حوار: مها شهبه
عندما ظهرت رواية باب الليل للروائي المعروف وحيد الطويلة انهالت المقالات النقدية من كبار الكتاب المصريين والعرب وفي مقدمتهم صبري حافظ ومحمد برادة لدرجة جعلت الكثيرين يتوقعون أن الرواية الجيدة لا بد أن تفرض نفسها في ميدان الجوائز العربية, ولكن الرواية التي أعيد طبعها أكثر من مرة خلال العامين الماضيين انتظرت طويلا للفوز بجائزة ساويرس لكبار الكتاب.. في هذا الحوار مع الروائي وحيد الطويلة يتحدث عن فكرة الجوائز وأثرها علي عمل الروائي أو الكاتب ويري أن روايته لم تسع للجوائز بل سعت إلي تحري اللغة الروائية والتجربة من الرؤي التقليدية فقدمت قضية فلسطين صورة إنسانية بعيدة عن التشنج السياسي أو التصورات سابقة التجهيز.
الطويلة لا يري أن الروائي يكتب نصا واحدا في حياته مؤكدا أنه يحاول تغيير بنية السرد وبنية اللغة حتي لا يكرر نفسه مبررا الانتقال من ألعاب الهوي وحكاية القرية إلي باب الليل بالتجربة الروائية فقط لأنه لا يؤمن بما قيل عن الرواية من أنها رواية الأمة فهو يري أن الرواية ليست فكرة أيديولوجية يتم التعبير عنها بالسرد الروائي.
وهذا نص الحوار مع الروائي الكبير:
> كيف تقرأ تأخر قطار الجوائز في الوصول إلي باب الليل رغم الاحتفاء النقدي بها منذ صدور طبعتها الأولي؟ وهل كان الاحتفاء الكبير بها عائقا أمام الجوائز ؟.
نعم تأخر قطار الجوائز عنها كثيرا, هل من حقي أن أتكلم عن هذا ؟ وهل هو مقبول مني؟ لست أدري.
كل ما يمكنني قوله إنها منذ ظهورها صنعت حالة قراءة واحتفاء كبيرين لم ينتهيا حتي الآن. علي مستوي القراءة وعلي مستوي النقد, أظن أنها أكثر رواية كتب عنها في السنوات العشرين الأخيرة, أقول ذلك بامتنان لمن أحبوها وكتبوا عنها بمحبة قصوي حتي أن ناقدنا الكبير صبري حافظ كتب عنها ثلاثة مقالات متتالية ثم أعقبها بدراسة فاتنة, ولم يمر يوم واحد منذ صدورها إلا وكتب عنها أحد المريدين علي صفحات التواصل الاجتماعي, أقول ذلك بسعادة كبيرة وبكثير من الخجل فأنا أزعم أنني شخص خجل في الحديث عن نفسي وأكاد أذوب لو تحدث عني أحد أمامي.
كتبت قارئة علي صفحتها ننتظر هذه الرواية في قائمة البوكر, لكن روايتي حين وصلت والحقيقة أنها وصلت في الأيام الأخيرة لكن ضمن الوقت المتاح- كانت الكعكة قد تم تقسيمها.. غضب كثيرون وتنفس آخرون الصعداء, غضب عبد المنعم رمضان وآدم فتحي, حتي أن روائيا مغربيا شهيرا قال إنه لم ينتظر البوكر يوما إلا سنة صدور باب الليل وأصيب بخيبة كبيرة, كما أن الرواية تعرضت لـ كرباج في جائزة الجامعة الأمريكية في العام نفسه.
علي أية حال, لا أنظر ورائي في غضب..
جملة واحدة تواترت علي الألسنة عند حصولها علي جائزة ساويرس: لقد تأخرت الجائزة كثيرا. الجوائز في مصر وجوائز عربية كبيرة تمنح كشهادات التطعيم, بالدور والمرض وتغطية نفقات الزواج وأحيانا لتشطيب الشقق, وتمنح بعض الجوائز بمنطق المحاصصة والتقسيم بين الدول والأسماء, إنهم يقتدون بتجربة لبنان في التقسيم, فقط من دون طائفية وإن حلت محلها الشللية بالطبع.
> هل تؤمن بأن القراء هم الجائزة الكبري للكاتب أم أن الجوائز العينية والمالية لها دور كبير في دعم مسيرة الكاتب ؟.
قالت لي فلورا المنسقة العامة لجائزة بوكر: يكفي أنك حصلت علي جائزة الجمهور, لكنني كنت غاضبا وقتها ولم أقبل.
نعم الجوائز تصنع حالة مبهجة للكاتب والمفروض بعدها أن يمضي في طريقه ليكتب لنا, لكن مشكلة الجوائز في العالم العربي رغم جوانب إيجابية كثيرة أنها أصبحت حكم قيمة علي النصوص.
ودعينا لا نذهب بعيدا.. إحدي الروايات الجيدة التي وصلت للقائمة القصيرة في إحدي الجوائز لم تبع أكثر من عشر نسخ قبل وصولها, وبعد ذلك نحن أمام الطبعة الرابعة.
علينا أن نعترف ولو لم نقبل أن وصول رواية إلي جائزة يصنع للكاتب زخما كبيرا حتي ولو كان النص متوسطا أو رديئا, صحيح أن الكبار لم يحصلوا علي جوائز والجوائز لا تصنع كاتبا حقيقيا, لكنها إن ذهبت لنصوص ردئية أو تجاوزت نصوصا كبيرة تشوش المشهد العام وتخلق بعض المرارة.
لا تصدق من يقول الآن إنه لا ينتظر جائزة, ـ إلا من رحم ربي.
حصلت باب الليل علي جائزة واضحة وكبيرة من القراء, لكن الكثيرين كانوا يكتبون أو يتهامسون من خلفي: لماذا لم تحصل علي جائزة؟.
جائزة القراء أكبر جائزة لكن الناس والإعلام يمضون خلف المنتصر بجائزته لا بنصه.
كنت أجلس مع اثنين من الروائيين أحدهما يستحق كل الجوائز, بادرته بالقول: حين أحصل علي جائزة سوف أهديها لك, رد الروائي الآخر: مش بس لما تاخد جائزة الأول!!!.
الكتاب في العالم العربي في غالبيتهم فقراء, بالكاد يعيشون, تنعش الجوائز أرواحهم, كما تحمل عنهم عبء تسديد مصاريف المدارس, وتفتح الباب لاعتراف زوجاتهم بهم.
> السيرة الإبداعية لأي كاتب تتضمن في بعض الآراء النقدية نصا واحدا يتلون في صيغ كثيرة هل توافق أولا علي هذه المقولة ؟, وهل تري سيرتك الآن كتبت نصها الأساس أم ما زلت تختبر طرائق السرد في اجتلاب الهامش الحياتي إلي متن الكتابة؟
سمعت رأيا نقديا ذات يوم من اثنين من الكبار: أن إدوار الخراط يكتب رواية واحدة, سمعت هذا الكلام عن كثيرين أيضا في متن الرواية العربية.
أظنني دون إدعاء, أحاول أن أغير اللعبة من رواية لأخري, بل اعتبره التحدي الحقيقي أو المشوار الحقيقي الذي يليق بكاتب.
تعلمت من المقرئ الشيخ مصطفي إسماعيل ألا أعيد تلاوة آية بنفس الطريقة مهما هاج الجمهور وزاد صخبه, ومهما كانت جميلة أو فاتنة أو وصلت للذري الإبداعية, لأنه لا يريد في لحظة أن يكرر نفسه مهما كان أدؤاه عظيما, لذا لم يستجب يوما للجمهور بل فرض عليه قاعدة بحيث لا يستطيع مستمع أن يطلب منه إعادة نفس الآية مرتين بنفس الطريقة.
لن أكتب كثيرا, وأكاد أدعي أنني أكتب كل رواية بطريقة مختلفة عن الأخري.
دعيني أتخيل أنني لم أكتب نصي الأساسي بعد خاصة أن أطباقي علي مائدة الرواية تكاد تكون متنوعة رغم قلتها, ورغم أنني واقع في هوي باب الليل وألعاب الهوي لكن ذلك لن يكون هواي, وأتذكر الشيخ مصطفي جيدا.
> الانتقال من ألعاب الهوي إلي باب الليل قد يراه البعض نقلة مفارقة بين رواية القرية ورواية الأمة, ولكن البعض يراه تجربة جديدة في السرد الروائي يحب التنقل ويعتبر الحياة تجربة سردية.. كيف يري وحيد الطويلة التجربة إذا رآها بعين القاريء علي مقهي من مقاهيه؟.
هناك كلام كبير عن أن الرواية ترصد التحولات الكبري, لا أستطيع أن أقول أنني مفتون بهذا لكنني لا أدعي أنني بعيد عنه.
في ألعاب الهوي كنت معنيا بالحلم في الأساس, لكنني لم أغادره حتي الآن, ربما كما يقول فيلليني: الأحلام هي الحقيقة الوحيدة, ولا شيء أصدق منها.
نعم هناك نقلة, هناك تغيير في شكل اللغة بما تحمله من مضامين, هل يمكن أن أتجاوز خجلي لأقول: أنني أكتب كل رواية بطريقة مختلفة؟ هل أنا حريص علي تغيير اللغة التي أتحدث بها للعالم, هل كل رواية تأتي بلغتها, تخلقها هي من رائحة الشخصيات وأحلامها وهمومها وكوابيسها…
قد تبدو شخصياتي مهمومة أحيانا بحلم شخصي لكنها في التصور العام مهمومة بالأشواق الإنسانية أو ما نسميه بالمصير الانساني.
إن أشواق وهموم امرأة في قرية موكوندو التي اخترعها ماركيز تتقاطع وقد تتماهي تماما مع أشواق امرأة في قريتي الواقعة في قلب البراري.
لا أظن أن هناك مفارقة, أنا أبن الغلابة والمقهورين والمغنين وصديق الحالمين وأصحاب الكوابيس في كل مكان علي وجه الأرض, لذا أذهب إلي أن الحياة تجربة سردية بحد ذاتها.
> قراءة الحياة من المقهي هل هي قراءة عابرة بحكم أن المقهي مؤقت أم أنها قراءة المؤقت والعابر بمنطقه الذي يتجلي في المقهي؟, وهل يصلح المقهي لـ تيمة رمزية للوجود الإنساني باعتباره ملاذا للراحة ومحطة انتظار وتأمل للطريق والعابرين فيه وهل يمكن قراءة باب الليل باعتبار الكتابة مقهي انتظار او ملاذ لشخوص ضلت طريقها وفقدت مبرر وجودها ؟.
حين ننتهي من النضال نحط في المقاهي بائسين كأبطال باب الليل, حتي ولو كنا خططنا للمقاومة من داخله كما فعل أبو جعفر المهزوم في باب الليل.
ربما كان المقهي حيلة للكتابة عن الخارج مهما كنت في الداخل, لتري ما يحدث في الخارج داخل مكان عابر في لحظة غير عابرة.
نمت في المقهي طيلة أيام الثورة التونسية, منذ اللحظة التي تم تطبيق حظر التجوال, في الداخل كان الهاربون من سطوة الدولة البوليسية لبن علي والمقاومون لنظامه يخططون لليوم التالي الذي حلموا به قبل سنوات, في الداخل كان يمكن أن تتخيل أنك ستغير مسار الغد من المكان العابر.
هذا في الواقع, أما علي المستوي الروائي قد يبدو ذلك صحيحا للحظة عند التوقف أمام الشخصيات الفلسطينية, هم لم يفقدوا فقط مبرر وجودهم لكن الثورة التي انتفضوا فيها أصبحت بوجه متغضن وعكازين كبيرين, قد تبدو لحظة مأساوية ومثيرة للتقيؤ أن تتفرج عبرهم علي مآل الثورة, القصة كما قال أبو شندي بطل الرواية أن الخسارة كانت في الأرواح والآن أصبحت الخسارة في الروح.
نعم هو تيمة رمزية للوجود الانساني, وكما قال أحدهم ذات يوم: مقهاي منفاي, مقهاي موطني, انظري إلي وجوه الناس في المقاهي في أية بقعة من العالم ستعرفين من أية زاوية كيف تسير الحياة هناك.
> المقهي كمستقر ومقام لكثير من المثقفين في مصر.. ما سلبيات وإيجابيات هذه الحالة وخاصة في قعدة الجمعة التي تحولت إلي ما يشبه التشكيل الثقافي الاحتجاجي الذي يدير ظهره للمؤسسة لكنه يصغي لنهر الإبداع ؟.
مقاهي المثقفين في مصر لها تاريخ طويل, ربما خفت في السنوات الأخيرة, لكنه يظل حاضرا ومؤثرا, قعدة الجمعة قعدة حرة بدأت بمبادرة شخصية بين شاعر وكاتب, أنت تعرفين أن كل القضايا الكبري في تاريخنا اعتمدت: الشخصانية في الدين والسياسة, بين الأنبياء والزعماء, اتسعت بمرور الوقت وشملت كل الأطياف إلا من بعض الخوارج الذين لايريدون لأي شكل جماعي أن يتألق ويستمر عداهم.
ليس هناك عنوان محدد للجلسة سوي حريتها, ودأبها علي خلق المعرفة, حتي القضايا التي يتم طرحها ومناقشتها لا يتم الإعداد لها مسبقا, بعضها آني بحكم الحاجة الإنسانية و الباقي ثقافي بالمعني الواسع.
في الحقيقة هي لم تكن شأنا احتجاجيا, إلا في مواجهة القبح أو لنقل في محاولة للطيران خلف الجمالي والإنساني, ربما مع الوقت رآها البعض من هذا المنظور, وربما بفضل اتساعها وقدرتها علي الاستمرار والقفز فوق التحزبات والمساحات الضيقة وقدرتها من داخلها علي الإمساك بمعني إنساني وحراك ثقافي بالأفكار..
> البعض ظلم باب الليل وقرأها باعتبارها عملا تغلب عليه الإيروتيكية, لماذا يخاف العرب من قراءة الجسد؟.
نحن نخاف أجسادنا بشكل مخيف, لا نستطيع أن نحبها بما يليق بها, رغم أننا نفكر فيها ليل نهار.
فكرت في لحظة أن أسمي الرواية بعنوان: الجسد, لكنني خفت أن أسلم الرواية مجانا لمقصلة الذين سيقرأونها بسرعة من هذا الباب.
نحتفي بالنفزاوي سرا ويتبتل البعض في الكاماسوترا الهندية علنا, لكن حين نقرب أجسادنا كأننا ارتكبنا الخطيئة الكبري.
إحدي المتابعات علي موقع جود ريدز أعطت الرواية تقييما بدرجة قليلة لأنها اقتربت من الجسد علي حد تعبيرها.
علي أية حال لا أدافع, فقط أقول أنني لم أكتب عن الجسد, كنت أحاول تشييده داخل النص كما يليق بنا أن نحترمه ونحبه.
العرب في الاحصائيات هم أكثر من يدخل علي مواقع الجنس علي شبكة الانترنت, ونحن في مقدمة دول العالم في التحرش بالنساء, حين يكتب أحدنا عن الجسد فكأنه اقترف الكبيرة.
نعم نحن نكره أجسادنا وإلا لما تحرشنا بها.
ربما أجمل ما في الرواية- والكلام ليس لي- أن الايروتيكا أيضا تبدو حيلة خادعة للحديث عن فلسطين, صبري حافظ قال إن هناك روايات كثيرة من كبار كتابنا كانت عن فلسطين لكن لم تكتبها رواية بكل هذا العمق كما فعلت باب الليل.
هل هي رواية إيروتيكا, أم عن فلسطين, أم عن تونس؟ واحد متنطع سأل: أين توجد تونس!! وكأنني كان يجب أن أرسم له مطرا وبيوت بيضاء بشبابيك زرق, لكنه لم ينتبه إلي أن تونس مزروعة داخل اللغة, داخل حركة الجسد, أظن أنني أحببت بائعات الحب وكتبت عن تقديرهن لأجسادهن حتي ولو تم تصريف هذا الاحتفاء في اتجاه آخر.
علاقتنا بالجسد مازالت محكومة بميراث ثقيل أثره ممتد في دواخلنا, لكن الحديث بدأ يتواتر ولو بين طبقة واحدة عن لغة الجسد بين اثنين, عن لغة الجسد حين تحدث الرئيس أوباما, أو عن مشتبه به كان يكذب, لا بأس فلتكن البداية.
> عملت في الجامعة العربية هل ثمة خيط ثقافي رفيع يجمع العرب في اللغة أم أننا قبائل سردية وشعرية تكتب اللغة نفسها ؟.
اللغة ستبقي رغم كل المماحكات ومحاولة الانفصال هي ما يجمعنا, فقط علينا أن نوسع أرواحنا قليلا لنستوعب اختلافنا, وقبل ذلك لنمجد هذا الاختلاف, نحبه ونعي أنه أحد مصادر الثراء لدينا.
صحيح أن هناك تباينات واضحة في استعمال اللغة, فبعض عربنا مازالوا يستعملون لغة كأنها خارجة من القاموس والبعض مازال يستعمل اللغة التي كتب بها رفاعة الطهطاوي, والبعض يبحث عن قوميته في لغة أخري, لكن لا بأس, القاسم المشترك كبير.
عفيفي مطر كانت له حجة قوية حين نعترض علي ألفاظه الغريبة, كان يقول: لو لم استعمل هذا اللفظ لمات.
سأحكي لك حكاية: قرروا يوما في الجامعة العربية أن يصنعوا حلقة عن كل بلد تحت عنوان مسلسل الحضارة, تحكي كل حلقة عن إحدي الدول وبعد خلافات كالعادة اتفقوا علي أن تكون الحلقات تبعا لأبجدية أسماء الدول, أظنهم في النهاية لم ينتجوا سوي حلقة واحدة ثم مات الموضوع كالعادة, لا بأس إذا هناك من يحافظ علي الأبجدية.
ولننظر إلي أنفسناـ اللغة تتدهور في المدارس الأجنبية بشكل مزر, لم يعد في مصر من ينطق حرف القاف, تحولت كافا..
لتبق الكتابة رغم أننا أمه لا تقرأ, ليبق الفن بكل تجلياته أحد حراس اللغة, ليبق الغناء بكل أشكاله, ليبق التنوع دليلا علي شباب اللغة وقدرتها علي التجدد.
> تابعت الربيع العربي وهو يتشكل جنينا في تونس كيف تري طفل الحرية الذي جاء مشوها؟.
صحيح أن بوعزيزي انتفض ضد السلطة البوليسية المستبدة التي كان عنوانها الأول تونس, حتي وإن نجحنا نحن في مصر في مقارعتها بفقرتي زكي بدر وحبيب العادلي, لكن الأجمل أن ما صنعه بورقيبة لسنوات قد تجلي في الشارع, مجتمع مدني بكل تجلياته حتي ولو لم يقصد بورقيبة ذلك تحديدا.
خرج الناس إلي الشوارع ضد الاستبداد مسلحين بالتعليم والثقافة التي وضعها بورقيبة عنوانا لمشروعه, مسلحين بالانتفاضة لكرامتهم, شاهدت بأم عيني طابورا بلغ الأربعة كيلومترات في أول انتخابات بعد ثورة تونس, طابور يصرخ في وجه الغنوشي: ارحل. لكنهم لم يمنعوه من الإدلاء بصوته.
إنني أهمس بمحبة في أذن الرئيس السيسي: في تاريخ مصر كل الأشياء الكبيرة تأتي من فوق: التعليم ثم التعليم ثم الثقافة, لا توجد في تونس سوي مدرسة خاصة واحدة والتعليم مجاني حتي الثانوية العامة وبكفاءة,.
وأضيف له أننا شركاء ونريد له أن ينجح ونقف معه حتي لو اختلفنا علي الرؤية والوسيله.
نعم طفل الحرية جاء مشوها, لكن التاريخ يقول إن كل التحولات الكبري لم تحدث بين يوم وليلة, هناك قوي الفساد التي عادت بقوة, وبنظرة بسيطة ليست سطحية علي مشهد الانتخابات الأخيرة وإذا ما تجاوزنا العصبيات والقبلية التي مازالت تحكم قطاعا كبيرا من مجتمعنا, فإن الصراع خارج المدن الكبري في المراكز كان بين ضباط البوليس والسلفيين. إن الحضور الكثيف للضباط يشير إلي أن نظرة الناس للسلطة في هذه المناطق لم تتغير, وعلي الدولة أن تسأل نفسها بشجاعة: لماذا حضر السلفيون في تلك الأماكن وأن تعالج الأسباب وألا تركن للعدد الضيئل منهم الذي فاز.
ولن أضيف جديدا حين أذكر قناعات أمريكا تحديدا نحو تسليم شمال إفريقيا كله للإسلام السياسي.
> لماذا تعثرت الثورة ونجحت الكتابة عنها وكيف يمكن لسرد الثورة أن يستقيم وماذا ينقصه ليكتمل نصا محتمل الوجود والبقاء؟
الطبخة مازالت حارة, وطعمها يجري علي اللسان ويعشش في الروح, ولم ينقطع الحديث عنها رغم تعثرها الواضح ليس علي أرض الواقع, بل في تبدل قناعات بعض الناس مهما كانت الأسباب وراء هذا التحول.
كأن الجملة تم تبديلها.. حين أسمع كلمة ثورة أتحسس مسدسي, مناخ التخوين والاستقطاب علي الطاولة, لا أحد علي استعداد لأن يسمع رأيا مغايرا, وبناء الدول برأي واحد وصفة رديئة هذه الأيام.
أخشي ما أخشاه أنه لم يعد أمامنا غير السرد, لكنه من وجهة نظر أخري ربما يكون هو الجسر والإشارة إلي الطرق الصحيح.
الأمم لا تستطيع أن تغادر التاريخ والجغرافيا مهما كان اتجاه الريح معاكسا في لحظة, والتاريخ لن يخون عشاقه.
السرد سيكتمل والحكاية ستجد نهاية لها ولو بعد حين, وهذا ليس نقصانا, نعم هناك ثقوب, لكنها الثقوب التي تسمح باكتمال النص.