الطيور

ashraf al sabbagh
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أشرف الصباغ

هناك علامتان في أوقات الحرب تطمئنان القلوب: المرأة والطيور. وجودهما ينبئ بالسكينة والسلام، ويرقق المشاعر ويستأنس الوحش الكامن في صدور القساة. عندما توجهنا في المرة الأولى إلى أفغانستان، حكت لنا العجائز في الجبال أن الطيور غادرت أفغانستان ليس بمجيء القوات البريطانية أو مع الغزو السوفيتي في نهاية سبعينيات القرن العشرين، ولا حتى عندما غزاها الأمريكيون في مطلع الألفية الثالثة، وإنما غادرتها الطيور لما وصل إليها الإسكندر الأكبر منذ عشرات القرون عبر شمال أفريقيا بعد أن رَسَّمه كهنة المعابد المصرية ابنا لآمون. وآمون لم يكن أبدا إله حرب. لكن الكهنة لديهم ضمائر مطاطة مثل عقول الثعالب ونظراتهم، أفَّاقون بالسليقة وبالقانون وباسم الإله.

في أفغانستان، هاجرت الطيور مرة واحدة وإلى الأبد لتحط بدلا منها الصقور والجوارح وتنشب مخالبها في جسد الحلم الطائر لصبايا يافعات مثل نور الفجر وهشَّات مثل النسيم. انكب الوحوش ورجال الدين والكواسر لوأد جناح السلام الثاني، وعاقبوا المرأة لسبب ما لا يعرفه أحد حتى الآن. ومهما بحثنا في الكتب المقدسة والأساطير وحكايا الأولين فلن نجد سببا مقنعا. وإذا جاءك كبيرهم في الحلم فسوف ينفي مسؤوليته عن الجريمة ويواصل الجلوس فوق العرش مثل أبنائه الشامخين على الأرض.

لا نساء ولا طيور في الحروب. هناك رجال “بواسل” يشمون رائحة الدم من بعيد مثل وحوش كاسرة لا عقل لها ينهكها الجوع وتقودها الغريزة، تنتفخ صدورهم بالفخر عندما يجزون الرؤوس، ويتباهون بوحشيتهم وجنونهم وأعضائهم الجنسية ورابطات أعناقهم، وينز الكذب من عيون قادتهم عندما يتحدثون عن الأمن والسلام. في الحروب لا يعود الناس كما كانوا قبلها. تختلط دماء المنتصر والمهزوم فيما تَبَقَّى من أحذيتهم الملقاة بين الأشلاء. لا فرق بين حي وميت، لأن الحرب تقتل الروح وتبعثر الذاكرة وتقلب موازين العقل.

كنا نشرب الويسكي الإنجليزي والإسكتلندي أثناء الغزو السوفيتي لأفغانستان. وسرعان ما حلت محله الڤودكا. لم يكن الفارق كبيرا. ولم يكن الهدف هو اختبار الطعم والتعتيق وجودة المذاق بقدر ما كانت مجرد محاولات مهزومة مسبقا لمواجهة الدم وانسحاب الضوء من العيون والهروب من أشلاء البشر وعيون الأطفال ومحاولات الصبايا اليائسة العثور على ملامح آبائهن بين الأطلال وفي الحرائق والحفر التي صنعتها القنابل الذكية. لم يكن هناك طيور ولا نساء. حتى ملامح حبيباتنا انمحت مع صوت طلقات الرصاص وانفجارات القنابل، وتوارت خلف الرؤوس والأطراف الطائرة مع الحصى والحجارة وصخور الجبال.

وعندما غزاها الأمريكيون رحنا نشرب مما رزقنا الله من ويسكي وڤودكا وكونياك فرنسي وأرمني. وكان جنود الناتو يأتون بمشروبات من ثلاثين دولة ويقتسموها معنا باعتبارنا شركاء لهم في الحزن الكبير: الحزن على غياب الطيور والنساء. فظللنا نعيش على الأحلام وما تبقى من ذكريات وملامح حتى وجدنا أنفسنا نغطي الحرب في چورچيا. وكم كانت سعادتنا عندما اكتشفنا الكحول الطبي المركز حتى ست وتسعين درجة. فكنا نخلطه بالماء بالتنصيص أو بالتثليث كما يفعل الشوام واليونانيون والأتراك. كنا نشرب لا لكي ننسى، ولكن لكي نتذكر المقابل الموضوعي للموت، وننتزع الحياة من بين فكي العدم. كنا نشرب ولا نسكر. كنا نُسَكِّن فقط الألم. لكن الذاكرة كانت تخوننا من كثرة الدماء والجثث، ومن حزن الصبايا في عيونهم الوديعة وفي بكاء الأطفال.

الحرب ابنة دين كلب ملعونة رغم أن لا دين لها، ورغم أنهم يتفننون في استخدام الدين من أجل إشعالها. مؤججو نيرانها هم دود الأرض وحشراته وهوامه. ونحن وأولادنا وقودها، شئنا أم أبينا. نحن وقودها حين تنشب، ووقودها حين تخبو. والأمر لا يكلفهم إلا أن يغيروا اسم “الدولة” إلى اسم “الوطن” ويدعوننا للحرب من أجله ومن أجلهم وأجل أولادهم. وعندما تخبو الحرب، يمسحون اسم الوطن ويستعيدون اسم الدولة ووظائفها ويفتحون لأنفسهم ولأبنائهم حسابات جديدة في البنوك المحلية والعالمية، ويواصلون جباية قروشنا القليلة وانتزاع طيورنا ودجاجاتنا، وخطف أبنائنا من أحضان أمهاتهم وزوجاتهم وأولادهم.

– “الوطن”، تلك الكلمة التي بمجرد أن ينطقوا بها تدب فينا الحماسة وكأنهم حقنونا بقنطارين من المخدرات أو المحفزات أو المنشطات.. تنتفخ أوداجنا وصدورنا وعضلاتنا، تتضخم ذواتنا حتى تقف حائلا بيننا وبين الرؤية، نتحول فجأة إلى وحوش مسها الشيطان، ثم نتحول مرة أخرى إلى أدوات للقتل تحت مسميات الشرف والكرامة و”الوطن”. لكن لا أحد يسأل أبدا: لماذا لا يعود نفس هذا “الوطن” معنا من الحرب إلى الحياة المدنية، ولماذا لا يعود بباقات الورود والبالونات الملونة والطيور لأولادنا. فبمجرد انتهاء الحرب برفعون يافتة “الوطن” ويعيدون يافتة “الدولة” القديمة. يسلموننا الأوسمة والنياشين، وبضع صور مع القادة والرؤساء الذين سلمونا إياها، ثم يطالبوننا في اليوم الثاني بدفع الضرائب، وتسديد ديونهم وديون أولادهم، وفواتير الوقود والغاز والمياه، وهم يعرفون جيدا أننا بدون عمل، وبدون أمل، أو في أحسن الأحوال لا زلنا نبحث عن عمل وكسرة خبر، بينما تبحث عنا زوجاتنا وحبيباتنا، لأن العودة من الحرب ليست كالذهاب إليها. فالحرب تغير الملامح وتقتل الروح وتسحق الأمل.

نعود منها غرباء تماما: ممزقون، وتائهون وضائعون، لا نعرف أماكن لهونا في الصبا، ونخطئ الطريق إلى النهر. تنكرنا حبيباتنا بعد أن يفشلن في التعرف علينا من جديد. فأرواحنا تكون قد انصهرت هناك مع الرصاص والقصدير ورائحة الدم والبارود، ونكون قد تركناها في حذاء ملقى على قارعة الطريق أو تحت سترة محترقة. بدونها لن تتعرف علينا أمهاتنا، ولن يشممن رائحتنا التي مهما كبرنا وسافرنا تبقى مختلطة دوما برائحة لبن صدورهن. بدونها لن تتعرف علينا أيضا حبيباتنا وزوجاتنا اللاتي وضعن عليها، قبل الرحيل إلى الحرب، علامات خاصة مثل البصمات حتى لا نتوه منهن أو نضيع بين القطيع.

المرأة رمانة الميزان في السلم وفي الحرب. هي تكره الحرب بالسليقة وبالتكوين وباليقين. ولذلك ليس سرا أن تسلمنا امرأة لامرأة أخرى من أجل ميزان الكون والحفاظ عليه. إياك أن تصدق أنك الفاعل والمتصرف الوحيد، أو أنك أنت الذي تختار. هي التي تختار وتمنحك كل الفرص الممكنة للصيد والاختبار. دعك من المتعة والمكر وكيد النساء، وابق معي في الحرب قليلا. أمك تسلمك لزوجتك أو لحبيبتك. كل منهن تحدد رائحتك تبعا للمسافة بينكما، وتحصى عدد خلاياك واختلاجات روحك. فبالله عليك، أي امرأة يمكنها أن تبعث ابنها أو حبيبها إلى الحرب؟! اطلب منها أن تكون ابنة الدولة أو ابنة الوطن، طالبها بالسجود والركوع كل يوم مائة مرة للدولة والوطن. ستؤكد لك أنها تحب الدولة وتعشق الوطن. ستنفذ أوامرك ومطالبك بكل أريحية، لكن الابن والحبيب أمر آخر تماما، “فلا تقربوه، ولا تنتزعوا تلك القطعة مني”. هكذا تقول وهي على استعداد لمواجهة العالم والذهاب مشيا إلى أبعد نقطة في المجرة. هل تعرف لماذا تصمت المرأة وتنظر في عين العدم عندما تفقد تلك القطعة؟! إنه ذلك العذاب الذي يمور في أحشائها ولم يجد إلى الآن الشكل المناسب للظهور أو الإعلان عن نفسه. إنه عذاب الفقد. وعذاب الفقد ليس كوجع الولادة. الفقد عدم، والولادة حياة. والحرب تسحق كل شيء في طريقها، مهما أعدنا الإعمار، ومهما صدقنا هؤلاء الزعماء والقادة والإعلاميين والنخب التي تعهتاش على الكلام والشعارات والأمجاد الغابرة فمن سيعيد الإنسان، ومن سيعيد بناء الذاكرة، ومن سيعيد الولد إلى صدر أمه وحضن حبيبته؟! هل عرفت الآن، لماذا تكون المرأة رمانة الميزان وضمانة الأمن والسلام؟!

لما عدنا من چورچيا اكتشفتُ أن الشقة الكائنة في الطابق الأول، بجوار المصعد، قد أصبحت مشغولة. لمحت سيدة جسدها بحجم جسد طفلة بعينين زرقاوين رائقتين وشعر قصير وملامح مذهولة. سألتُ عن جارتنا الجديدة، فضحكوا وقالوا إنها موجودة قبل أن أولد، وأن هذه شقتها، وأنها ولدت هكذا لأنهم لم يروها إلا بهذا الوجه وبهاتين العينين، والقمح والذرة وبقايا الخبز في يدها.. لم أندهش، ولم أقاوم ذاكرة الحرب والدم ومحاولات النسيان.

كانت ترد على تحيتي بإيماءة من رأسها الصغير. ولما اعتادتني قليلا، صارت ترفق هزة رأسها بابتسامة خفيفة خجولة متوجسة ومترددة. اكتشفتُ أن لا أحد يلقي عليها التحية. كانوا جميعا مستائين منها ومن صمتها وحزنها، ومن علاقتها بالطيور. وكثيرا ما قدموا ضدها الشكاوى الرسمية لأن طيورها تسد فتحات التهوية وتعطل عمل أجهزة التكييف.

كانت تسير دوما، في الصيف والشتاء، بأكياس القمح والذرة وبقايا الخبز. تجمع طيور المنطقة، معلنة عن سعادتها ببناء جسر بين كائنات تخاف بعضها البعض، كائنات وضعت الطبيعة بعضها في موضوع الصياد مهما تَعَلَّمَ وتَحَضَّرَ، والبعض الآخر في موضوع الضحية مهما وهبته من أجنحة وقدرة على التحليق. يبدو أنها كانت مؤمنة بوحدة الكون ووحدة الطبيعة ووحدة الخلايا الحية بكل عناصرها وأشكالها. لم تكن تنظر إلى أحد أو تلقي التحايا أو حتى تنتظر أن تسمع صوتا بشريا. كانت مكتملة ومكتفية بذاتها وبرسالتها: امرأة تجمع الطير وتطعمه وتبعث به مجددا نحو الحياة.

لا أحد يزورها سوى امرأة تحمل بعضا من نفس ملامح الصورة الموجودة في إطار على باب الشقة لشاب بعينين زرقاوين واسعتين وشعر طويل وملامح تشبه العصافير. كانت زيارات المرأة الشابة للعجوز متباعدة. وربما كانت غير متباعدة، وإنما تختلف أوقات رؤيتي لها. لا يقين هنا حول كثرة الزيارات أو قلتها، ولا يقين أيضا بأبعاد علاقة المرأتين. لا أحد يعرف علاقتهما بالضبط، ربما كانت ابنتها أو أختها. كل ما هنالك أن امرأة شابة تزور امرأة عجوز في فترات متباعدة أو غير متباعدة وفي الأعياد والمناسبات.

في الأعياد الرسمية كانت تنزع صورة الفتى من على باب الشقة، وتحملها مع أكياس القمح والذرة وبقايا الخبز، وتجلس خلف البناية تطعم طيورها وتحكي لهم عن الفتى. كانت تدور بين الطيور وتعرض الصورة لكل طير وتقول كلاما كثيرا. وتصمت عندما تشعر بوقع أقدام قريبة. جاءت الشرطة أكثر من مرة لردعها بناء على شكاوى السكان. لكنها كانت تختفي إلى أن تهدأ الأمور، وتعود إلى الظهور وعلى وجهها ابتسامة جادة ساخرة تشبه ابتسامات الانتصارات الصغيرة. في غيابها كانت الطيور تأتي على استحياء. تنتظر، وتلف وتدور، وتحوِّم هنا وهناك وكأنها جاءت إلى وليمة غير مدعوة إليها. ولما يحط الليل، تصدر أصوات بكاء خافتة وتذهب لتسكن الأشجار القريبة.

كانت سكنا للطيور وبيتا ومأدبة عامرة وصدرا حنونا. هكذا أخبرتني الطيور يوما ما في الحلم. وفي اليوم التالي، وجدتُها تحمل أكياس القمح والذرة وبقايا الخبز وصورة الشاب، وإطارا مذهبا جديدا به صورة ضاحكة لتلك المرأة الشابة التي غابت فجأة منذ عدة شهور. علَّقتْ الصورتين على ظهر البناية، وطلبت من عابري السبيل أن يأتوا إليها بحجر كبير، صَنَعَتْ منه مقعدا مريحا. وراحت تخاوي الطير وتنظر بذهول إلى المارة وكأنها اكتشفت للتو أنهم أحياء.

مع الوقت راحت تنسى وتغفو على مقعدها الحجري الجديد، بينما الطيور ترفض الصعود إلى أشجارها. كانت تنسى هي الأخرى وتغفو حولها، ربما لتحرسها، وربما لتحميها من لسعات برد الليل، أو تحمل إليها ملامح الشاب والمرأة من الإطارين وتعيد رسمها من جديد بشريط ذكرياتها. لا أحد يعرف. كل ما هنالك أنني سألتُ ابني الصغير يوما عنها بعدما طال غيابها، وطالت مظاهرات الطيور في المنطقة والمناطق المجاورة، ورحنا نعتاد بكاء الطير وهو أصعب من بكاء الطفل. فقال إنها فارقت الطير والطفل والحياة. فطفرت من عيني دمعة، ولم أستطع النهوض من فوق مقعدي الحجري القديم. الطير يقبل من كل حدب وصوب وأغنية جماعية يتردد صداها ويرتفع حتى وجه السماء والجيران ينظرون في ذهول ويبتسمون من دون أن يستدعوا الشرطة.

أستيقظُ قرب الظهيرة وأنا أشعر بالاختناق. أفتح النافذة بسرعة، تقتحمني دفقة من هواء أول مارس محملة بلدغة صقيعية وببعض البهجة البيضاء وبنبوءة عن استمرار هطول الثلج حتى أول أبريل. أطيل النظر إلى المقعد الحجري الذي أصبح مقعدي بعد مغادرة المرأة صاحبة الطير. أسرح بخيالي بعيدا، وأتسأل: “كم مقعد حجري خلف كل بيت في كل مدينة وقرية؟ كم أب وأم جلسوا على هذه المقاعد يتلون بعضا من ملامح أبنائهم الذين ذهبوا ولم يعودوا؟

أفتح التلفزيون، على القناة الثقافية، فأفاجأ بموسيقى أرام خاتشاتوريان ترتقي أعلى قمم الحزن والغضب، تصيبني رعشة خفيفة وأنا أضع كنكة القهوة على النار. أنظر إلى الخلف وأبحلق في الشاشة وأنا أعرف بالضبط ماذا سأرى. لكن يبدو أنني صرت أستمتع بالألم: ها هو سبارتاكوس، في نسخته القديمة بالأبيض والأسود قبل أكثر من نصف قرن، مرفوعا على الأيدي كشاهد على الزمن وعلى محطات اليأس وفورات الفرح القصيرة والانتصارات الغادرة، مثل شاهد فوق القبور جنود مجهولين لا يتذكر منهم أحدُ شيئا إلا لمعان عيونهم بالأمل وابتساماتهم الخاطفة الخائفة.. ها هو راقص الباليه فلاديمير فاسيليف يتماهى مع سبارتاكوس ليستدر دموع “سورا” التي تلعب دورها زوجته يكاتيرينا ماكسيموفا..

أصب القهوة وأجلس مقابل النافذة الزجاجية الضخمة، المواربة قليلا من أعلى، أبحلق مجددا في ندف الثلج المتطايرة، وخاتشاتوريان اللعين مصمم على اختراق روحي. أهرب بعينيَّ في أكوام الثلج التي تغطي السيارات والشارع والرصيف لكي لا تصطدم بتحليقات “سورا” في الهواء صارخة من أجل جرعة حق أو حرية، وربما من أجل مزيد من الألم.. لا أحد يعرف بماذا كانت تشعر بالضبط وهم يرفعون جسد حبيبها وبطلها فوق أكفهم.. فاسيليف وماكسيموفا أيضا زوجان، تماهيا منذ أكثر من نصف قرن مع سبارتاكوس وسورا فتأسست سردية جمالية جديدة في فن الباليه من أربعة عناصر بشرية في معادلة واحدة لا يمكن أن تتزن بدون أحدهم..

أتنفس بصعوبة، وآخذ رشفة من كوب القهوة الضخم. أتذكر هؤلاء الملاعين على الفيسبووك وهم يسخرون من ذلك الذي يرتشف القهوة ويحتسي البيرة في الصباح على صوت فيروز ليعتلي قمة الثقافة والإبداع. تعيدني موسيقى خاتشاتوريان إلى لحظات رعبي الحقيقية، وأنا أُقِّرُ للمرة الألف بيني وبين نفسي، أنني لا أحب باليه سبارتاكوس، ولا أحب أي أفلام أو مسلسلات عن سبارتاكوس. بل ولا أحب سبارتاكوس نفسه. اللعنة على هذا السبارتاكوس..

المسنون والعجائز يعتريهم اليأس مع تقدم العمر، تتكرر على شفاههم الناشفة عبارة “مفيش فايدة”. ترتعد أجسادهم عندما يشاهدون باليه سبارتاكوس، يبتلعون دموعهم لكي لا يرى أحد أحلامهم وكوابيسهم وخيباتهم وأمنياتهم الفاشلة. هم لا يشعرون بالخجل، وإنما بالغضب على أنفسهم، وباليأس من العدم المحيط، ويديرون وجوههم بعيدا عن شاشة التلفزيون، ولكنهم يذرفون دموعا حارة وحارقة ومالحة في الخفاء وينظرون بطرف عينهم إلى ملامح سورا وهي تبكيه وتبكيهم في آن معا.

الشباب أكثر قوة وحيوية وأملا. يعشقون “سورا” في العلن، ويرون أنفسهم في الأحلام محل سبارتاكوس، حتى أن بعضهم ينال منها قبلة، والبعض الآخر لمسة أو بسمة أو نظرة.. لا يبكون ولا يشعرون باليأس. يؤكدون لسورا أنهم حتى وإن استيقظوا من الأحلام وحملتهم الأيدي، فإنهم لن يذهبوا بعيدا.. سيُبْعَثون من جديد مثل طيور النار لكي ينجزوا المهام التي تقاعس العجائز عن إنجازها..

لا أحد يعرف كيف كان يبكي خاتشاتوريان وهو يستل مسامير الألم من بين ضلوع الصبي، يعزف على حواف روحه أهازيج الغد، يلهم الكون ترانيمه، ويمنح الغيث آخر قطرة ندى لعل وعسى تتغير الأمور في أحد العروض ويتأخر القتلة قليلا فينجح العرض في إرضاء العجائز ويؤخر موت الصبي ويؤجل دموع اليأس ولو لدقيقة واحدة في عيونِ عجائز يَطُلُ منها شغف الأطفال ومرارة العمر. لا أحد يعرف بماذا كانت تشعر ماكسيموفا نفسها وهي تتألم من أجل سورا، وترقص رقصة الأمل بقلب مكسور على تلك النقاط الهشة من روحها المحلقة فوق إكليل العدم الذي يعتلي رأس الصبي المحمول على الأيدي..

“لا فائدة”. لا جدوى. لا أمل. لا مستقبل”… يتوقف هطول الثلج، أشعر بأصابع قدميَّ العجوزين تتجمدان. أغلق النافذة والتلفزيون بضربة واحدة. أتنفس بارتياح وكأنني انتصرت على الألم. وفي البيت المقابل، وربما في البلد المجاور أو في كوخ بإحدى القارات النائية، يتنفس شاب بعمق وثقة وكبرياء، يبحث عن شيء آخر تماما غير الحرب، وينظر بثقة وإيمان إلى جسد الفتى المسجى فوق الأيدي ويحيط دموع سورا، ووجه سورا، بعينيه واعدا إياها بالمستحيل..
……………
(من مجموعة “لارا”)

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم

ashraf al sabbagh
تراب الحكايات
د. أشرف الصباغ

النملة

ashraf al sabbagh
تراب الحكايات
د. أشرف الصباغ

الكلب