الشيخ حمامة

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عزّة أبو الأنوار

في المسجد الصغير الذي كانت تُقام به الصلوات، دون التراويح وصلاتيّ العيد، لا أحد كان يسمع لكلام الشيخ؛ كان لا يصلح للفتوى، فهو الشيخ "السبور"، كما أطلق عليه شباب الشارع، كان يُعطِّر الزاوية بعطور باريسية، ويعلق جوار الآيات القرآنية لوحات مُقلّدة لزهرة الخشخاش وإصرار الذاكرة، ويكلمهم في الدروس عن سلفادور دالي وهيباتيا وجائزة البوكر.

 

بدأ أهل الحارة في الريب لأمره لما نظَّم الشيخ حمامة، حفلاً للأطفال بمناسبة ختمة جزء عمّ، وكانت الهدايا روايات ملف المستقبل وأسطوانات بأغاني صفاء أبو السعود.

الشيخ حمامة لا أحد يذكر اسمه الحقيقي، فقد نسيه الجميع بعد أول صلاة جمعة لما لم تتجاوز الخطبة خمس دقائق، فانتبهوا لسرعته في أداء الصلوت، ومن وقتها سُمِّي حمامة، بدأ الأمر كدعابة، وجمعة تلت الأخرى وبدأ أصحاب الحارة الترحُّم على الشيخ عبد ربه الذي ذاع صيته الآن واشتهر في التليفزيون الخليجي، وتغير اسم الشيخ إلى “الشيخ -لا مؤاخذة- حمامة”.

أضحت النكات التي بدأت سرًا يُطرح عنها ثوب الحياء، لما صار الجامع بيتًا لمُختل كان يملأ الشارع صخبًا ويكشف المستور بكلمات مبهمة، يفهمها فقط صاحب هذا المستور، كان يمر جوار أم أحمد في السوق ويزعق “غطي العريان، الواد كبر ومش هيحابي لمَرَة.. الواد هيحابي لأبوه”، وأمام القهوة ما كان يقول غير “الكيف غدااااار” ويجري. ويقف أمام الجزار ويغني “ميزانك أمانتك.. أمانتك قيامتك.. قيامتك ميزانك”، وما أن يرى السكين يجري ويخرج من الحارة لآخر اليوم.

بيات المختل في الجامع وغيابه مع الشيخ حمامة طويلاً خارج الحارة، صارا سببًا كافيًا لإعلان السخرية من الشيخ حمامة، ثم إعلان الكراهية، تلاها إعلان الحرب.

كان اسم الشيخ حمامة يتكرر كثيرًا في جلسات الفتيات خصوصًا، بعدما قرر آباؤهن وإخوتهن أنهن كبرن على دروس الجامع، ومن في مثل أعمارهن عليهن الانتباه لمعاملاتهن وفهم حياة الكبيرات أكثر. صار الحوار حول سماحة الدين أمرًا سريًا بين فتيات الشارع، وحدها “رجاء” كانت تتكلم عن طول أهدابه وشموخ كتفيه، وحدها كانت تجيد تقليد مشيته وتتراقص على صوته إذا ما علا ميكروفون المسجد، ثم تحدثهن عن سرعة جريان الدم في الشرايين التي تتسارع وتبطئ مع اختلاف نبرة صوته عُلوًا وانخفاضًا في سورة البقرة. وحدها صارحتهن بتعمّدها فك شعرها مع موعد خروج الشيخ بعد صلاة العشاء ليطير أمامه وتسبقه إلى باب الحارة لتخرج معه.

كنّ يستمعن وصفها لآخره ثم يستغفرن ويُعِدن إغلاق الحديث بعد أن تكون أغلقته للتو.

أما نساء الحي فكنّ يأتين به سرًّا لقراءة رقية أو درس أسبوعي في بيت إحداهن أثناء غياب رجل البيت، وغالبًا كان الدرس في بيت الحاجة أم رجاء، فقد كانت أرملة واعتاد نساء الشارع التردد على بيتها لرسم الحنة ونتف الشعر الزائد وما شابه.

لما بلغت رجاء الخامسة عشر وفُرِض عليها ثياب النساء قررت الاستغاثة بالشيخ حمامة، وحده يعرف كيف يحادث أمها، لا تعرف لِمَ أخذت تحكي له عن صديق الدراسة الذي التحق بالعمل صغيًرا في العراق ولم يعد، وتقول أمه إن أخباره تأتيها مع أحد أصدقائه، ويقول إنه لم يعد يمشي إلا مسلحًا بالمسدس واللحية والرقية الشرعية. حكت له أيضًا عن ولعها بشكسبير لكنها لن تطمح بالالتحاق بمعهد المسرح، فهي تعرف كيف تُحد طموحها حتى لا يقتلها. تذكرت أيضًا يوم مات أبوها في قائمة انتظار المستشفى وترك لأمها همًّا جاثيًا فوق صدرها للممات. هي لا تريد أي طموح سوى ترك ضفائرها منشورة للشمس.

سمع الشيخ حمامة كل شكاوى رجاء وذكرياتها، وحاول إغلاق الحوار والانصراف، لكنها طلبت منه وعدًا قاطعًا بحل أزمتها، ولما نصحها بالتريُّث واحتراف أخذ الحق، ثم بدأ يحدثها عن أن تحدي الأعراف ليس من الحكمة في شيء، عادت إلى الحارة، ووسوست للأطفال بنقل الأمر لآبائهم، انتشر الخبر كنار في القلوب.

في الليل كانت جثة الشيخ حمامة مُلقاة في قلب الحارة وجوارها لوحة العشاء الأخير التي وجدوها مخبأة في المسجد خلف المصاحف. وكذا قُيِّدَت القضية ضد المختل، وخلص الشارع من المختل والشيخ وشعر رجاء في ساعة واحدة.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 قاصّة مصريّة
 القصة من مجموعة “الساقطون في بقعة الزيت”  تصدر قريبًا عن روافد للنشر

مقالات من نفس القسم