د. فضيلة ملهاق
مرّ الانسان بمراحل عدة قبل أن يصل إلى الحضارة، والحضارة، بمفهومها العام، هي نتاج المتوارث من العادات والتقاليد والمعارف والانجازات، لكن يصعب الوقوف على تعريف خاص موحد لها، في وجود جملة من الاعتبارات، على رأسها الخصوصية الثقافية والأيديولوجية للمجتمعات.
هذا لا ينفي وجود تعاريف متقاربة، ومتكاملة، لمفهوم الحضارة لدى المفكرين، على اختلاف منابتهم وتوجهاتهم، ويستوقفني في ذلك مقولة للفيلسوف والكاتب الأمريكي (وِلْ ديورانت) : ” تبدأ الحضارة حيث ينتهي الاضطراب والقلق، لأنه إذا ما أمِنَ الإنسان من الخوف، تحررت في نفسه دوافع التطلع وعوامل الإبداع والإنشاء، وبعدئذٍ لا تنفكُّ الحوافز الطبيعية تسْتنْهضُه للمضيِّ في طريقه إلى فهم الحياة وازدهارها.”
هذه المقولة يمكن أن تنطبق على حقائق عدة نعيشها اليوم، فقد عرف العالم المعاصر إنجازات غير مسبوقة، على جميع الأصعدة، تذلّلت بفضلها مشاق الإنسان في حصوله على احتياجاته، وزادت فُرَصُه في العيش السهل والآمن.
مكتسبات مبهرة!
يصعب عدّها وحصرها، حقّقت للإنسان نقلة نوعية في نمط المعيشة، وجعلت العالم مجرد مجتمع كبير مكون من تجمعات تحكمها روابط قانونية ومصالح، وعلاقات منظمة.. وقواسم مشتركة عدة.
فهل نحن نعيش عصر الحضارة المثلى؟
لا يمكن أن ننكر أننا نعيش، حاليا، في كنف ما توصلت إليه ديناميكية عقل الانسان الحامي، المزدهر، المتطور، المخترع.. ولكن للأسف لا يسعنا أن نتجاهل حقيقة كوننا نعيش أيضا تحت رحمة أنانيّتِهِ وعجرفتِه، وفي قبضة وعيِه المُستبد، الذي يهدّد أمننا وراحتنا، بل وجودنا.
فهذا المجتمع الذي يبدو منسجما في ظاهره، متقاربا في وعيه، وتطلّعاته، هو بدوره منقسم إلى كتل بشرية تستأثر بنتاجها الفكري والمادي، وكثيرا ما تستعمله في بسط نفوذها على كتل أقل حظا في خيرات الطّبيعة، أو أقلّ فرصا في استثمارها.
وتأتي الجهود المبذولة في تكريس مبادئ التعاون الدولي أقل تأثيرا وفاعليّة، مقارنةً بالممارسات التي تؤدي إلى وجود عالم طبقي، يعلو فيه منطق القوة والسيطرة على أولوية حماية الإنسان وترقيته. أبرز مثال عن ذلك، هو لجوء دول إلى استعمال التطور التكنولوجي في تطوير أسلحة الدمار الشامل، بشكل يهدد الأمن والسلم العالميين، ضاربة عرض الحائط بالقوانين والمواثيق الدولية والاعتبارات الأخلاقية.
علاوة على ذلك، فإن مفاهيم الإنسانية، ومقوّمات الحضارة، تختلف داخل المجتمع الواحد، وتصطنع فوارق يصعب أن تذيبها القواعد القانونية، أو قد يُزكّيها القانون في حدّ ذاته، فيحدث أن تستأثر فئة ما، أو منطقة ما بمقومات التطور والازدهار، وتضمحل إزاءها دوافع الاطمئْنان الروحي والتعاضد التي تقوم عليها الحضارة.
في عالمنا أشياء عدة تبعث على الاضطراب والقلق، وتُنغّصُ علينا الاستمتاع بمُكتسباتنا، ويصعب إزاءها وجود دعائم الحضارة بالمفهوم الذي تصوره (وِلْ ديورانت)، بل يصعب أن يتّسق هذا الواقع مع أي تعريف من التعاريف الموضوعية للحضارة.
ولعل التعريف الوحيد الذي يمكن أن يصدق عليه هو أننا نعيش حضارة الدُّخّان، دُخّان آمالنا في تجسيد المصالح الفُضلى للإنسانية، والمُفجع هو أن وَقودَها الإنسان.