د. عـزة مـازن
برحيل القاص المبدع سعيد الكفرواي، رحمه الله، فقدت القصة العربية أحد أهم أعمدتها وأساطينها البارزين. نُشر المقال التالي “الطفل السارد في قصص سعيد الكفراوي” أوائل عام 2016 بمناسبة صدور مجموعاته القصصية الأولى مقترنة بالإبداع الفني للإبن الفنان عمرو الكفراوي، الذي استلهم السرد القصصي لوالده في لوحات فنية مصاحبة:
مع نهاية عام 2015، صدرت المجموعات القصصية الأولى للمبدع سعيد الكفراوي – أحد أهم أساطين القصة القصيرة في العالم العربي – بعنوان “زبيدة والوحش”. ضم الكتاب مجموعته الأولى “مدينة الموت الجميل” (1985)، ومجموعاته “ستر العورة” و”سدرة المنتهى” ، و”بيت للعابرين” , و”مجرى العيون” و”دوائر من حنين”. وهي المجموعات الست التي يتبلور فيها مشروعه السردي، والذي امتد لأكثر من عشر مجموعات قصصية. يجمع الكتاب الجديد بين إبداع السرد القصصي لسعيد الكفراوي الأب وبين الإبداع الفني للإبن الفنان عمرو الكفراوي، الذي استلهم السرد القصصي في تصميم الغلاف ورسم اللوحات المصاحبة، فجاء الكتاب متعة أدبية فنية بصرية.
على مدى أكثر من أربعين عامًا أخلص سعيد الكفراوي لفن السرد القصصي، فصار واحدًا من أهم أساطين ذلك الفن في العالم العربي. يتمحور مشروعه السردي حول القرية وعالمها المشحون بأصداء الأساطير والموروث الحكائي الشعبي، ويمتزج أحيانًا بالتراث الصوفي والأساطير الفرعونية. يتداخل الحلم مع الواقع، فتشف اللغة وتتكاثف الإيحاءات في رهافة شعرية بالغة. ويمتد الحكي أحيانًا في متتاليات قصصية أو مشاهد تقترب من المشاهد المسرحية، يتماهى فيها السارد العليم مع الطفل الراوي، أو الشاب العائد لقريته يستعيد ذكريات الطفولة، فيحتفظ السرد بدهشة الإكتشاف الأولى.
في كثير من القصص المختارة يدور الحكي حول الصبي “عبد المولى”، فتتواصل الحكايات وكأنها رواية ممتدة متعددة الفصول تتناول مشاهد من حياة هذا الصبي ومشاهداته، أو ربما ذلك الشاب أو الكهل العائد إلى قريته، يغوص في ذكريات طفولته ويتماهى مع الطفل الذي كان. في قصته “صندوق الدنيا” من مجموعة “الموت الجميل” يمتزج صوت الصبي السارد مع الرجل العائد إلى قريته وموطن ذكرياته:
(“وكنت أذهب في الأيام التي مضت إلى حيث جسر النهر، وأقف على قنطرة الخشب، وأظل أرقب الطريق الذي يجئ منه، علني أرى عن بعد راية صندوقه الملونة يلعب بها الهواء حتى أصيح في الأولاد.. العم “أيوب” صاحب صندوق الدنيا.. وكان الوقت يمضي في تلك الأيام التي انتهت، والتي لم يجئ فيها وكنت أرى الناس يعودون من الغيطان منكسرين بتعب النهار، وكانت خلفهم تسقط السماء على الأرض ويهبط الليل”. –عم أيوب.. أعرفك…. غطى صوت المزمار الحواري والأزقة فخرج العيال والبنات يزيطون.. وحده يقف خارج لمة العيال، بينما العم أيوب لم يفارق خياله.. يجلس بين الغلمان ويحكي لهم عن صور الصندوق وفرسانه.. عن الجدود والشطار.. تنهد وقال: “العم أيوب أتٍ مع “الخضر” وبالخير).
وفي قصته “الجواد للصبي.. الجواد للموت” تتوالى مشاهد علاقة الصبي “عبد المولى” بالمهر الذي شهد ولادته، في جو يجمع بين اللغة الصوفية متوارية الإيحاءت والجو الأسطوري المشبع بالتراث الشعبي. في الفقرة الأولى – المشهد الأول – “عن الجواد والبلد”، يروي السارد العليم: (العم سيد مرسي الطيب الصالح… يقص حلمًا يأتيه بعد أن يتوضأ ويصلي وينام.. “هو المهر يأتي مع القمر، في هدأة الليل حينما يكون السكون… أراه أنا العارف بما أرى، عبر هالة من النور على ظهره خرج بعينين.. عين فيها رزق معلوم. وعين مليئة بحبة البركة يقف أمام أبواب الدور، فتفتح.. تخرج نسوة متشحات بالسواد.. يغرفن من الخرج ويملأن مخالي معمولة من قماش الخيام.. تكتفي النسوة ولا تنقص عينا الخرج الملآنتان بالرزق المعلوم وحبة البركة”). وفي مشهد الموت يأتي وصف الساحرة خارجًا من الأساطير والحكايات الشعبية: (غادرت العمة “ألفية” فرنها الواطئ، محدقة في نار المحمة التي لم تهمد بعد.. ألقمت المحمة الحطب الصائف… ضربت جدارها بيدين عجوزتين وصرخت وحدتها: “متى تأتي شياطين الجن؟” زام الهواء في قش السطوح.. عبق الدخان واندفع من “المحمة” ملتفًا، يدور صاعدًا السطوح من المنور الضيق متوزعًا على الدور المجاورة. وجهها الكالح العجوز به فم خال من الأسنان ولها عينا هرة هائجة تنظر بهما بعيدًا…. “عبد المولى تدهسه حوافر فرسه الذي سيدفنونه جيفة”).
وفي المتتالية القصصية “حكاياتان عن الصبي الجليل: 1- الجمل يا عبد المولى الجمل، 2- زبيدة والوحش”، من مجموعة “ستر العورة”، يعود الصبي عبد المولى ليملك دفة السرد، يختلط صوته بصوت الراوي العليم، فتتواصل بينهما الحكاية. يدور الجزء الأول حول صبي ينتابه كابوس يرى فيه جملًا يهاجمه، ولكنه في النهاية ينتصر على مخاوفه ويروض جملًا في الحقيقة. تتواصل الحكاية في جو غرائبي أسطوري لا تفارقه براءة الطفولة ودهشتها ومخاوفها: (… عنق طويل من عظام ووبر، ينتهي برأس صغير دقيق. فيه عينان واسعتان مخيفتان. “لم أستطع أن أقاومهما، وهربت من خوفي بستر عيني حتى لا أرى ما أرى”. شفة مشقوقة كأنما ضُربت بسكين، تلتقط من أعلى الشجر خضرة الفرع، وتلوكه أسنان كحب الذرة. “لو أنني لم أمتط ظهر الأتان وأفارق غرب المرج، وانتظرت أرقب عينَي السمكة التي تحدقني من جدول الماء وتبدو مبتسمة، لو أنني ما تهورت وفارقت أمي التي تنتظرني من أول النهار على عتبة الدار، تضع يدها على عينها وتنظر إلى بعيد وتسأل: ما الذي أخَّر الولد؟”. يدفع بعنقه المقوس سور اللبن فينهدم، وينشر غبار الهدم كدخان. يصنع لنفسه طريقًا يطلب الولد). وفي الجزء الثاني، “زبيدة والوحش”، ينفتح السرد المكون من نصين على رمز الخصوبة في التراث الفرعوني، يمزج بين التراث القروي الشعبي وبين الأساطير الفرعونية التي تحتفي بالخصوبة. يحكي الصبي عن عمته زبيدة، فيُستهل السرد بها تطوق (عنق الفحل بالخرزة الزرقاء المباركة، والحجاب الحارس، والعظمة البيضاء الشائهة، والجرس الصغير الذي يصلصل كلما اهتز رأس البهيم. طبطبت على العنق فدس الثور خطمه في صدرها الغني. ضحكت زبيدة وحلت مقوده وخرجت من الحظيرة). وفي نهاية النص الثاني ينفتح السرد على جوهر الخصوبه ومبعث الحياة وتتحول العمة زبيدة إلى كائن أسطوري يرمز للخصوبة والحياة: (…زبيدة زبيدة زبيدة ضوء قبل المغيب وآخر اختيار للموت والصعود المبكر ناحية سلالة الدم التي من طين ولبن… انتظر انتظر انتظر أيها المندفع لقدرك، قدري هناك عند المغارب لأنك رأيتها تخرج حية عارية من رمسها من غير ثوب يستر بدنها محاطة بنسلها الكثر في العراء من ألوف السنوات تفجر الخصوبة عيالًا وثيرانًا وطيورًا ونملًا وثعابين طالعين من الدم يحذرون حقيقتك – حقيقتي – انتظر انتظر انتظر).
في مشروعه السردي الممتد، يغوص راهب القصة القصيرة، سعيد الكفراوي، عميقا في التراث الشعبي للقرية المصرية، يمزجه بجوهر الأساطير الفرعونية القديمة محتفظا بروح الطفولة في براءتها ودهشتها. في قصصه تشف اللغة وتتكاثف الإيحاءات في طيات نسيج سردي مرهف.