بولص آدم
مقدمة
منذ أقدم العصور، شكّلت الطيور حضورًا إنسانيًا عابرًا للثقافات والفنون، إذ ارتبطت بالروح والخلود والحرية. في مصر القديمة مثّل صقر حورس السمو والحماية، وفي الأساطير اليونانية رافقت الطيور الآلهة مثل حمامة فينوس رمز الحب والسلام. أما في الشرق الأقصى، فقد جسّدت الطيور الانسجام الكوني وصفاء الروح، بينما ظهرت في المخطوطات الأوروبية كرموز دينية وأخلاقية. وفي الأدب العالمي، تجلّت كرمز للحزن أو الأمل أو الحكمة، من غراب إدغار آلان بو إلى قصائد إميلي ديكنسون. حتى الفنون الحديثة لم تخلُ من أجنحتها: الغربان عند فان جوخ رمز للوحدة والاضطراب، والحمامة عند بيكاسو أيقونة للسلام، فيما استعار الفن التجريدي حركة الطيران ليجسّد الحرية والديناميكية.
إن هذا الحضور المستمر عبر الحضارات والأزمنة يجعل الطائر رمزًا كونيًا للحياة والروح الإنسانية، وجسرًا يربط بين الماضي والحاضر، وبين الواقع والخيال. وفي هذا الإطار، نجد تجربة الشاعرة المصرية د. سارة حامد حواس، حيث تتشكل السيرة الطيرية من خلال نصوصها الأربع المنشورة في موقع الكتابة الثقافي: «عصفور أزرق» (22 ديسمبر 2024)، «صارت الطيور تنبع مني» (14 فبراير 2025)، «يا بابل حدثيني» (17 أبريل 2025)، و«هدهد في كفّي» (4 سبتمبر 2025).
تمثل الطيور في هذه النصوص رحلة رمزية تمتد من الذات الشعورية والبوح الداخلي، إلى الحرية والانفتاح على الكون، ثم إلى التاريخ والأسطورة، حيث يبرز «الطائر الخائن» كمفارقة مركبة، وصولًا إلى الهدهد كشريك شعوري حيّ ومحرّك للإبداع.
التحليل النصي
- عصفور أزرق (22 ديسمبر 2024)
تبدأ التجربة الرمزية للطيور هنا بارتباطها بالفقد والحماية الشعورية. تفتتح الشاعرة النص بمراقبة العالم الواقعي، حيث تصف الكلاب التي تعوي في الطريق، لكنها سرعان ما تتحرر من القلق وتشرع في السير بثبات نحو ذاتها الداخلية:
«اعتدتُ أن أرى كلابًا كثيرةً تعْوِي في طريقي … لكنَّني منذ فترةٍ انتويتُ المشي قُدَمًا بثباتٍ».
في هذا السياق، يظهر العصفور الأزرق كرمز للبداية الشعورية واللغة الجديدة، وتجسيد للبُعد الداخلي للشاعرة بعد الفقد:
«لكنّه ربّى طيورًا / صارت تحرس قلبًا من ألسنة مربوطة بغراب مات من ألف سنة»
«أطلق عصفورًا أزرق / بنى عشه في صدره / نفث دخانًا».
تمثل الطيور هنا الحماية الشعرية والبوح المكبوت، وإطلاق الذات الداخلية في فضاء متجدد، إذ تصبح وظيفة الشعر نفسها مرتبطة بالرمز الطيري.
- صارت الطيور تنبع مني (14 فبراير 2025)
تتطور الرمزية الطيرية لتصبح امتدادًا حيًا للذات بعد الفقد:
«منذ أن ذهبْتَ … صارت الطيور تنبع مني»
«صِرت أسبَح في غيمة تُشبه النجوم / أتحدث مع ملاك مرئيّ».
الطيور هنا تمثل الحرية والانصهار مع الكون والخيال، فهي وسيط بين الشعور الداخلي والتجربة الحسية والعاطفية، وتكشف عن انتقال الذات من حالة الفقد إلى التحرر النفسي عبر البوح الشعري.
- يا بابل حدثيني (17 أبريل 2025)
تبدأ القصيدة بمناداة طقسية: «يا بابلُ حدثيني». هذا النداء يُنزِل بابل من عليائها الأسطوري إلى كائن حيّ بذاكرة وجسد:
«دم يسيل من فمك المغدور» / «أسراركِ المترُوكة في ترابك المنسي».
المدينة هنا أنثى جريحة، أمّ وعشيقة وغريبة، لتصبح القصيدة محاورة حبّ أكثر منها مرثية. في مركز النص يبرز «طائرك الخائن». فالطائر رمز أسطوري للحرية، لكنه في التاريخ الحديث يصبح أداة خراب. المفارقة أن الشاعرة نفسها تقول:
«جئتكِ من بلاد النيل طائرةً على جناح شعري»،
فهي طائر وفاء يقابله طائر الخيانة؛ صراع بين طائر الشعر وطائر الخراب.
تتضح هوية الشاعرة: «جئتكِ من بلاد النيل». فهي ليست ابنة بابل، بل عاشقتها، وانتماؤها يمر عبر الشعر. وتستحضر صور العائلة: «أب ينتظر»، «أم تغزل»، «طفل يلعب»؛ لتغدو بابل بيتًا كونيًا، فيما يرمز «المفتاح» إلى البحث عن معنى وخلاص.
تظهر مفارقة البعث والرحيل حين تقول: «انتظري، لا ترحلي»، لكنها تمنح بابل «قبلة الحياة الأبدية»؛ دلالة على قدرة الشعر على مقاومة موت المدن. البنية النصية بطابعها الطقسي (التكرار، التوازي) تعزز هذا البعد، فيما النهاية («أنت كالواحد لا ينقسم / وأنا مثلك، امرأة من أربعة إلى واحد») تذيب صوت بابل في صوت الشاعرة. الاقتباسات تلخص هذا الاندماج:
«جئتُكِ من بلاد النيل / طائرة على جناح شعري / لأعرف ماذا فعل بك طائرك الخائن»
«رأيت دمًا يسيل من فمك المغدور / كنت أطير بين أروقتك كفراشة تحلم برحيق لا يموت».
هكذا يصبح «الطائر الخائن» رمزًا مركبًا: خيانة تاريخية ووجودية، وأداة تأمل شعري في مصير المدينة التاريخية. وسارة شاهدة مأخوذة بمصير بابل، تمنحها قبلة أبدية وتستحضر أسرارها، في حوار يتقاطع فيه العشق مع المرثية وتنهض منه أطياف الذاكرة الحضارية.
- هدهد في كفّي (4 سبتمبر 2025)
في النص الأحدث، يتحول الهدهد إلى شريك شعوري حيّ، محفّز للبوح والإبداع:
«يطل علي من نوافذ سحرية / يطرق باب روحي على مهل»
«تكتب الحروف نفسها / يتدفق نهر مكبوت منذ حواء وآدم / ينفجر بركانًا أسميته “البوح”».
الطيور هنا ليست رموزًا فحسب، بل عناصر فاعلة داخل التجربة الشعرية، تنقل المكبوت إلى فضاء التعبير، وتحوّل النص إلى طاقة انبعاث ولغة متدفقة.
مسار التحول الرمزي
من خلال هذه النصوص، يمكن تتبع مسار السيرة الطيرية عند حواس:
العصفور الأزرق: بداية شعورية، بوح داخلي، حماية شعرية.
الطيور التي تنبع مني: امتداد الذات بعد الفقد، التحرر النفسي، الانصهار مع الكون.
يا بابل حدثيني – الطائر الخائن: مفارقة رمزية حضارية، الجمع بين الخراب والإمكان، الماضي والحاضر، الشعر والتاريخ.
هدهد في كفّي: شريك شعوري حيّ، تفعيل الإبداع المكبوت، البوح الداخلي الكامل.
يتضح مسار التحول من رمزية شخصية وحماية داخلية إلى رمزية حضارية وأساطير مركبة، مع الحفاظ على البعد الشعوري العميق الذي يربط الذات بالخيال والتاريخ والمدينة.
خاتمة
تقدم النصوص الأربع رؤية متكاملة لمسار الرمزية الطيرية عند سارة حامد حواس. فالطيور تتحول من عصافير تحرس القلب إلى رموز للحرية والتحرر النفسي، ومن مفارقة الطائر الخائن التاريخية إلى الهدهد كشريك شعوري حيّ للإبداع.
الطيور هنا وسائط تربط الذات بالشعر، والفقد بالتحول، والأسطورة بالتاريخ. ومن خلالها، تقدم الشاعرة تجربة تجعل من الطيور محورًا لفهم الشعر كجسر بين الإنسان والخيال والروح، بين الحاضر والماضي، بين الخراب والإمكان، في وعي شعري يوازي الوعي الكوني للفنون والأدب، مؤكدة أن الطيور كانت ولا تزال رمزًا جامعًا للحياة والحرية والروح الإنسانية.