الشّعر العربيّ الكلاسيكيّ، أشعرُ أحياناً أنّه موجّه فقط للنخبة المثقّفة، وفي هذا إجحافٌ وظلم لفئة كبيرة، معروفة، من الأمّة العربيّة. كما أنّه صعبٌ فهو يخضعُ لسلطة لغوية صارمة وديكتاتورية، عليك أن تعرف عدد التفعيلات وأن تحترم القافية وأن تعرف الفرق بين البحر والوزن وأن تنظّم إيقاع التفعيلات. إلخ.. إنّها الأوتوقراطية الشّعرية التي استمرّت سنوات طويلة تتسيّد القصيدة العربية، قبل أن يثور مجموعة من الشعراء الأفذاذ لتخليصها من هذه الأوتوقراطية والاستبداد والتمهيد لظهور الشعّر الحرّ وبداية مرحلة شعريّة جديدة.
الحديث هنا عن نازك الملائكة في قصيدتها المشهورة (الكوليرا)، وبدر شاكر السّياب في قصيدته (هل كان حبّا)، بعد ذلك انتشر الشّعر الحرّ مثل إشاعة مع نزار قباني، أدونيس، محمود درويش، أمل دنقل، فدوى طوقان، وغيرهم من الشعراء الذين لم ينحنوا لسلطة القافية والوزن والبحر(…). ثم جاءت قصيدة النثر لتفتح مجالاً واسعاً وكبيرا للحريّة والإبداع، بحيث أصبح في إمكان الشّاعر قراءة قصائده على أمّه وهي تشتري الخضار في السوق وسط الأبواق والزحام، وعلى جدّته وهي تغزل الصّوف وعلى والده وهو يحلّق ذقنه، وعلى ابنة الجيران وهي تكنسُ الزّقاق. إنّها قصيدة النثر القريبة إلى كلّ شيء كحبل الوريد، التي يمكنك أن تقرأها على أيّ كان.
أحترم عدداً كبيراً من الشعراء العرب الكلاسيكيّين، وعلى رأسهم إيليا أبو الماضي، المتنبّي وأحمد شوقي، لكنّني لا أحبّ أشعارهم عدا عدد قليل من الأبيات التي حفظتها عن ظهر قلب وأراها تتناسب مع أذواقي. أنا مجبول إلى الحريّة، وأتوق إلى التحرّر من كلّ السّلطات خاصّة التي اخترعها الإنسان، سواء كان ذلك فيما أقرأ أو أكتب أو أعيش. لا يُمكنني أبداً أن أستكين إلى الشّعر العربيّ القديم، ولا أن أكتب قصيدة اعتماداً على مكوّناته. ليس لأنّي لا أستطيع أو لأنّ فيه خضوعاً لسلطة لغويّة، بل فقط لأنّي أقرأ الشّعر أحياناً على أمّي وعلى قبر جدّتي التي لم تعد أبداً تغزل الصّوف.
الشّعر العربيّ سواءٌ الشّعر العربيّ الكلاسيكيّ القديم أو الشّعر العربيّ الحديث، خرج من المعاناة ومن القسوة، وليست قسوة أو معاناة فرديّة، إنّها قسوة مشتركة وجماعية ومفتوحة أمام الجميع. لا يُمكن لك أبداً وأنت تقرأ للشعراء القدامى الكلاسكيين ألّا تشعر بالوطن وبالأرض وبالتربة وبالدّم وبالديكتاتورية والاضطهاد (إلخ..) ونفس الشيء بالنسبة للقصيدة الحديثة.
دواوين شعريّة عربيّة كثيرة خارجة من المآزق والمآسي والانهيارات وهاربة من الاستعباد والانحناء للملوك والرؤساء والجنرالات، ومستعدّة لأن تقف وجهاً لوجه أمام الدبابات وفوهّة الكلاشينكوف وأن تمدّ عنقها لحبال الشنق. قصيدة واحدة يُمكن للملايين العرب أن يعترفوا بأنّها تكتبهم ما دامت المعاناة دائماً مشتركة ولصيقة في ظلال الجميع.
قد يعبّر الشّاعر في قصائده عن فلان الذي قطعّت يدهُ أو إحدى رجليه، يعبّر مرّات كثيرة ودائماً بألم وحسرة وإحساس كبير بالمعاناة والقسوة، لا يكون في الحقيقة هذا الشخص هو الوحيد الذي قطعّت يده أو رجله بل ألاف الأشخاص وبدءاً من الشّاعر قطعّت يدهم أو رجلهم. إنّها معاناة مشتركة وجماعية خاصّة في الدّول التي تعيش على وقع الحروب والثورات والصراعات الشبه الأزلية القديمة التي أصبحت رقعها الجغرافية تتسع كثقب الأوزون. حينما مثلا تتحدّث عن الشّعر الفلسطينيّ قد تكون قصيدة واحدة كافية للتعبير عن ملايين الفلسطينيين، شخصٌ استشهد بعد منازعات مع جيوش الاحتلال ثمّ استشهد مرّة ثانية في قصيدة على يد شاعر، لا يُمكن لك أبداً أن تقول أنّ هذا الشخص فقدته أسرته فقط، بل فقدته كلّ أسر وأمهّات الأوطان العربيّة. لكنّ هذا للأسف لا يحدث، والشّهيد تفقدهُ فقط أسرته وتربته وقضيته الفلسطينية. مع ذلك لا زال الشّعر العربيّ يعبّر عن معاناة مشتركة، جماعية، ولا تستثني أيّ أحد، ولا زال أيضاً يواصل خروجه من الصّمت والدّماء والديكتاتورية والاضطهاد ومن الصبّار والكرز ومن فوّهات الأسلحة النارية ومن الربيع العربيّ الذي لا زال يزحف في اتجّاه رقع مجهولة مصحوباً بتاريخ قديم من الظلم والفقر والفساد والتهميش.
في الحقيقة لا أفضّل أن تكون للدواوين والمجموعات الشّعريّة العربية أسماء لأصحابها، إنّها ليست دواوين فرديّة ولا تعبّر قصائدها عن حالة واحدة سقطت فجأة من الغربال، بل إن هذه الدواوين والمجموعات يجب أن تكون في اسم الجميع أو أن تكون بلا اسم، وهذا أيضاً يكفي ليعرف الجميع أنّ هذه المجموعة الشعرية هي مجموعة عربية حتّى إن كانت مكتوبة بلغة أخرى غير اللّغة العربية. وما دامت القصيدة العربية الحديثة وإن كانت تأخذ أشكالاً جديدة عاجزة عن الخروج من حالة نفسيّة واحدة، فلا يُمكن الحديث أبداً عن دواوين أو مجموعات شعرية باسم فلان أو باسم آخر