عاطف محمد عبد المجيد
ثمة مزحة تتناقلها ألسنة العامة تقول إن الله لن يحاسب الصعيدي، وإنه لن يُدْخله النار مهما قدَّم وأخَّر، والسبب في ذلك هو كَمُّ المعاناة التي يعانيها الصعيدي طوال رحلة حياته بعيدًا عن ملذات الحياة، ونعيمها الذي ينغمس فيه أخوه البحراوي. وبهذا لن يجمع الله على صعيديٍّ عذابين: عذاب في الدنيا وآخر في الآخرة.
وبعيدًا عن هذا فإن الصعيدي يولد وفي فمه ملعقة من خشونة، إذ يولد في بيئة ينضح كل ما فيها قسوةً وغلظة وفظاظة، بدءًا من يديْ أمه وأبيه الخشنتين اللتين تُعتبران أول سرير يستقبله فور قدومه إلى العالم الدنيويّ، مرورًا بأحداث الحياة الصعبة التي يعيشها الصعيدي في كدٍّ وتعب وشقاء.
حين يفتح الصعيدي عينيه السمراوين اللتين تزينان وجهًا قمحيّ اللون، وملامح تبدو عليها الصرامة والشدة، فإنه يفتحهما على مفردات عالم فظ، يتصف كل ما فيه بالخشونة، حتى معظم نسائه اللاتي لا ذنب لهن في فرار النعومة من عالمهن الأنثوي، إذ جعلتهن الأيام، وما فيها من شدائد، يصبحن كالرجال تقريبًا، حتى في ملامحهن، كي يتمكنَّ من التصدي لهذه الشدائد.
غير أن هذه البيئة التي تقسو كائناتها على كل من تظللهم سماواتها، تحمل في ما تحمل، ما يساعد على تفجير طاقات إبداعية ومواهب بعينها، تكون هذه البيئة تربة صالحةً لنموها وترعرعها.هناك توجد مساحات شاسعة من الخضرة لا تصل عين إلى آخرها، هناك المياه الرائقة والنقية، مما يجعل الموهبة الدفينة تتدفق وتنبثق في صدور أصحابها، كذلك البيوت مترامية الأطراف غير المرتفعة، هناك الفراغ الذي لا حدود له يلعب دورًا رئيسًا في ولادة الموهبة وإرضاعها، حتى يكتمل نموها وتقف على قدميها في ثبات ورسوخ.
هذه البيئة بما فيها تعمل على تفجّر وتفجير موهبة الكتابة لدى الصعيدي الذي يسارع بالإمساك بتلابيب ثيابها، حتى لا تغادره، والتي ستكون فيما بعد السبب الرئيس في انتقاله إلى بيئة أخرى، كل ما فيها يلمع ويتلألأ.
إنها القاهرة التي لا تنام لا ليلًا ولا نهارًا.مبكرًا يبدأ توْق الصعيدي حامل جنين موهبة الكتابة والإبداع إلى السفر إليها، ففيها، وفيها فقط، الأضواء والصحف ودور النشر والحوارات الصحفية واللقاءات التليفزيونية والمنتديات، والعلاقات التي تنشأ في ما بعد بينه وبين آخرين، ربما يكونون أصحاب قرار في هيئاتهم التي يعملون فيها، فيقدمون له المساعدات.نعم يقرر الصعيدي المبدع أن يترك بلدته التي تفتقر إلى كل شيء جامعًا أمتعته في حقيبة يحملها على ظهره، مُنْتقلًا إلى القاهرة التي يظنها، لطيبة قلبه وصفاء روحه وربما لسذاجته، فاتحةً ذراعيها له منتظرة إياه على نارٍ، انتظارَ الفاتحين الغانمين، مُتخيلًا في البداية أنه سوف يحقق كل ما تصبو إليه أحلامه وأمانيه من ذيوع وانتشار، وأنه سيتحول من حياةٍ عطشى قاحلةٍ إلى حياةٍ كلُّ ما فيها عذب وناعم ولا يجيء إلا منهمرًا، انهمار السيول في المناطق القطبية.
هكذا يتخيل الصعيدي القاهرة التي ربما تجعله يكره مسقط رأسه إذ لم يجد فيه لا يَدًا تحنو عليه، ولا تقف بجانبه، ولا مكانًا يذهب إليه ليرى صدى ما يكتبه لدى الناس، ولا هيئة تتبنى موهبته ولا أي شيء!
لكن يا فرحة ما تمَّتْ، إذ يعلن واقع القاهرة أنها لا تقف إلا بجوار أبنائها أو من أفلحوا في أن يتصفوا بصفاتهم.دائمًا ما تنظر القاهرة إلى القادمين إليها من بعيد نظرة أخرى.
يقول الواقع إن القاهرة لم تمنح أضواء شهرتها إلا لعدد قليل ممن يحملون الجنسية الصعيدية، لا لأنهم يمتلكون موهبة صارخة بل لأن عوامل أخرى إضافية مدت لهم يد العون، ولا لأن المبعدين ضحلي الموهبة..لكن يبدو أن موهبة واحدة لا تكفي خاصة في القاهرة.طبعًا، قد يكون بعضها ليس على ما يرام، أو ليس خالصًا لوجه الله.إذن ثمة صعيدي جاء إلى القاهرة حاملًا شعلة موهبته لتزداد اتقادًا وتوهجًا على أرضها وفي شوارعها وعلى أرصفتها ومقاهيها، غير أنها انطفأت بعد أن صُدِم بواقع مغاير لما نشأ عليه، وتربى في صعيده النائي.وبدلًا من أن يحقق الصعيدي أحلامه الكبرى يُصاب بخيبة أمل واسعة المجال، وانتكاسة كبرى عقب اكتشافه أنه لن يستطيع أن يتواءم أو يتكيف معها بمعطياتها الآنية القائمة عليها.
لحظتئذٍ..إما أن يلملم الصعيدي أمتعته عائدًا إلى مسقط رأسه بعد أن تحطمت كل وسائل مواصلات تطلعاته ليقضي بقية حياته منعزلًا في صومعته في عالمه النائي عن كل شيء، وإما أن يظل ماكثًا هناك في القاهرة، يعاني من جوها الخانق حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.
ولنقرأ ما كتبه ذاك الصعيدي متنبئًا بسيناريو رحلته إلى المدينة / القاهرة قبل أن تطأ قدماه أرض القاهرة: شيء يلازمني
يؤجج مضجعي
ويتيه فخرًا
حين يشعر أن ناصيتي أصيبتْ
بالذي يبغي
مدينة صاحبي تلقي بأوجاعي على كتفي
فكيف سأشتهي ألقي
وأبدأ في طقوسي من جديد..؟
هذي سلالي لم تنل شيئًا
وما زالت يداي كصفحة بيضاء خاوية
أيا وجه المدينة إنني وحدي
أقاوم غربتي
وبمفردي ألج المتاهة
ربما أنجو
ولكن غالبًا أقع الفريسة
تحتسيني هذه الأشداق
تقضمني
وتترك ما تبقى كي يعذبني
يمزق جثتي بالآه
بالوجع الوئيد
يا صاحبي إني الغريب أأنحني للريح..؟
أم أمضي عنيدًا حاملًا ثقتي
أقاسي من متاعبها
وأنشر في ثناياي الجريحة مبدئي؟
لا تبدئي بالخوف يا إبلي
ولا تَخْشي الذين سيتبعون قوافلي
ماذا سيفعل هؤلاء بما لديّ
وما الذي سيروح منك إليهمو..؟!
ها أنت أيتها المدينة منيتي
أملي
وحلم كان راودني صبيًّا
كان يثقبني ليخلد داخلي
أكمن سواي سيستطيب تألمي
حتى أطأطئ هامتي؟
هذي مناكِ وهذه صفتي
سأبقى مثلما ملك
وحين تجئ خاتمتي
أعد لرحلتي كفنًا
يواريني
وينقش في المدى أني
أبارك عزتي/ جسدي الوحيد.
وفي موضع آخر قال الصعيدي نفسه:
ها أنْتَ..
تكْتشفُ الحقيقةَ بعْدما
غادرْتَ قرْيتَكَ الْقَصيَّةَ وانْتهيْتَ إلى المدينةِ
راغبًا فيها
تُرى هلْ كنْتَ توْقنُ أنَّ رحْلتكَ اليتميةَ لنْ تُحقِّقَ ما تُريدْ؟
أمْ كانَ ظنُّكَ غيْرَ ما..؟
هي ذي متاهاتٌ سَتدْخلُها
وتَخْرجُ إنْ خرجْتَ
وأنْتَ تحْملُ مِنْ خُسارتِكَ العديدْ
يا مِثْلُ قُمْ
لمْلمْ شتاتَكَ مِنْ بطونِ مدائني
هَيِّئ رُفاتَكَ للحياةِ لِمرَّةٍ أخْرى
فثمَّةَ قرْيةٌ قدْ تصْطفيكَ
وفيكَ خارطةٌ تَحنُّ إلى شوارعها الفسيحة
للجداولِ حينَ تُسْمعُها قصائدكَ الحديثةَ وحْدها
لِرفاقِ سِنِّكَ
للْحبيبةِ
للّذي يَهْوى مجيئكَ
يقْتفي أثرَا لشِعْركَ
يشْتهيكَ ويبْتغي..
يا صاحبي هيَّا إذنْ
فهناكَ تُنْشئُ خيْمةً عُظْمى
وتَقْطنُ بَهْوَ أعْمدتي مُصانًا
دونما وَصبٍ
وتعْرفُ حينها أنَّ اخْتلافًا بَيِّنًا بيْنَ الْـ (….)
وبيْنَ عَشيقتي الْأولىَ.