العار و”شيزوفرينيا السلوك”

فيلم العار
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. نعيمة عبد الجواد
قد يفرض الواقع استنساخ صورة أخرى منا لتجابه المجتمع على استحياء. ومن ثم يمكن للمرء من خلال هذه الصورة المناقضة لشخصه الظاهر للعيان أن يعبر عما يموج بداخله بكل صدق، سواء أكان مشاعر أو أفكار، أو حتى سقطات دون أن الشعور بالحرج. وأيضاً، يتمكن من إخفاء حقيقته الماجنة التي يخجل منها – بالرغم من أنها التي تعبر عن مكنوناته الدفينة بصدق – عن أعين دوائره الاجتماعية. فيشعر بالراحة حين يظهر للآخرين الصورة النقية الوقورة التي تجعل منه – وفقاً لوجهة نظرمريضة- شخصاً لا تشوبه شائبة.
“شيزوفرينيا السلوك” هي العار الذي يخفيفيه في حواشيهم المصابون بها، ويخشون افتتضاحه لدرجة التكتم عليه بكل الوسائل؛ لعلمهم أن “شيزوفرينيا السلوك” قد تدمر ما يشييدوه من عالم مثالي محاك على مجموعة من الأوهام. ولقد جسدت السينما المصرية “شيزوفرينيا السلوك” في فيلم العار الذي يعد واحداً من العلامات البارزة في تاريخ السينما المصرية بوجه عام، واتجاه الواقعية الجديدة، بشكل خاص. فلقد تم طرح فيلم “العار” في دور العرض السينمائي في مصر عام 1982 ليسبب ضجة فنية وجماهيرية لم يفهم الكثيرين أسبابها الحقيقية آنذاك. فبعيداً عن كون الفيلم ينتمي إلى فئة التشويق والإثارة، التي كانت بمثابة العنصر الجاذب للمشاهد آنذاك، قدم الفيلم قصة محكمة، وإخراج متقن، والأبطال الرئيسيين للفيلم – نور الشريف، ومحمود عبد العزيز، وحسين فهمي – في أدوار لم يتوقعها منهم أحد، وأداء تمثيلي حديث الطابع جعل جميع الشخصيات تخرج من عالم الشاشة الفضية لتعيش معنا حتى الآن – بعد مرور سبع وثلاثين عاماً – في عالمنا الحديث هذا حية نابضة بالحياة.
ويناقش الفيلم قضية “شيزوفرينيا السلوك”، ويوضح أنها العار الحقيقي الذي يحمله أي فرد، على عكس ما قد يتصوره الآخرين من أن العار يقتصر على الاشتغال بالأعمال الوضيعة، أو احتراف الجريمة، أو حتى الفقر. فالعار المدمر هو عار “شيزوفرينيا السلوك”. وعلى هذا، ظهر في الفيلم الأب التاجر العصامي المتديين الذي يربي أولاده على الأخلاق الحميدة — رجل فاسد يعمل في تجارة المخدرات ويدمر آلاف الشباب والأسر بما يروجه من مخدرات وأفكار أنها تجارة حلال. لكن فيما يبدو أنه اعتقد أن تحصينه لأولاده بالعلم والأخلاق الحميدة سوف تجعلهم بمنأى عن عالمه الحقيقي الخرب. وبالتالي، تمتع جميع أولاده بمكانة مرموقة ومحترمة اجتماعياً. فلقد حظى بإبن ضابط، وآخر طبيب نفسي، وإبنة محامية، وحتى الإبن الذي لم يكمل تعليمه ويساعده في تجارته، هو ابن خانع وبار بوالديه، ويفعل أقصى جهده لإسعاد الآخرين، حتى ولو على حساب نفسه. لكن المفاجأة، أن المال الحرام قد أثر أيضاً بالسلب على الجميع. فإبنه الضابط المحترم المهاب في حقيقة الأمر مجرد شخص ينتمي لفئة “المرتزقة”؛ حيث يسعي للتكسب من أي مصدر، ويمنطق ذلك لنفسه بأنه بذلك يعصم نفسه وأولاده من الفقر. والأدهى من ذلك، فإنه يذهب لوضع أفعاله المشبوهة في صياغة شرعية ليزيينها بإطار من الكسب الحلال. وأما الابن الطبيب النفسي، فهو في حقيقة الأمر مريضاً نفسياً في حاجة ماسة لعلاج سريع يبعده عن الاضطراب السلوكى، وازدراد المهدئات طوال الوقت. وبالنظر للابن البار الذي لم يكمل تعليمه بناء على توجيهات والده حتى يساعده في أعماله التجارية، هو في حقيقة الأمر الساعد الأيمن لوالده في عالمه السفلي، عالم تجارة المخدرات. وأما عن سلوكه الحقيقي، فهو يبعد كل البعد عن الخنوع والطيبة؛ حيث أنه في عالمه السفلي تاجر مخدرات متسلط وقاسي القلب، قد يردي أي شخص قتيلاً بكل سهولة، لطالما يعرقل مخططاته.
وفيما يبدو أن “شيزوفرينيا السلوك” من خلال فيلم “العار” قد انتقلت أيضاً من عالم الشاشة الفضية إلى أرض الواقع بكل سهولة؛ حيث تسللت من خلال الأداء المتقن، والسيناريو الغريب الحبكة على المشاهد آنذاك إلى نفوس العامة. ففرط الاعجاب بأبطال الفيلم الرئيسيين، جعل المشاهد يسعى لتقليدهم في كل شئ، وأخص بالذكر هنا أداء نور الشريف ومحمود عبد العزيز الذي كان جديداً بكل المقاييس. فلقد كان الفنان نور الشريف هو أول من وظف حركات اليد والرقبة في الأداء السينمائي. ولقد صرح الفنان نور الشريف أنه قد تعلم هذا الأداء من خلال مراقبته لأحد التجار الشعبيين. وإبان عرض الفيلم، صرح الكثيرون أنهم أداء الفنان نور الشريف كان مقنعاً لدرجة أنه قد حاكى بالفعل سلوك أي تاجر مخدرات. أما الفنان محمود عبد العزيز، فلقد كان المفاجأة الكبرى لهذا العمل الراقي الفكر. فلقد جسد محمود عبد العزيز “شيزوفرينيا السلوك” بأسلوب متقن جديد؛ حيث أنه انزلق بكل سهولة من دور الطبيب النفسي المحترم، لشخصية تاجر المخدرات الذي لا يأبه بتعاطيها، السعي لتعلم المزيد من مفردات تجار المخدرات بكل شراهة، بنفس الطريقة التي ظهر بها في بداية الفيلم شرهاً في تطوير نفسه علمياً، وتطوير عيادته.
وبالرغم من أن انتقال شخصيات أفلام الشاشة الفضية لأرض الواقع لا يعد من العلامات السلبية؛ لأنها أكبر دليل على تكامل العمل السينمائي، لكن ظهرت الآثار المناوئة لفيلم “العار” سريعاً بنفس سرعة تسللها لوجدان المشاهدين، لتؤثر بشكل سلبي على صناعة السينما بأكملها حتى الآن، وبالتالي على ذوق المشاهد. فلم يرى المشاهد والمنتجون من الفيلم الوعظ والإرشاد الذي يؤكد عليه الفيلم من خلال الإلحاح على أن “شيزوفرينيا السلوك” عاجلاً أم آجلاً لسوف يتم افتضاحها لتوقع الفرد في عار عظيم. فعلى النقيض، اهتم المشاهد بالأداء التمثيلي، والألفاظ الغريبة التي صدرت من أبطال العمل. فصار المشاهد يحبذ التحدث باستخدام الرقبة واليد مثل الفنان نور الشريف؛ ليوضح أنه عليم ببواطن أمور الحياة. وأما الطامة الكبرى، فكانت استخدام الألفاظ التي درجت على لسان أبطال الفيلم للتعبير عن عالم المخدرات والجريمة كمصطلحات دارجة الاستخدام في الحياة العادية. فانتشر بين العامة استخدام مصطلحات “مال لونك حزيني ليه يا فسواني”، و”نفيّيش الهوامش”، و “أبو دأشوم والدفاس”، و”الدخان الأزرق” كمصطلحات رائعة تدل على التطور في أسلوب الحديث، واتباع أحدث صيحات المصطلحات.
فدون أن يعي أحد خطورة ذلك الموضوع، وبسبب محاولة شركات الانتاج استنساخ نجاح مماثل لفيلم “العار”، وبالطبع تحقيق إيرادات لا حصر لها، بدأت شركات الانتاج تلهث وراء تقديم أفلام العالم السفلي من المجتمع لتبرز على الشاشة الفضية ما يدور به من جريمة وانحدار أخلاقي. وكذلك، تضمين مصطلحات هذا العالم في الأفلام بكل فجاجة وليس على استحياء كما ظهر بفيلم “العار”؛ لتصير أفلامهم واقعية، نابضة بالحياة. النتيجة للأسف كانت وضع بذور “للسينما السوداء”، أو سينما العنف والبلطجة في السينما المصرية، والتي من شأنها كان انتشار أفلام العنف والانحلال الأخلاقي في الألفية الثالثة.
قد يرغب البعض في تقديم النصح والإرشاد، لكن تعمل دوماً أيادي الفاسدين على إفراغ الأشياء الجميلة من محتواها ليتبقى منها الطالح المؤذي. فلقد كان العار وكل العار هو محاولة استنساخ أفلام ناجحة لتحقيق عائد مادي غير مسبوق على حساب تدمير أخلاق أجيال متعاقبة. وبالرغم من ذلك، يظل فيلم العار شاهداً على حرفية الأفلام المصرية، ومحذراً لكل المصابين ب “شيزوفرينيا السلوك” من الفاسديدين والمفسدين أن العار لسوف يلحق بهم، ويفتضح أمرهم على غفلة منهم.

مقالات من نفس القسم