاعد إلى حلقه عندما تحضره فكرة انقطاع السبل بينه و بين ” لمياء” ، – زميلة الدراسة – تعود عبق القرب منها طيلة المرحلة الثانوية ، كان الحضور يقترن في ذهنه بلمياء ، و الدراسة حلوة سائغة ما دامت لمياء جزءا منها .. و هي اليوم تقصد الرباط مستأنفة مشوارها ، بينما يبتلع ألم فراقها في صمت ، كأنه يقف على مرفإ يتابع بعينين مكلومتين سفينتها تمخر مبتعدة دون رجعة ..
لم يعد يظهر عزالدين في البيت إلا ما ندر ، و إذا ما تواجد ، كان ينزوي في ركن مظلم من سطح الدار ، يجيل بصره في صفحة السماء الحالكة حلكة محنته . بينما تركض الأفكار داخل رأسه مثل كلاب الصيد :
ٌ” يفرحون بالباكالوريا و كأننا في الستينات .. ماذا أصنع بشهادة تسمح لي بولوج كليات تلفظ كل عام عشرات العاجزين . أنفق فيها أربع سنوات من عمري لأحصل على شهادة أكبر ، يفرحون بها ثانية ؛ تزغرد أختي ، وتنفخ أمي ريشها زهوا أمام الجارات و الخالات .. و يتلقى أبي عبارات التهنئة هنا و هناك .. بينما أجد نفسي وجها لوجه أمام واقع نتن ، متفسخ كجثة في العراء …”
وقف متكاسلا و اتكأ على حافة السطح بكفيه ، فلاحت له الأسطح الخالية إلا من بعض الظلال المتفرقة للغسيل المنشور ، تهدهده يد الهواء الندي وسط ظلمة الليل الأخرس . و بصق بكل قوته ، كأنه يبصق كل واقعه المريض ، وأفكاره البغيضة دفعة واحدة .. في هذه اللحظة بالذات ، مات عزالدين ، و ولد آخر مكانه . من رحم هذه الأفكار الموبوءة خرج إلى الدنيا ، متنكرا لكل ما تعلمه و نشأ عليه .. قادته رجلاه إلى قنطرة حي “بن ديبان” . لم يختر وعيه مقهى ” بزيقة ” ، وجد نفسه هناك بين زمرة من أبناء حيه العاطلين . ركز بذهنه على رقعة ” البارتشي ” علها تنسيه همه . تابع المرشح للفوز ، و مطارديه الثلاثة باهتمام بالغ .. امتدت إليه يد بلفافة الحشيش يعلوها دخان كثيف :
– تذوق هذه ! إنها هي .. ! ( وأتى صاحبها بحركة من يده تدل على أن الحشيش درجة أولى )
أخذ عزالدين نفسين من اللفافة دون تردد ، فسرى مفعولها في دمه سريان المنوم . و أحس برأسه ثقيلا ينوء بحمله ، فتركه يميل إلى الخلف ، و أغمض عينيه لحظة ، متحسسا أثر الحشيش على دماغه .. كانت هذه أول مرة يدخن فيها مخدرا ، و لم تكن الأخيرة .. عندما عاد إلى البيت ، كان الجوع ينهش أمعاءه كثعبان يسري داخل جوفه . قصد المطبخ بخطى متهالكة محاطا بالعتمة . و تنبه إلى أن الوقت متأخر ، و أن حالته لا ينبغي أن يطلع عليها أحد . فعدل عن ذلك و آثر السلامة ، ثم قصد فرشته و تسطح عليها كالقتيل .
لم تكن تلك سهرة انتهت بانتهاء السمر و تفرق الندماء ، بل كانت عتبة اجتازها عزالدين ، و دنيا جديدة دخلها . تحكمها قوانينها و أعرافها . دخل عالما من التكتلات ، تحركها أحقاد المدمنين و مكائدهم ، و يقودها التجار الصغار لأصناف المخدرات . و إذا كان هو اليوم خارج الدائرة ، فغدا سوف يصبح داخلها ، رقما جديدا يضاف إلى تلك الطفيليات الليلية ، يجتر المهانة و يتحملها مقابل قطعة حشيش أو حبة مهلوسة . و هو لن يتحمل حياة كهذه ، و بداخله تجري دماء حارة ، و نفس عزيزة . و طبعه عنيف لا يتحمل الإهانة ، تسعفه في ذلك بنيته القوية ، و جسارته التي لا تني أمام أي كان ..
كانت أمه تمده بمصروفه في صمت ، إلا من دعوات متقطعة له بالهداية . و كانت ظروف سيدي احمد في العمل لا تسمح بمواكبة ما جد من أمر ولده ؛ يداوم الليل و ينام النهار ، أو يعمل نهارا لينام الليل . وهكذا لم يجد عزالدين من يوقظه من غفلته ، و ينبهه إلى خطورة المستنقع الذي انزلقت إليه رجلاه في أوقات اليأس وانسداد الأفق .. و جاءت اللحظة التي كان لا بد لها أن تأتي ، والمحك الذي يكشف عن معدنه . حينما دخل المقهى شابان نحيفان ، لم يسبق له أن رآهما . ألقيا التحية ، فعلت أصوات الترحيب الحار ، و قام سيد الجلسة وسلطانها ؛ ” اسماعيل أرطان “، وهو من أصحاب السوابق ، يعرفه عزالدين جيدا و يعرف تاريخه الإجرامي، التصق اسمه بهذا اللقب لطول اتجاره بأقراص الهلوسة المعروفة ب”أرطان” . و كان هذا لا يعرف من عزالدين إلا ملامح وجهه . فصاح به :
– إي .. أنت .. ! أحضر كرسيين بسرعة !
تعود عزالدين على الاختبارات ، لكن هذا الاختبار كان الأول من نوعه . ولابد له على كل حال من نتيجة .. الرسوب فيه غير وارد . إنه انكسار و هوان دائمين . أما الصمود ، المواجهة ، فمعناه انتزاع التقدير ، وفرض الهيبة على الجميع ، داخل المقهى وخارجها .
كان عقله يشتغل بسرعة البرق ، و عيناه تدرسان الموقف وتتفحصان ما توفر أمامه على الطاولة استعدادا لما سيأتي .. فجاءه صوت أرطان أقوى من السابق :
– ألا تسمع يا ابن الفاسدة …؟ !
قفز عزالدين برشاقة غير متوقعة ناحية أرطان ، و انتشلت يسراه قنينة المشروب من فوق الطلولة ، وبعثرها فوق الحاجب الأيمن لغريمه بضربة محكمة تناثرت على إثرها الشظايا على الأرضية ، تتبعها قطرات قانية من الدم الحار ينسكب غزيرا من بين أصابع أرطان ، وهو يضغط على موضع الجرح مقوس الظهر، وصرخته تتردد وحيدة وسط السكون الذي صنعته المفاجأة .. وقبل أن يستفيق الجميع من وقع الدهشة ، صعد رجله إلى ذقن الجريح بركلة ضمنها كل غضبه ، فارتمى على الأرض يعوي بفم غطاه اللعاب الأحمر .. وقف عزالدين وسط المكان تتفحصه النظرات ، وهي تتعرف إليه من جديد . لم يكن في هذه اللحظة ولد سيدي احمد التلميذ ، صاحب الابتسامة الهادئة ، بل صخرة تتكسر عليها كل رأس احتاجت إلى تكسير .. لم يتفوه بكلمة واحدة . كان رده عنيفا جدا و بدون تعليق .
لم يأت أرطان بأي حركة وهو يغادر إلى خارج المقهى ، متكئا على النادل الذي هرع بإناء من الماء للمساعدة . بينما شيعه عزالدين بعينين يتطاير منهما الشرر ، و بيده اليسرى لا زال نصف الزجاجة يلمع بين أصابع قبضته العريضة . ثم تحرك نحو الشارع بخطوات هادئة ، مخلفا وراءه الكثير من اللغط .
في لحظة غضب دافع فيها عن كبريائه ، انقلب عزالدين إلى اسم ذائع الصيت داخل” ابن ديبان” والأحياء المجاورة . وصار له كرسي داخل مقهى “بزيقة” لا يجرؤ أحد على الجلوس عليه ولو في غيابه . و بدأت تتقاطر عليه مظاهر التعظيم أينما حل ، فتولدت بين جنبيه جرثومة التسلط و الكبر ، و صارت تتغذى من الرعب، يلمسه فيمن حوله ، ومن آيات التبجيل الكاذبة .. إلى أن تشوهت دخيلته ، و ركبه الغرور المريض ، فاستأسد و تمادى . ثم إن معركة خاضها عند الباب الكبير لسوق ” كاسا باراطا ” ، شهدت له بالجسارة النادرة ، وساهمت إلى حد كبير في ولادة عزالدين الجديد .
في إحدى الأمسيات الهادئة من فصل الشتاء ، كان يتحلق بجانب المقهى حول سيارة ضخمة سوداء رباعية الدفع ، ثلة من الشباب يتوسطهم ” محفوظ ” . أحد أبناء الحي الذين غادروا إلى أوروبا مبكرا . لم تغير شكله سنوات الغربة ؛ رشيق القوام ، أقرب إلى النحافة ، برأس حليق يلمع كأنه كرة من نحاس . احتجبت عيناه خلف نظارة سوداء ، تناسقت مع سواد قميصه و سرواله .. مر بهم عزالدين ، فنادت عليه بعض الأصوات :
– إي .. ! عزالدين .. !
التفت دون اكتراث ، فعلق أحدهم :
– إنه محفوظ .. ألا تتذكره ؟
تقدم عزالدين نحو الجمع ، و سلم على الرجل الأسود الهيئة بابتسامة فاترة ، و صافحه :
– أهلا محفوظ ! ( صافحه باستعلاء نال من كبرياء محفوظ ، فرد مذكرا بمقامه الذي لم يحترم ) :
– أصبحت رجلا . ها .. !! لم تكن تتجاوز عتبة داركم عندما سافرت .. يبدو أنني تغيبت طويلا !!
ارتفع صوت محفوظ بقهقهة تحرض الشباب على الضحك ، فلم يتلق إلا بعض الابتسامات الخائفة . و شخصت الأبصار متوقعة رد عزالدين العنيف . فجاء صوته هادئا و مستفزا :
– ما رأيك فيمن تقدم في السن و لم يصبح رجلا بعد ! ؟
انفجر صوت محفوظ بضحكة عالية مغالية ، خالطها سعال متلاحق ، انتفخت له أوداجه و امتقع وجهه . تريث حتى غالب النوبة المفاجئة ، و رفع عينيه إلى عزالدين بنظرة جادة ، انقلبت معها ملامح وجهه إلى صفحة جامدة ، ثم انفرجت أساريره من جديد و قال :
– ماذا ؟ .. تريد تريد أن تضربني ؟
احتار عزالدين في هذا المخلوق . يتلاعب بأعصابه صعودا و نزولا ، و لم يجد بدا من مسايرته ، فرد في سلام تام :
– أنا لا أضرب أحدا !!
أدار ظهره مستقبلا باب المقهى ، فجاءه من جديد صوت محفوظ وهو يقترب منه بخطوات رشيقة :
– إي .. عزالدين ! تريث . أريد محادثتك !
أمسك بساعده ينحيه جانبا ، و قد اكتست ملامحه سيماء الود كأنه ولي حميم ، بينما لمعت عيناه ببريق ماكر .. أصدرت المفاتيح في يده رنينا و هو يضغط على جهاز التحكم عن بعد ، فاستجابت السيارة السوداء مطلقة صوتا كالنقيق ، و أنارت مصابيحها . أسبغت هذه الحركات على محفوظ كثيرا من الزهو و الخيلاء ، بينما حاول ايجاد تفسير لما يجري حوله ، فتساءل بنفاذ صبر :
– أين أنت ذاهب ؟
– أريد فقط أن أحدثك على انفراد !
اتخذ مكانه إلى جانب محفوظ ، مأخوذا بجمال السيارة و المقعد المريح ، يحاول اكتشاف مصدر الصوت المنبعث من زوايا خفية : ” يا مولات الخمار . أعطني العنوان و الحومة .. ” . متوجسا من خلفية جليسه .. بدأ محفوظ حديثه بنبرة هادئة :
– اسمع يا عزالدين ! من يبرشن داخل بركة ماء ، يعد نفسه سباحا لأنه لم يعرف البحر .
– هات ما عندك و لا تختبر صبري !
استدار محفوظ نحوه و نزع نظارتيه ، فبرزت عيناه حادتين صارمتين ، و قال :
– أعلم أنك شجاع . تستطيع أن تدخل هذا المكان – وأشار إلى مقهى ” بزيقة ” – و تهده على من فيه دون أن تصاب بخدش .. ثم ماذا ؟ طال الزمان أو قصر ، سوف يأتي من يمسح بك الأرض يوما ما . صدقني ، لو كانت القوة تدوم ، لدامت لمن سبقك !
حرك عزالدين رأسه و طافت على وجهه ابتسامة ساخرة تمدد لها شارباه الطريان و قال :
– لم أكن أعلم أنك واعظ !
– أنت لا تريد أن تفهم ! ألا ترى أن السجن بعج بالشجعان الأغبياء ؟ ( سكت قليلا و هو ينظر إلى وقع كلماته على وجه عزالدين ، ثم سأله :
– قبل يومين أزهقت روح هنا ، على هذا الشارع ، صحيح ؟ ( تابع حديثه و لم ينتظر إجابة ) :
– قل لي ، من أجل ماذا فقد القاتل و المقتول شبابهما ؟ ها .. !
امتلأ عزالدين ضجرا من هذه الخطبة الأبوية ، يتلقاها من حشاش مثله . فأصدر زفيرا مسموعا وهو يمد يده إلى الباب يريد النزول ، فأمسك محفوظ بمعصمه و قال :
– لم لا تستثمر هذه الشجاعة ؟ … أن تعبر البحر مثلا … !
تسربت كلمة البحر إلى دماغه و تردد صداها كضربة الطبل ، و تساءل :
– ماذا تقصد ؟
– أن تسلك طريقا تنفعك فيه شجاعتك .. أن تكسب من ورائها المال ..
فتحت هذه الكلمات أمام عينيه عالما بلوريا تراءت له فيه نفسه جالسا مكان محفوظ ، يقود سيارة فخمة ، على يمينه أبوه ، و في الخلف استقرت أمه مع باقي إخوته .. عاد من شروده القصير ، فوجد عيني محفوظ تتفحصانه في فضول ، فصاح به :
– مالك تقطر الكلام هكذا ؟ أفرغ ما في جوفك !
حدق إليه محفوظ بتركيز بالغ ، وهو يعض على شفته السفلى ، و استحالت عيناه إلى كرتين ملتهبتين ، ينط منهما القلق ، و خرجت من فمه الكلمات باردة جافة كالنعي :
– تعبر البحر معي ، بالزودياك .. ننقل الحشيش إلى كاديس ..
ظل عزالدين هادئا ينظر إلى المارة عبر نافذة السيارة و لم يجب . وانتظر محفوظ رده بصبر قليل ، كمدان يترقب النطق بالحكم ..كان يعلم أن القرار صعب ، و أن خطوة كهذه تحتاج إلى تفكير ، وهو خبير بهذه المواقف .. أمهله قليلا قبل أن يخرجه من تردده ، ضاربا على الوتر الحساس :
– إنه طريق الرجال .. و إذا اخترتك أنت بالذات ، فلأنني خبير بالرجال .
أشعل عزالدين سيجارة ، وأخذ منها نفسا عميقا ، ثم ترك الدخان ينساب من أنفه كمبخرة إلى أن انقطع تماما ، وأعلن بنبرة واثقة :
– أنا جاهز ! لنعبر البحر ..
طنجة 3 غشت 2014