بجوارهم ـ من اليمين ـ دولاب زجاجي على رفه السفلى حقيبة جلدية سوداء متوسطة الحجم .
قال : بها مبلغ الجائزة , مئة ألف جنيه نقداً وعداً .
على الرف العلوي تمثال مطلي بالأسود يمثل شخصاً باكيا بإفراط ، فاغر الفم بصرخة فزعة حبيسة .
قال : إنه تمثال النوّاح .
كتبت على قاعدته الرمادية المستديرة بلون الذهب :
” مسابقة البكاء ” السنة الخامسة ” .
قال : راعى المسابقة هو : سامى العزيزى وشهرته ” البرنس ”
أصغر رجال الأعمال سناً وأفحشهم ثراءً ” عضو بارز ” ـ قالها غامزاً ـ فى لجنة السياسات , عينه على وزارة الثقافة , ثورى قديم .
تابع ” حسن ” الصحفى بالفطرة وليس بالاكتساب فحسب سيل المعلومات , مغطيا ـ الآن ـ جانب فمه بكفه الغليظة :
” لا يدخل هنا سوى الصفوة ” .
التفتُ إليه مستفهماً ونحن نجلس فى الطرف القصى . فغمز مشيراً إلينا :
” طبعاً لا يخلو الأمر من أفراد عاديين , موصى عليهم لكنهم محايدون , لا يؤخذ بدموعهم إذ ما اهرقت ” .
ولعّب حاجبيه مبتسماً , فابتسمت .
* * *
كانت تطوف بالموائد العامرة فتيات صغيرات شبه عاريات فارعات الطول ونحيفات كالعارضات .
قال : جيء بهن من فنادق النجوم الخمسة فى ” عين العدو ” .
عادة ما يصدر ” حسن ” من خلال تعليقاته وحركاته بالعين واليد وما شابه إحساس نسوي سربته إليه حياة برجوازية متوسطة تكتنفها النساء من كل جانب إذ تربى وكبر فى أحضانهن : أمهات عديدات لأب واحد كثير الأسفار وأخوات وعمات وخالات وجارات وصديقات , تشرّب طريقتهن الحسية غالباً فى الحياة وألف روائحهن : فراشهن ,
كسلهن , إهمالهن العتيد وخبثهن …. لذا تبدو الصحافة له ليست أكثر من جلسات نميمة ممتعة مصحوبة بالقرص وإخراج اللسان والغمز والضحكات المكتومة ـ وأصوات ماجنة مثل ” أٌف ويع ” ولكزات ـ مفاجئة فى الكتف وألفاظ تقف لها ” شعور ” الذكور وهو دون شك محبوب الجميع رجالاً ونساءً .
ثمة فرق شاسع بين الجارسونات وبين الهوانم فى القاعة ، فالأخيرات لسن أكثر جمالاً وعرياً فحسب بل راسخات على الأرض معتدات بموقعهن الطبقى بصورة يحسبها الجاهل مثلى فجة .
ملابسهن لا تعدو أن تكون قطعا موصولة بمشابك رفيعة ذهبية ، تكشف أكثر مما
تخفى ، كأنها مكياج جسمى إن صح القول ، محلاة بالإكسسوارات الذهبية الباذخة ، يشخشخن ويصلصلن عند أدنى حركة .
” قال أحد العجائز الظرفاء لى يوما : إن السبب الذى دفع الفرعون إلى ملاحقة ” موسى ” وجماعته هو السرقة ، ذلك أن نساء اليهود استلفن من نساء الطبقة الحاكمة ذهبهن على عادة النساء فى المناسبات السعيدة و فرّوا به إلى الصحراء ” .
خلاخيل رقيقة وغليظة , خواتم فى أصابع اليدين والقدمين , حلقان فى الأذان والشعر والأنف , حلقات صغيرة فى سرة البطن وحلمة الثدى وفوق اللسان ووشم على الأذرع والأسنان , وتسريحات شعر سوريالية . أما العطور فهى روح الفصول الأربعة , زد على ذلك الأضواء والظلال والوسائد والرجال المتأنقين المدججين بالهيبة والنارجيلات والشراب المتعدد فى الوحدة والطيور والحيوانات والأسماك ، التى اقتنصت بشراك جيوش الصيادين العتاة من البر والبحر والجو .. مطهوة ومتبلة وموضوعة بكاملها فوق المناضد المزدحمة بالأوانى والكؤوس تتصاعد أرواحها دخانا خفيفاً يتلوى ألماً وسط الضحكات الرنانة والقبلات المثيرة فى الفم ، دون تفرقه بين فم وآخر . حرية ، طبعاً ، و حضور كزموبوليتانى حقيقى .
* * *
عتمت القاعة وأضيء المسرح . فظهر ماء النيل وراء الزجاج المقبب المحيط بالقاعة لامعاً فى الأضواء الجانبية لليخت الضخم ، كأنما كل قطرة من قطراته المحتشدة ينبت فيها غصن من الضوء المتمايل ، حديقة أسطورية تصحب اليخت المتموج بخفة وهو يبتعد عن الشاطئ المتراصة فوقه الأبراج والفنادق والفيلات , تشع بالأضواء القوية تحت ليل ربيعى فاخر منجم ومقمر , يجوب سطح اليخت حراس ضخام حاملين أجهزة اللاسلكى ومسدسات تنبض بوميض كاب من تحت ستراتهم السوداء المفتوحة ، تحيط بهم زهور وتماثيل وأعمدة رخامية الشكل وبيانو ضخم تحيطه شمعدانات كهربائية , وأشياء أخرى غارقة فى العتمة بإهمال مترف .
* * *
كان اهتمام الجميع منصباً على النواح الأول , الذى دخل المسرح ليقدم عرضه مصحوباً بموسيقى ناعمة شجية , طامحاً طبعاً إلى استدرار الدمع من عيون هؤلاء السعداء , الساخرين على الأقل منه , إن لم يكن من المسابقة , ناهيك عن الدنيا بحالها .
قال حسن : شروط المسابقة مجحفة بالمتسابقين ، إذ ينبغى أن يدفع الواحد ألف جنيه رسم اشتراك ، فضلاً عن أن مدة العرض للواحد لا تزيد عن الدقائق
العشر , فلا غرابة أن يكون المتقدمون للمسابقة نفرا قليلا وغالباً غير محتاجين لها أصلاً .
تجول النواح الشاب ببطء ، تحت الضوء الهادئ , كأنه يبحث عن شيء , خطواته مترددة , معاقة , يائسة , توقف محدقاً إلى الأرض كأنه مذنب أو فى حداد ….
ـ وحّدوه . صوت من القاعة .
تمالك الجميع تقريباً أنفسهم ، أجسادهم تضطرب وهم يكبتون الضحك , ليؤجلوه لموقف آخر , أقوى وأكثر مرحاً , فهم تجار طبعاً . رغم ذلك كانت ثمة ضحكات تتفلت هناك بجوار الستائر الشفافة .
كأنها شعاع قمرى هابط من السقف الزجاجى المفتوح عند قمته استمر النواح فى إطراقه الحزين كأنه أمام قبر .
ـ يبدو أنه نام . صوت امرأة .
أوشك الجميع على التململ بعد مضي الدقيقة الثالثة تقريباً . ثنى النواح ركبتيه فجأة وهبط أو تهدم فوق بعضه , فصدرت الشهقات هنا وهناك , ورويد رويدا , استحوذ صمته على الحضور لابد أنه أراد التسلل إليهم برقة ولطف مخاطباً الروح ، مطلقاً ملكة التخيل لسماع الكلمات الصامتة ويماهيهم مع صورة حزنه فيحملونها معه ويشعرون بوطأتها وينهدمون تحتها وكلما حاول النواح القيام ” بدلاً عنهم ” يزداد الثقل عليهم وما تعليقاتهم المنبعثة هنا وهناك كل حين إلا مقاومتهم اللاواعية للحزن المشع فوق جسد النواح كطائر من نار . فكأنما هم الذين يتكلمون بدلاً عنه ليخلصوه من مهمة حمل حزنهم مراقبين بقلق خطوات الزمن المتريثة عن عمد ”
تكور النواح الشاب القوى ملتماً حول نفسه كأنه بركة ماء ضحلة منبوذة في البعيد وراح فجأة يصدر آهات مريرة : آآه .. آآآه … آآآآآه .
ـ وكمان آه . صوت نسائي .
انفجرت على أثره امرأة بدينة شهية فى ضحك متتابع وهى تشير إلى النوّاح :
ـ الظاهر أنه ” محصور ” .. حد يأخذه إلى الحمام يا ناس .
ظل النواح طوال الدقائق من الرابعة حتى السابعة تقريباً يئن ويتأوه بتخافت مُذل منهكاً تماماً أقرب إلى الموت ، جريح مهمل ومنسى دون أمل .. وما أن يتوقف ضحك البدينة حتى ينبعث بعناد قاس كوخز الإبر . ـ اصح يا عم . صوت رجالى . أخيراً قام النواح متحاملاً على نفسه , أخرج منديلاً جفف وجهه عدل من ملابسه كأنه قرر التعايش مع الحزن واعتبره قدره المحتوم وليس أمامه سوى الرضى به . استدار وأخذ يزحف كعجوز يجرجر ببطولة ثقلاً . كاد يتعثر وهو فى طريقه إلى باب الخروج الزجاجى الدوار قال وهو يرتجف :
” سامحونى , أنا أكره الحزن
انفجر باكياً واندفع متخبطاً فى ضباب الستارة الهشة كأنها منديل بطول الحائط غاب فيها كأنه دمعة مقذوفة من روح الجميع … دق ناقوس انتهاء الوقت .
* * *
مال الحكام على بعضهم برهة , ثم اعتدلوا وأخذوا يضربون على الأزرار أمامهم , حاسبين ـ لابد ـ النقاط التى حصل عليها النواح ، بفضل الكاميرات الثابتة والمحلقة فوق الرؤوس ، ترصد الدموع وتغيرات الوجوه وفترات الصمت ترسلها إلى حواسيبهم .
* * *
أضيئت القاعة الفسيحة تدريجياً كأنها يد تزيل غطاء العتمة عن الجميع فتحررت الأصوات و انسابت الفتيات الأنيقات بملابسهن القصيرة جداً , بين الموائد , جالبات المزيد من الشراب , مبتسمات فى أمان تام فالذئاب البشرية الجائعة فى الخارج لا تعرف العوم وغير قادرة على مواجهة الحراس المدججين بالسلاح النارى .
قلت : هل تكفى عشر دقائق لإبكاء أعتى المحزونين فى العالم , عشر دقائق , إن هذا يشبه ضغطة زر فحسب , لابد أن يكون الحظ رفيقاً للفائز .
قال حسن وهو يأكل من طائر مسكين لا أعرف اسما له ويشرب البيرة ويحدق إلى كل واحد من الموجودين فى القاعة فى آن واحد :
ـ الحظ ، آه .. الحظ السعيد طبعاً . وضحك . أخذتُ نفساً من الشيشة ” وقلت :
ـ هذا تناقض مدهش .
رد بانتصار :
ألم أقل لك انتظر فحسب حتى تسخن الأجساد هنا , سترى العجب . فى السنين الماضية حدثت مساخر هنا , رغم أنف الصحافة الحرة .
” ضحك ” ـ انظر كيف يتعامل السادة هنا مع النساء .
التفتُ , كان هناك رجل وامرأة تحت منضدة تهتز . أضاف وهو يبلع :
ـ كل شيء مباح حتى التهذيب .
ابتسمت وقلت جادا و إن بدت الجملة غامضة :
ـ إن هذه المسابقة تهذيب على نحو غاية فى العمق , وهذا هو التناقض المدهش .
شخر و قال : تهذيب .. رائع , ينبغى تعميمه فى المدارس والشوارع والبيوت ، ونسميه التهذيب الملذ .
قهقه غير متمالك نفسه دون أن يكف عن الطعام والشراب وقال كأنما الجملة هاجمته :
ـ التطهير باللذة , يا عم أرسطو .
واستبدت به شهوة السخرية الحاقدة :
ـ إننى لا أشك الآن أننا أصحاب حضارة عريقة حقاً , موغلة فى اللذة , العبيد فيها كانوا عبيداً للذة .. أضخم صرح للذة فى العالم , ثلاثة أعضاء تناسلية ذكورية منتصبة فى رحم الزمن ، يااه .. لماذا لم أكتب الشعر إذن .. .. وغمز ــ ألست مخطئاً فى كسلى الشعرى ؟
قلت ـ بنفس الجدية ـ إن ما تقوله بسخرية لا يخلو من الحقيقة على كل حال .. لا شيء عظيم دون أن يتضمن اللذة والألم فى أعلى صورهما .
ـ لقد أحضرت إذن العضو المناسب .
قالها غامزاً وهو يلكز فخذى ضاحكاً بشدة ثم صاح بغضب مفتعل مشاكس :
ـ لا أدرى لماذا أنا مصر على صداقتك حتى الآن .
ـ ابحث عن اللذة يا مكبوت
قلت ضاحكاً وغامزاً …
ــــــــــــــــــــــــــ
فصل من رواية الضحك صدرت مؤخرا عن دار فكرة القاهرية