حسن غريب أحمد
تأتي تجربة الشاعرة عفت بركات ضمن التيار الشعري النسوي العربي المعاصر الذي يسعى إلى تفكيك مركزية الذكورة في اللغة، وإعادة بناء الذات الأنثوية على نحو يزاوج بين الرهافة الوجدانية والوعي الوجودي. في ديوانها «أهيئ الروح لعاصفة»، تكتب الشاعرة من قلب العاصفة لا من هامشها، فتستحضر أنوثتها لا كزينة لغوية أو عاطفة ناعمة، بل كقوة كونية تتحدى العدم وتعلن الوجود في وجه الغياب(1).
هذا الوعي الأنثوي، الذي يعبّر عن الذات في لحظة انكسارها وتوهجها، يجعل النص الشعري عند عفت بركات يتجاوز البوح الشخصي ليغدو تجربة روحية فلسفية، تتماس مع السؤال الكوني حول الحياة والموت، النور والعتمة، الحضور والغياب(2). ومن هنا تنبثق أهمية قراءة هذا الديوان بوصفه نصًّا يُعيد تعريف العاصفة بوصفها لحظة ولادة ووعي، لا مجرد دمار وانكسار.
جدلية الغياب والحضور:
في شعر عفت بركات، يتجسد الغياب بوصفه شرطًا ضروريًا للحضور، فالشاعرة تُصالح بين الفقد والخلق، بين الموت والنهوض. تقول في أحد مقاطعها إن الروح “تتهيأ للعاصفة”، وكأنها في حالة استعداد أبدي لطقسٍ تطهيريٍّ يُعيد ترتيب الوجود من جديد. هنا يتبدّى الغياب ليس نهاية، بل بوابة إلى الحضور الكامل (3).
تستعير الشاعرة رموز الطبيعة — كالريح، والماء، والبحر، والليل — لتبني بها خطابها الشعري، حيث تتكثف الدلالات الأنثوية في صورة العاصفة التي تجمع بين الهدم والبعث. فالعاصفة في المعنى الصوفي هي الفيضان الإلهي الذي يهزّ الكيان ليوقظه من غفلته، وهي كذلك في الشعر الأنثوي إشارة إلى المخاض، إلى لحظة الولادة الميتافيزيقية التي تعيد تعريف الذات واللغة (4).
الروح الأنثوية بين الذاكرة والمقاومة:
تبدو “الروح” في الديوان الكلمة المفتاحية التي تدور حولها القصائد؛ فهي ليست مجرد رمز ديني أو ميتافيزيقي، بل جوهر الوجود الأنثوي في صراعه مع الواقع والزمن. تتكئ الشاعرة على لغة شفيفة تتراوح بين التذكر والنسيان، بين الانكسار والتمرد. فالذاكرة عندها ليست ملاذًا آمنًا، بل ميدان معركةٍ تُختبر فيه قوة الروح وقدرتها على المقاومة.
يلاحظ القارئ أن عفت بركات تنزع إلى تجريد اللغة من زينتها التقليدية لتجعلها أقرب إلى الصمت منه إلى الصراخ. وهذا ما يجعل حضور الغياب ملموسًا في البنية اللغوية نفسها؛ إذ تتكئ القصائد على الإيحاء والفراغ الدلالي، لا على الامتلاء اللفظي(5). وهنا تتجلى روح الحداثة الشعرية التي تحدث عنها صلاح فضل في حديثه عن البنية الانزياحية في الشعر المعاصر (6).
شعرية العاصفة والكتابة النسوية:
تُعيد عفت بركات عبر هذا الديوان تعريف “الأنوثة” من كونها حالة وجدانية إلى موقف فكري وجمالي. فهي تُعلن وجودها من داخل اللغة لا من خارجها، وتواجه الهيمنة الذكورية عبر إعادة صياغة المعجم الشعري ذاته. وكما ترى جوليا كريستيفا، فإن الكتابة الأنثوية هي “هدم لنظام اللغة الذكورية وإقامة لفضاء دلالي جديد”(7).
في هذا السياق، تنفتح قصائدها على فضاءات رمزية متشابكة: البحر مرآة للروح، الليل غلافٌ للأسرار، والعاصفة طقس التطهر. يتماهى الجسد مع اللغة، فتصير القصيدة جسدًا جديدًا يولد من رحم الألم. بهذا المعنى، يُمكن القول إن ديوان «أهيئ الروح لعاصفة» يمثل شهادة شعرية على تحوّل الذات الأنثوية من موضوع للحب إلى ذاتٍ فاعلة تصوغ خطابها ومصيرها(8).
التحولات الجمالية في لغة الديوان:
اللغة عند عفت بركات لغة “حدّية”، تقف على تخوم المعنى والصمت. فهي تُحاور الواقع بأدوات الرؤيا لا الوصف. تميل إلى التكثيف والرمز والإيقاع الداخلي بدل الإيقاع الموسيقي التقليدي. وهنا يتجلى أثر نازك الملائكة التي ربطت بين الشعر الحر والحرية الداخلية للشاعر (9).
ويبدو أن الشاعرة تدرك أن الشعر الحقيقي لا يُكتب بالحروف فقط، بل بما بين الحروف؛ حيث الصمت ذاته يصبح علامة، والبياض جزءًا من النص، وهو ما يتقاطع مع تصور عبد القاهر الجرجاني في نظريته عن “النظم”، حين جعل المعنى وليد العلاقة بين الألفاظ لا الألفاظ ذاتها(10).
في ضوء هذا التحليل، يمكن القول إن عفت بركات في «أهيئ الروح لعاصفة» قدّمت نصًّا شعريًّا يؤسس لوعيٍ أنثوي جديد، لا يكتفي بالتعبير عن الذات بل يسائل العالم. جمعت بين الرقة والصلابة، بين التأمل والاحتراق، فكانت العاصفة التي تهيئ الروح للكتابة، والكتابة التي تهيئ العالم للدهشة.
إنها تجربة شعرية تُجسّد — بعمقها اللغوي والفكري — مفهوم العاصفة الأنثوية التي لا تدمّر بقدر ما تُجدّد، ولا تُفني بقدر ما تُنير. وهنا يكمن سرّ فرادة شعر عفت بركات؛ إذ جعلت من الغياب نداءً للحضور، ومن الألم طريقًا إلى الخلق.





