الطبيب والصليب

محمد بروحو
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد بروحو

كان عمري آنذاك خمسة عشر ربيعاً، وكانت لزميلاتي المسلمات أخوات اعتنقن المسيحية. درسنا معًا في الفصل التاسع بالمدرسة الإيطالية، بعضهن اشتغلن مع الطبيب أندرسن في ذاك المشفى الإنجليزي، الذي أقامه قريبًا من بيته. 

في ذلك الصباح الخريفي، انتصب الطبيب واقفًا قبالة المرضى، يلقي درسًا دينيًا، حجوا إلى المشفى لإجراء فحوصات، واحتشدوا داخل قاعة الانتظار. ظلله صليب من خشب العرعار المصقول، ثُبت فوقه مباشرة، واستمعوا له بامتعاض، ناظرين بتأفف في وجوه بعضهم البعض. 

في ذلك المساء خيم على بيت أمي رحيمة شجن قاتم، لقد عاودها المرض من جديد وبات الأمل في شفائها ضئيلا.  

شيئان اثنان لازماها في سنواتها الأخيرة؛ أمراض الشيخوخة وفقدان الذاكرة.

ظلت طريحة الفراش لأسبوع كامل ولم ترق صحتها، لذا قررت زيارة الطبيب. كان طبيبها الحكيم، استأنست به وألفت تطبيبه، وكررت  زياراتها للاستشفاء على يده منذ أن حل بطنجة في أوائل الخمسينات. وكان رجلا طويل القامة، قوي البنية، ممتلئ الجسم، بلحية خفيفة وعينين ضيقتين زرقاوين. يبدو لمن يراه للوهلة الأولى في معطف أسود طويل، وكأنه رجل دين  مسيحي، دثره كلما هم بإلقاء موعظة الصباح على المرضى الوافدين على مشفاه. ازدحموا داخل قاعة اتسعت لأكثر من ثلاثين فردا دفعة واحدة، هيأها الطبيب خصيصا لإلقاء مواعظه وخطبه. يلقن من خلالها مبادئ الدين المسيحي وتعاليمه للمرضى، متحدثاً عن عيسى اليسوع  ومريم العذراء.. وكانت قاعة ذات جدران طليت بطلاء عملي يصمد طويلا؛ ذو لون وردي غامق، مطلة على ساحة مقهى الحافة المشجرة بأشجار الأرنج الفواحة، وعبر نوافذها المشرعة كانت تصل إلى أنوف المرضى نسائم البحر العالقة بأزهارها حين تتفتح. 

لم تعر أمي رحيمة أدنى اهتمام لمواعظ الطبيب أندرسن وخطبه الدينية، ولم أثق في ما حُكي عنه في كل زيارة قامت بها لمشفاه في مناسبة من مناسبات مرضها، وعن جل ما كان يُردد على مسامع المرضى العجائز، من فقرات من الكتاب المقدس والتراتيل والأدعية. عمد الطبيب إلى الإطالة في إلقائها قبيل الكشف على العجائز المرضى، ورغم ذلك فلم تُحدث في نفوسهن أدنى أثر. جلهن حاضرات بأجسادهن دون عقولهن؛ صامتات كأصنام قديمة، متمتمات بدعوات لم يُعتقد أنها كانت عليه وليست له. 

أثار الصليب المعلق على حائط القاعة الواسعة، فوق رأس الطبيب مباشرة والمقابل للمرضى الجالسين قبالته على كراسي نضدت بعناية فائقة التصور، في نفوس المرضى العجائز نفورا وتقززا، وهن منشغلات بالاستماع لموعظته الصباحية، حين شُرع في سرد فقرات من الكتاب المقدس.

  لم تكن تمتمات العجائز المرضى، الصادرة عن شفاههن المتحركة ببطء شديد، كسلاحف عُجز غير دعوات شامتة على الطبيب والصليب المعلق قبالتهن، وربما أوحت له تمتماتهن رضا مرضاه، وهو غائص في لحظة خشوع وابتهال؛ يرتل تراتيله وتعاويذه التي يختتمها بترديد تلك اللازمة المعهودة تكررها العجائز وراءه جماعة بامتعاض وبصوت شخص واحد. متوخياً من وراء إلقاء تلك الخطب والمواعظ مقاصد وغايات. ولم يُعتقد أن إيمان العجائز أرسخ من جبل فوق قشرة الأرض، ورغم ما كانت تُحدثه خطب الطبيب ومواعظه في نفوسهن من قنوطٍ، فقد ظللن وفيات لزيارة مشفاه بانتظام كلما دعت الضرورة إلى ذلك.     

الخطب الواعظة تبشير. قلت. ضحكت أمي رحيمة من كلامي وقهقهت فانفتح فمها، فبدت امرأة دَوْداء. التبشير هو نشر الديانة المسيحية. والطبيب مبشر. تابعت. وأن زيارتها للطبيب أندرسن كانت غايتها القصوى حكمته وإتقانه لصنعة الطب والتطبيب. ظلت ضحكاتها من كلامي تثير في إعجابا كبيرا لثباتها، كلما حدثتها في شأن هذا الأمر. وأن إيمانها راسخ في نفسها وعقلها وقلبها؛ رسوخ جبال قديمة على أرض يابسة. ألزمني أن شيئا ما أو ربما كانت هنالك أشياء لم نمتلكها نحن الصغار. أشياء غريبة وغامضة، اندثرت من نفوسنا بينما رسخت في عقول العجائز؟    نظرت في وجهي، وقد اتخذ وجهها مظهرًا مُفاجئًا، وبعينين حزينتين اغرورقت بالدموع، مسحت على رأسي بيدين متيبستين.                                                                                                                     

……………

*قاص من المغرب

مقالات من نفس القسم