عبدالوهاب عبدالرحمن*
“وكل بلاد أوطنت، كبلادي”
شاعر قديم
ولكن الشاعرة سعاد العتابي في ديوانها “صوت المنافي” لا تستبدل بلادا ببلاد مهما أوطنت فيها، رغم أنها بين جحيمين، وطنها والمنفى، تتبادل المواقع بين الذات والظل. فالمنفى وهم الوجود وهو يقترن بالغربة، مرهونا بها. لذا فهي تبحث بوعي حداثي عن قراءة شعرية مختلفة تستوعب هذه المفارقة الضدية (وطن.. منفى) بأسلوب يقع خارج مواضعات التقليد، لتوطن نفسها في منفى أخر مختلف تتمثله روحا شعريا غنائيا، صوتا يشكو وصدى يبوح،والمنفى لو نعلم من الأوهام التي يمتد تاريخها جذريا حتى ما قبل ولادتنا مذ “كانت الأرحام أوطاننا فنفينا عنها واغتربنا بالولادة” والشاعرة في مكان مفارق بين عالمين لا تقيم في أي منهما لترى نفسها وقد فقدت ذاتها ضائعة بين ازمنة وأمكنة مرمية في بؤرة من فراغ اورثتها قلق الغربة مهددة بنفي مستمر ووهم لوجود تجترحه مجاوزة للواقع صورا تستوحيها من مجهول قادم بأسلوب الفيض التلقائي وكأنها في فقدها لوطن فقدت كينونة وجودها وهي تتوق لمناجاة ذكريات منها تستدرج صور مأساتها من الغيب ومن عوالم الحدس والمجهول تشتاق لسموات نخيلها تتطلع إلى أسرارها بعيون الشعر وهي خارج هذا المكان، ولا مكان في فضاء المنافي وفي زمن يهرب من ذاته- يتسرب من بين شقوق الماضي وتصدعات الذاكرة:
“في المدرسة
رأيتني غريبة
لم أسمع صدى لصوتي من جدرانها
الجميع حولي.. ألا أنا”
تمضي بنا الشاعرة بعيدا إلى أزمان تفتقدها، فالذات حين تستذكر ماضيها تراوغ الأزمان؛ وهي في لحظة استدراك لصور فقدت ملامحها بين اماكن تتباعد مسافاتها:
“وحتى شجرة التين تنسى زمنها …
يحدث أن أذهب هناك وأنسى ملامحي هنا”
هذه الشذرات – اللمحة – اليجورة شديدة الكثافة والتأثير تلتمع في روح الشاعرة يأسًا يتشكل في حالة شتات يلم أجزاءه عبثا بين الهنا والهناك – لتمتد مسافات ألم تطوي ازمانا تراها الشاعرة في صورة “هباء”:
ترتاد الدروب المعتمة
تبيع أحلامنا
تهبنا هزائم مكتوبة على جدرانك”
هي في لحظة وجود تجمع فيها المنفى والغربة – بين متغير إشاري ومتناقض دلالي وكأني بها تنفي النفي بالإثبات أو نفي الوجود بنقيضه، لعبة جدلية تشتغل على الاختزال والتكثيف الابيغرامي .. ولو تأملنا في نصوصها وهي تستدرجنا إلى عوالمها (عوالمنا أيضا فكلنا في الهم شرق) بنعومة وشفافية لوجدناها “كائن طفولي يعيش في الأوهام وبالأوهام من أجل الأوهام” تحت آثار الصدمات التي تتواتر في أنساق نصوصها- تبحث عن قارئ كاشف يحفر في طبقات النص نافذا إلى أعماقه رصدا لدلالة وتحليلا لمعنى:
“تلك الارجوحة
لم تعد تتذكرني
وأنا ما زلت أتذكرها
ضحكاتها تسابق شهقاتي
ومعا نسابق الريح
في كل محطات غربتي
أعقد الصداقات مع الاراجيح
أبحث عنها
عن صدى شهقاتي
الأراجيح هنا سعيدة
أرجوحتي هجرتها الريح
صلبت ضحكاتها… سكنت”
تتذكر فعل التأرجح وهو يدور بها بين رياح المنافي في سباق محموم بين ضحكة وشهقة تطل منها على وطن تتخيله:
“حديقة بيتنا تعرت ذاكرتها
أشجارها اغتصبها سياف الوالي
تغربت ظلالها الوارفة
احترقت الوجنات من شمس الفجيعة
تشتت الأعشاش ..
كتمت العصافير حزنها …
لم أعرفها
فضاع العنوان”
وهنا كأنها تصر أن تقرن الشعر بغير أوانه ومكانه، مكسورة نكاد نشعر بدمعها محبوسا لا ينزل إلا مكرها- تستحضر معه بكاء المطر والأشجار والأنهار تورية أو مداورة لنفس أبية لا تهدر كرامتها إلا لوطن أو حبيب أو شهيد ..
” سخي بحزنك كوطني
تنبت الف سنبلة من دمعك
وتغسل الف شهيد
وما بين سنبلة وشهيد
الف ألف كون في التيه
بين الوجوه المتشابهة المختلفة
بين الأزمان الهاربة من ازمانها
بين..!!
مطر مطر
ألمح في بريق قطراتك عصورا من القلق
أسمع
نحيب شهيد لم تأوه أرض
وبكاء الأشجار والأنهار لرحيل السحب
مطر….”
هذا النفي حين يتلبس الشعر يجرده من ألقه يحيله إلى “رسائل لا يجيد قراءتها إلا هو يبكيها”
انفصام حاد مع النفس والآخر فاقدا وحدته مع نفسه. فراغ ثقيل يعزل ما بين وجود وعدم غارقا في عتمة الرؤى:
“لست أمام عيني
لكنك كل ما أرى”
بوصف الشاعر أحمد شوقي، الحنين إلى وطن نتوق اليه فهو المكان الذي تشكلنا فيه والزمان الذي تكونا فيه، نتذكر صرخة ناظم حكمت الشاعر التركي:
“لو وضعوا الشاعر في الجنة لصاح:
أاااااااه يا وطني”
ومن مفارقات التماهي بين المنفى والغربة- قوة الشعر وأثره في خلق جو ممتلئ بموحيات واشارات تحيل الغربة إلى نفي لوجود كائن وموجود يتكون- جو مغمور بالغربة وألمها حتى لو كان الشاعر في عقر داره لأنه مسكون بفعل الاغتراب ولانه مغلوب بإحساس اللانتماء بفعل الغيرية التي تستبد بذاته المتمردة المختلفة بتفردها وهي تقاوم الإحساس بمرارة التوحد ومرارة عدم التحقق وهو خارج المكان الذي ألفه مسكون بغيره. هنا أزمة الشاعرة تتركز في غربتها الوجودية ومعاناة الحيرة في مفترق الانتماء- أين أكون ومع من- تتناهى الينا أصوات في نصوصها تحذر وتتوعد الغرباء؛ وإن بدت الصورة في غير دلالتها، فهي تعني ما تقول:
“يا مدينة الغرباء
خلف ضبابك فجر وطن يسخر من جلاديه
يعدهم بذات السياط
يفرغ بطونهم الجوفاء
يعيد لجدرانه ألوانها.. ولظلاله هيبتها
يكتب مراسيله على أجنحة الطير
يلملم شتات الشواطئ لنورسة تائهه”
الشاعرة سعاد العتابي ترى في وطنها روح الطبيعة تلملم الشتات لتهيأ موطنا وملاذا “لنورسة تائهة” وهي الشاعرة تتمثل ذاتها من طيور الغربة والهجرة التي تضحي بموطن وجودها احتفاظا بحريتها حتى ولو ضاعت بين تلك الشتات التي تراها سماء الحرية:
“ها أنا
أنتظر ونافذتي
قطرات ندى مرسالك
تغازل اوراق عمري
فأهسهس لها بأغنية انتظرت طويلا لتصدح”
هنا تقرن عتمة انتظارها بنور نافذة مفتوحة فيها الاشياء تبدو أحلاما/ أغنية تنتظر اطلاق اسرارها، فالنافذة عين تربو إلى البعيد، تستحضر الغياب وتتطلع “بعيون لا تنام” لتغازل أشواقها بنشيد الخلاص:
“تغازل اوراق عمري”
في زمن الفقد والضياع تختفي حواسها بين أغصان الصفصاف، وتختار لغربتها “مقام الخلود” الذي يغزل الحان ” الفجر ” معلق على صليب الانتظار. في الغربة تطوف العيون في فضاءات تحول دون رؤية وطن الا بتخييل شعري يتوهم وجوده “الوطن”:
“وحدهم
من يكتبون التاريخ دون قناع
(….)
نعم وحدهم
من ينشدون عاش الوطن
دون حناجر”
فضاء قاتم مزيف تتمثله الشاعرة بشمس غائبة- حجبت ضفائرها التي “لم تحظ بأثر قبلة” وتضعنا قسرا بين (هنا وهناك) تفرق بين زمنين وتباعد بين مكانين:
“ارتأت ألا تكون إلا هناك
ليبقى الوطن هنا”
وتعود أبدا إلى نافذتها تقرن فيها الهنا بالهناك، بأسلوب المفارقة التى تفصل لتصل بين النقائض- ودوننا مشهدين متحاورين بلغة تغرق بمرارة العتب ومهازل القدر:
“النساء هنا فراشات
يضحكن
يرقصن
يبحرن بقوارب الحب”
تقف الشاعرة عند النافذة المفتوحة على مشهدين متحاورين تتباين فيهما ملامح عالمين يتفرقان بين أفقين لا تلاقي بينهما:
تبا لنافذتي وهي تأخذني
لمقارنات
كلما تأملتها
يصفعني حرب..”
تريد إيهامنا لترينا ما ترى، أما ما لا يرى فهو عميق يفصل المشهدين ويقيم جدارا يحول دون رؤية ما يجب أن يرى، ولا زلنا بين الهؤلاء والأولئك تتجاذبنا الصور بدلالاتها المؤلمه:
“القلوب هناك تحترف البكاء
تمتهن رسم الاخاديد
على شغاف القلوب
وفراشات مقصوصة الاجنحة
خوفا من تحليق
ياتي بقبس من حياة…”
وجهان متقابلان تتباين فيهما دلالة الوجود وهو ينشطر ويتباعد بحدة؛ أحدهما ممتلئ بمواقد تتوهج أسى، تنبض بأرتعاشة شاعرة تريد استعادة شموس ذكراها الغائبة- والصورة تشبه حالة ذلك الغريب الذي التقاه التبريزي وهو “يرى وطنه قمرا لا حقيقيا معكوسا بطست ماء” لينكر عليه التبريزي ذلك قائلاً:
“إذا لم يكن في رقبتك دمل ، فلماذا لا ترفع وجهك لترى القمر في السماء حقيقة”
الصورة ترينا حالة الفقد وما تخلفه في نفوسنا ونحن نبحث في منافينا عن أصوات أحلامنا وهي تضيع في متاهات الوجود وهو يقاوم العدم دون جدوى، ويبدو أن شاعرتنا تنوء بحمل لا يقدر عليه حتى التبريزي قد حنى رأسها بثقل عاقها عن التطلع إلى أعلى لترى نجوم وطنها تسكن في عينيها، ولكنها بدت في شعرها مثل عابر جوال محاصر بأصوات المنافي المعتمة الفاقدة لأصدائها التي تتناهى امواجها الفراتية تشعرنا برهبة التوقع، ولكنها تضيق علينا الافق على رحابته لتملأ فراغ نافذتها بكثير مما هو متخيل ترسمه إشارات دلالية؛ ترهص بما هو غير متوقع:
“تتلقى صفعة حرب”
وتتذكر بحسرة من فقد كل شئ حتى:
“أحلامي الموؤدة وبعض الصفعات لها في
صندوقي الصغير…”
ولا ندري ماذا سيحدث اذا ما تجرأت وفتحت الصندوق الذي ذكرنا بصندوق باندورا وقد يكون هو، الصندوق الممتلئ بشرور العالم سوى بعض من “أمل” يقبع في قاعه البعيد، وهي ترى فيه بعض العزاء لها ولقريناتها بين الهنا والهناك:
“صباحاتهم هنا
تأتي بموعدها كل يوم
تخترق شمسها نافذتي عنوة
وهنااااااك
صباحاتهم
لا تنتمي لزمن؛ فترسم شمسا وعصافير تدعي الزقزقة
وتعلقها على النوافذ
لتوقظنا ونبدو أحياء”
انظر كلمة “هنااااااك” رسمتها “بصوت” عال يخترق المسافات التي تباعد الأوطان لتمنح نفسها حق الرؤيا حتى ولو في ضباب المأساة تستدعي شمسها الغائبة علها تحظى “بأثر قبلة”.
……………….
* ناقد عراقي